الخميس 21 نيسان (أبريل) 2011

«الثورة الثالثة» تحاكم مبارك

الخميس 21 نيسان (أبريل) 2011

يترقب ملايين المصريين والعرب تقريراً نهائياً للطب الشرعي في مصر، من المتوقع صدوره بين عشية وضحاها، ليوضح بعد أسبوعين من الانتظار الحقيقة كاملة للحالة الصحية للرئيس السابق حسني مبارك، وهو التقرير الذي من شأنه أن يحسم كثيراً من الأمور التي لا تزال عالقة حتى اليوم، فإما أن يظل المتهم رقم واحد على لائحة اتهام الثورة المصرية، حبيساً في غرفة طبية معقمة في انتظار رحمة السماء، وإما أن يثبت التقرير استقرار حالته الصحية، ليتم نقله على الفور إلى سجن طرة، لينضم إلى نجليه ومن قبلهما باقي وزراء حكومته الأخيرة، في سابقة لم تشهدها مصر، كان مجرد تخيلها قبل ثورة 25 من يناير الماضي، ضرباً من الخيال.

المؤكد أن يوم الثالث عشر من إبريل/ نيسان من عام ،2011 سوف يدخل التاريخ المصري والعربي الحديث من أوسع أبوابه، فهو اليوم الذي شهد صدور أول قرار بالحبس بحق رئيس عربي سابق، عندما أصدر النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، قراراً يقضي بحبس مبارك ونجليه علاء وجمال لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيقات التي تجري معهم بمعرفة النيابة، وقد نفذ القرار في ما يتعلق بنجلي مبارك بعد ساعات من صدوره، لينتهي بهما المطاف في زنزانة ضيقة داخل سجن طرة، فيما حالت الظروف الصحية للأخير، دون تنفيذ القرار مؤقتاً حتى كتابة هذه السطور، وإن ظلت الغرفة التي يقيم فيها في مستشفى شرم الشيخ الدولي تحت حراسة مشددة، تطبيقاً للإجراءات القانونية المتبعة في مثل هذه الحالات.

[**نهاية عصر*]

على سرير أبيض بالقرب من جهاز لقياس نبضات القلب، يقضي الرئيس المصري السابق حسني مبارك أيام حبسه الاحتياطي، غير مصدق ما يجري من حوله، وهو الذي قضى نحو ثلاثين عاماً في قصر الرئاسة حاكماً لأكبر دولة عربية، قبل أن تدفعه «الثورة الثالثة» التي شهدتها مصر في عصرها الحديث، إلى التخلي عن مهام منصبه، وتسليم زمام الأمور في البلاد إلى الجيش.

يبدو مبارك في تلك الأيام إلى حد كبير أقرب ما يكون إلى جنرالات روايات ماركيز الغرائبية، عندما يلوذون بذواتهم، في انتظار مصيرهم المحتوم الذي لا يأتي سريعاً ولا مريحاً، إذ ربما تكون تلك هي المرة الأولى التي يتعرض فيها حاكم مصري إلى المحاكمة من قبل الشعب، على الأقل منذ دولة محمد علي التي تناوب على حكم مصر بعدها أربعة عشر حاكماً، فعندما ثار المصريون في نهايات عام 1805 على حاكمهم خورشيد باشا، وحاصروه داخل قصره بالقلعة لمدة خمسة وأربعين يوماً، انتهى الأمر إلى عزل الوالي العثماني، وتنصيب محمد علي باشا والياً على البلاد.

لم يحاكم المصريون خورشيد باشا على ما اقترفه بحقهم طوال فترة حكمه التي لم تزد على عام واحد، واكتفوا بترحيله عن البلاد، تماماً مثلما دفعت التظاهرات الإيرانية الشعبية في 16 يناير/ كانون الثاني من عام 1979 بالشاه رضا بهلوي إلى الفرار إلى مصر، ليضع بهروبه كلمة النهاية للنظام الإمبراطوري الذي ظل يحكم إيران عقوداً من الزمان.

