الجمعة 22 نيسان (أبريل) 2011

أميركا الثابتة والشرق الأوسط المتغير

الجمعة 22 نيسان (أبريل) 2011 par د. سمير كرم

من أصعب الامور في الظروف الراهنة العثور على نقطة ثابتة في الشرق الاوسط لاتخاذها محورا أو معيارا لقياس التطورات الخطيرة ـ انما الواعدة ـ التي تتوالى على هذه المنطقة.

صحيح ان التيار الثوري اجتاح المنطقة من مغربها الى مشرقها ومن شمالها الى جنوبها ... إلا ان التطورات ـ والتقلبات ـ لا تزال في بداياتها الاولى، حتى في أكثر بلدان المنطقة استقرارا نسبيا. فلا تزال مرحلة النتائج، فضلا عن النتائج النهائية، تلوح بعيدة، بل تلوح مستعصية على التكهن وعلى الفهم.

وحيث تدور التطورات في مصر وتونس وفي ليبيا واليمن وسوريا، وحيث تلوح هذه التطورات من بعيد قادمة وحتمية في الخليج وفي السعودية ... فإن عجلة الاحداث تستعصي على التوجيه إلا من القوى الرئيسية الفاعلة، قوى الجماهير الشعبية بصرف النظر عن كل ما عداها.

أما حيث تتم مراقبة هذه التطورات من بعيد ـ في الولايات المتحدة وفي أوروبا (التي أصبحت فجأة تعني حلف الاطلسي اكثر مما تعني الاتحاد الاوروبي) فإن هناك نقاط مراقبة ثابتة تتمثل في القيادات السياسية، من البيت الابيض الى وزارات الخارجية الى السفارات الاميركية والاوروبية، كما تتمثل في القوى العسكرية، ابتداء من وزارات الدفاع وقيادات القوات المسلحة وقيادات الحلف الذي يكتسب أكثر وأكثر طابعا عالميا. وينبغي عند مراقبة هذه النقاط الثابتة ان نظن ان ثمة تغييرا في المبادئ والاهداف يواكب التغيرات التي تجري في اخطر منطقة في العالم. ينبغي ان لا نعتقد ان الولايات المتحدة او اوروبا ستغير مساراتها مع تغير مسارات التيار الثوري الذي بدأ في المنطقة ولا يعرف احد الى اي خط يستقر.

ان هذه الكتلة الغربية الكبرى المؤلفة من الولايات المتحدة واوروبا لا تتغير وهي ترقب التغيرات المزلزلة التي تجري في منطقة المد الاستراتيجي بالطاقة ـ المنطقة العربية والشرق الاوسط كتعبير اعم ـ فلن تغير أي من مكوناتها مبادئ سياساتها الخارجية أو أسس أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية ولا حتى أبعاد رؤيتها الثقافية للامور. وقد نستطيع ان نجزم بأن مصالح هذه الكتلة السياسية العسكرية في الغرب تبقى كما هي بصرف النظر عن التغيرات التي ستؤدي اليها تيارات الثورة والتغيير في عالمنا.

لقد ظلت الولايات المتحدة على مدى الفترة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تؤكد تأييدها ودعمها للديموقراطية في بلدان الوطن العربي، حتى حينما كانت هذه البلدان تعيش في ظل النظم التي تسلمت الحكم من الاستعماريين، وكانت نظما استبدادية بكل المعاني والتبعات. وأكدت الولايات المتحدة انها تؤيد الديموقراطية وتدعمها عندما قامت ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 التي لم تعتبر لسنوات عديدة الديموقراطية هدفا اوليا لها. ولم تغير الولايات المتحدة لهجتها نفسها بعد ثورة العراق (1958) أو ثورة اليمن (1961) وثورة الجزائر (1963) وليبيا (1969)... وفي مواجهة كل التطورات التي جدت في المنطقة.

واليوم لا نسمع من الولايات المتحدة سوى التعبيرات نفسها عن وقوفها في صف الديموقراطية ودعمها لما تتطلع اليه شعوب المنطقة من تقدم... على الرغم من الاختلاف النوعي بين ظروف العقود السابقة وظروف الوقت الراهن التي ترى جماهير الشعب العربي تؤدي بنفسها الدور الذي كان يؤديه عنها طالبو الحكم من كل نوع.