في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1989 ألقى الثوار في رومانيا القبض على الدكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته، بينما كانا يحاولان الفرار من البلاد، إثر اندلاع الثورة الرومانية التي استهدفت الإطاحة بالنظام الحاكم.

لم يكن أمام تشاوشيسكو وزوجته سوى الفرار من البلاد أمام ثورة الغضب التي اندلعت في أعقاب إطلاق قوات الأمن النار على الثوار ما أدى إلى سقوط أكثر من ألف قتيل، وقد حاول تشاوشيسكو وزوجته ايلينا الفرار على متن مروحية، إلا أن الثوار نجحوا في القبض عليهما وإعدامهما بعد محاكمة سريعة لم تستغرق سوى أيام.

[**الأيام الأخيرة*]

الثابت أن قصة إعدام تشاوشيسكو وزوجته على هذا النحو، لعبت دورا كبيرا في قرار الرئيس المصري السابق التخلي عن السلطة على هذا النحو الذي جرى، وقد ظهر ذلك بوضوح في الشهادة التي قدمها للتاريخ حسام بدراوي أمين عام الحزب الحاكم سابقا، عندما سجل في مفكرة شخصية وقائع تلك اللقاءات الخاطفة التي جمعت بينه وبين مبارك في أيامه الأخيرة في قصر العروبة، ومن أهمها ذلك اللقاء المواجهة الذي دار بين الاثنين صباح الأربعاء 9 فبراير/ شباط الماضي، وواجهه خلاله بدراوي بحقيقة ما يجري في الشارع.

لم يكن قد مرّ على تولي حسام بدراوي مسؤولية إنقاذ الحزب الحاكم في مصر (سابقاً) عندما حدثت تلك المواجهة سوى ثلاثة أيام فقط، لكن حالة الغليان التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة دفعت بدراوي إلى الحديث على نحو مباشر عن السيناريو الأسوأ الذي قد تتعرض له مصر، إذا ما أصرّ مبارك على البقاء في منصبه، وقد كان هذا السيناريو هو نفسه ما حدث مع تشاوشيسكو.

ويقول بدراوي عن تلك اللحظات : برغم تفهم مبارك للموقف، وموافقته على قبول التنحي في نفس اليوم الأربعاء 9 فبراير، فإن دائرة الشر التي أحاطت به أقنعته برفض التنحي، وبينما كانت قراراته وخطبه تسير بسرعة السلحفاة، كانت الثورة تتحرك بسرعة الـ «فيسبوك» والـ «تويتر»، ففي ظهر 11 فبراير وصل الثوار إلى القصر الجمهوري، فيما عرف حينذاك بـ «جمعة الزحف»، واشتعلت الأجواء بين أكثر من خمسة آلاف شاب أصروا على اقتحام القصر من جهة، وقوات الحرس الجمهوري التي كانت على أهبة الاستعداد من جهة أخرى، وقد مضت لحظات عصيبة قبل أن يقف أحد جنود الحرس ويرفع علم مصر، بينما أنزل زملاؤه الآخرون أسلحتهم ووجهوا مدافع دباباتهم ومدرعاتهم للخلف باتجاه القصر الجمهوري، وراحوا يلوحون للمتظاهرين، بينما كانت طائرة عمودية تنطلق بسرعة من باحة القصر إلى مكان غير معلوم.

في مساء ذلك اليوم العاصف خرج النائب عمر سليمان ليعلن عبر شاشة التلفزيون المصري «تخلي الرئيس السابق عن منصبه وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمهمة إدارة شؤون البلاد» ليضع بذلك الخطاب القصير النهاية التي انتظرها ملايين المصريين الذين تدفقوا إلى الشوارع والميادين في نوبات فرح هستيرية احتفالاً بنهاية أزهى عصور الفساد في مصر.