قبل ايام تحدثت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلنتون امام المنتدى العالمي الاميركي الاسلامي في واشنطن. قالت ان على الحكومات العربية ان تسرع بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، وحذرت من انه بدون السير في هذا الطريق فإن الربيع العربي سيتحول في نهاية المطاف الى سراب. وقالت الوزيرة الاميركية ان الشتاء العربي الطويل بدأ يعرف طريقه الى الدفء وللمرة الاولى منذ عقود، فإن هناك فرصة حقيقية لتغيير دائم ... وهذا يثير اسئلة مهمة لنا جميعا: هل ستنهج شعوب الشرق الاوسط والشمال الافريقي وزعماؤها نهجا جيدا اكثر شمولا للتغلب على التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستمرة في المنطقة؟

وحثت وزيرة الخارجية الاميركية كلينتون شعوب منطقة الشرق الاوسط على «ترسيخ المكاسب الديموقراطية التي تحققت في الاشهر الاخيرة لضمان ان لا تصبح أهداف الحركات الاصلاحية التي اجتاحت المنطقة سرابا ...ان الاحتجاجات التي اندلعت هذا العام بددت الخرافات القائلة بأن العالم العربي لا تناسبه الديموقراطية والحقوق العالمية».

وليس أوضح في تصريحات هيلاري كلينتون هذه من تجنبها استخدام كلمة ثورة في الحديث عما يجري في المنطقة من تحولات. لكن من الواضح ايضا انها تستخدم النغمة الاميركية الثابتة عن تأييد بلادها للديموقراطية ورغبتها في ان ترى الديموقراطية تزدهر في هذه المنطقة. ولا يكاد المرء يصدق ان دعم الولايات المتحدة لرئيس اليمن علي عبد الله صالح ضد ثورة الجماهير اليمنية الى آخر وقت ممكن هو ضمن التأييد الاميركي للديموقراطية. لا يمكن أحداً ان يصدق ان الحماية العسكرية التي تكفلها الولايات المتحدة للنظام الملكي السعودي وكذلك للنظم الملكية والاماراتية الخليجية هي ايضا مواكبة لمسار الديموقراطية الذي تدعو اليه واشنطن بلسان وزير خارجيتها وايضا بألسنة الناطقين باسم البيت الابيض والبنتاغون بل بلسان الرئيس اوباما ونائبه جوزيف بايدين.

غير ان المسألة لا يمكن ان تكون مسألة تصريحات أو كلمات تلقى. ان الولايات المتحدة تستخدم كل ما لديها من قوة للتأثير أو التغيير للحيلولة دون ان تستمر الثورة في مصر وتنجح وتكون للشعب المصري الكلمة النهائية بشأن من يحكم والاسس التي يقوم عليها الحكم في مصر. وأول ما تحاول الولايات المتحدة استخدامه قوة المال. انها تعرض على مصر أموالا في صورة قروض وفي صورة إلغاء قروض وفي صورة منح مالية لا ترد، انما تربط مصر بالولايات المتحدة، ربما أكثر مما ربطها بها نظام حسني مبارك. لهذا تحدثت كلينتون ايضا في الخطاب نفسه عن مبادرة جديدة لمساعدة الشركات الاميركية على الاستثمار في المنطقة او تسهيل عمليات الاستيراد والتصدير من خلال إعفاءات ضريبية. ولا تكاد كلمات كلينتون تختلف كثيرا في مضامينها وتحفيزها عما كان يردده رجال الاعمال في نظام مبارك (...)

واشنطن تريد ان لا تتخطى التغييرات في مصر حدود الاصلاح، وهي تعرف جيدا وبدقة الفرق بين الاصلاح والثورة. حتى لو انتهى الامر الى حكم اسلامي يتولاه الاخوان المسلمون ـ الذين تفاوضهم اميركا منذ سنوات طويلة حتى وهي تحتضن تماما نظام مبارك - لا يهم ان يقفز الاخوان المسلمون أو السلفيون من أي نوع على السلطة انما هم يطمئنون الى ان الحكم الديني في مصر لا يتخطى حدود الاصلاح نحو الثورة، وهذا هو المطلوب. عندئذ لن تكون حالة المصالح الاميركية في مصر في مواجهة مع خطر الثورة، وهي تستطيع ان تلعب دورها كاملا في صيانة مصالحها وصيانة النظام بدرجة لا تقل عما فعلته طوال سنوات حكم مبارك.

ولا يكاد يختلف اسلوب واشنطن مع تونس عن اسلوبها مع مصر. في كل الاحوال المحاولة هي الابتعاد عن مفهوم الثورة ودوافعها وأهدافها. والدولة الدينية لا تشكل خطرا على المصالح الاميركية ما دامت العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية مضمونة ومصانة. وفي كل الاحوال ان الولايات المتحدة لا تستطيع الاستغناء عن سياسة احتواء المنطقة، واحتواء المنطقة كوسيلة انما يرمي الى تحقيق هدفين: حماية وجود وتفوق «إسرائيل» باعتبارها الضامن للسيطرة العسكرية الاميركية (والاطلسية من الآن فصاعدا) وتوظيف العلاقات الاميركية مع دول المنطقة لحماية المصالح الحيوية الاميركية بمعناها الاستراتيجي. ولهذا المعنى الاستراتيجي جانبان: الجانب العسكري الذي يضمن وجود وهيمنة الاسطولين الاميركيين الخامس (في الخليج) والسادس (في البحر الابيض المتوسط) والجانب المتعلق بضمان استمرار تدفق الطاقة التي تمثل شريان الحياة الرئيسي للاقتصاد الاميركي، بل للحياة الاميركية.

معنى هذا ان الولايات المتحدة لا تريد تغيير خياراتها انما تثبيت خيارات المنطقة قدر الامكان. ان الولايات المتحدة لا تبحث عن خيارات جديدة لاستراتيجيتها السياسية والعسكرية انما تسعى وبكل ما تملك من وسائل لوضع حدود للتغيير الذي بدأ في المنطقة لكي لا يسير في اتجاه الثورة وبقوتها، انما ليبقى في حدود الاصلاح الذي لا يؤثر على المصالح الاميركية (و«إسرائيل» على رأسها) ويبقي لحلف الاطلسي قدرة المناورة العسكرية التي يمكن ان تكون ساخنة وبالذخيرة الحية كما هي الحال حتى هذه الساعة في ليبيا، كما يمكن ان يكون بمجرد الوجود العسكري الذي يتخذ في بعض الاوقات صورة المناورات العسكرية المشتركة.

هل تبدو الظروف الراهنة مؤاتية للولايات المتحدة وهذا التكتل الغربي؟ ام انها تبدو مؤاتية أكثر للثورات العربية؟

انه صراع اكيد وحاد بين التغيير والثبات وقد يقصر هنا ويطول هناك ولكنه صراع لن يتوقف ابدا. وسيأتي وقت تدرك فيه الولايات المتحدة ان مصالحها الاستراتيجية تستوجب التدخل المباشر ضد الثورات ـ حينما يحين دور السعودية والدلائل اليومية رغم القمع والتكتم تدل على ان الثورة آتية لا ريب فيها ـ وسيكون لهذا التدخل المباشر دوره في تأجيج الثورة في الخليج كله. وعند هذا الحد ستجد الولايات المتحدة نفسها أمام التحدي الايراني الذي كشفت الاسرار (ويكليكس) مؤخرا ان الولايات المتحدة و«إسرائيل» اتخذتا قرارا سريا بعدم جدوى التدخل العسكري فيها. وقد برهنت التجربة - بل التجارب المتعددة - بوضوح على ان الولايات المتحدة لا تستطيع التدخل في جبهة لها هذا العرض الجغرافي الاستراتيجي تمتد من السعودية الى صغار الدول في الخليج الى ايران بينما هي مشغولة بثورات تستكمل نموها في الشمال الافريقي ابتداء من مصر وصولا الى الجزائر والمغرب وفي الغرب الآسيوي ابتداء من اليمن جنوبا الى سوريا شمالا.

ان التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة في المنطقة، خلال الاشهر بل السنوات المقبلة، هو تحد من نوع واتساع لم تألفه الولايات المتحدة منذ تحدي الحرب العالمية الثانية ... أي لم تألفه منذ ان تكونت الامبراطورية الاميركية. وينبغي ان لا ننسى انه في ظن الولايات المتحدة انها أسهمت بدور ما في بعض ـ على الاقل بعض ـ الثورات العربية وانها تعرف قادتها وعناصرها المكونة. وهذا يجعلها مستعدة للاعتقاد أنها قادرة على التأثير في مسارها. وليس هذا أكثر من وهم لا يستند الى حقيقة. فإن تفاعلات الثورة هنا وهناك قادرة على تجاوز الدور الاميركي بقدر ما كانت قادرة على ان تمنع الولايات المتحدة من ان ترى بوادر هذه الثورات قبل ان تتفجر.

كما ذكرنا في البدايات فإن الثورات العربية لا تزال في مراحل البدايات، تخوض صراعات ضد الثورة المضادة الداخلية وليس الوقت حتى الآن وقت مواجهة الثورة المضادة الخارجية.

وحينما تبدأ مرحلة النتائج في هذه الثورات على اختلاف درجات الوعي الثوري والشرعية الثورية فيها فسيكون من الممكن معرفة الى أي حد تؤاتي الظروف للثورات العربية لإحداث التغيير، أو تؤاتي للولايات المتحدة للتحكم في مدى التغيير ان لم يكن منعه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2181694

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2181694 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40