[**سنوات من الفساد*]

ربما يقضي المصريون وقتاً طويلاً كي يفهموا ما الذي أوصل مبارك إلى تلك النهاية الدرامية، وهو الذي بدأ حياته السياسية معهم على نحو مختلف للغاية، عكسته عشرات التصريحات التي أطلقها في أيام حكمه الأولى والتي أكد خلالها حسبما ذكرت صحيفة «مايو» الناطقة باسم الحزب الحاكم في عددها الصادر في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1981 : «لن أرحم أحدا يمد يده إلى المال العام حتى لو كان أقرب الأقرباء، فأنا لا أحب المناصب ولا أقبل الشللية، وأكره الظلم ولا أقبل أن يظلم أحد وأكره استغلال علاقات النسب».

وعلى مدى السنوات الثلاث الأولى لحكمه ظل مبارك يردد في غير مناسبة، وللعديد من الصحف المحلية والدولية التي تسابقت للحوار مع الرجل الذي خلف السادات، أن «الكل سواء عنده أمام القانون»، وأنه «لا يقبل الوساطة وسيعاقب لصوص المال العام»، وأن «مصر ليست ضيعة لحاكمها»، قبل أن يطلق في العام التالي لفترة حكمه التي استمرت لثلاثة عقود قولته الشهيرة في مجلة «المصور» : «الكفن مالوش جيوب».

على مدى سنوات حكمه العشر الأولى، ارتبط مبارك في ذاكرة المصريين ببزته الصيفية البسيطة وحركته الدؤوبة في مختلف أقاليم البلاد، قبل أن تبدأ تلك الصورة بالاختفاء تدريجياً، مع قسوة الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تعرضت لها مصر في التسعينات، بل وتأخذ بالتلاشي مع بداية الألفية الجديدة التي تزامنت مع أول ظهور سياسي لنجله الأصغر جمال، وما صاحب هذا الظهور لاحقاً من ملفات أسطورية للفساد، بلغت ذروتها عندما وقف أحد النواب تحت قبة البرلمان في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2007 ليصرخ وهو يلوح بأكوام من المستندات الرسمية، متهما الحكومة بإهدار ما يقرب من 800 مليار جنيه، بعد موافقتها على تخصيص مساحات شاسعة من أجود الأراضي المصرية، تقدر بنحو 16 مليون فدان لكبار المسؤولين بالدولة ورجال الأعمال الذين يدورون في فلكهم.

في العاشر من إبريل الجاري، وبعد فترة صمت استمرت قرابة شهرين، أطل مبارك بصوته على الجميع عبر قناة «العربية» في رسالة مسجلة، سعى خلالها إلى تبرئة ذمته المالية وأسرته من أي فساد مالي، وبحسب مراقبين فقد حاول الرئيس السابق أن يستدر عطف المصريين بالحديث عما وصفه بـ «الحملات الظالمة والادعاءات الباطلة التي تستهدف الإساءة إلى سمعته والطعن في نزاهته ومواقفه وتاريخه العسكري والسياسي»، غير أن اللهجة التي تحدث بها عبر هذا الشريط الصوتي والتي لم تخل من «أسلوب رئاسي» جاءت بنتائج عكسية تماما، خاصة وأنها لم تخل من تهديد واضح بـ «مقاضاة» كل من اعتبره مبارك «تعمد النيل منه ومن سمعته ومن سمعة أسرته بالداخل وبالخارج».

الثابت أنه لم تمض سوى دقائق معدودة على بث هذا الشريط الصوتي حتى أعلن النائب العام المصري المستشار عبدالمجيد محمود «استدعاء الرئيس السابق ونجليه علاء وجمال للتحقيق معهم في اتهامات تتعلق بصلتهم بإطلاق النار على متظاهرين أثناء ثورة يناير، ما أدى إلى مقتل نحو 800 شخص وإصابة أكثر من خمسة آلاف آخرين بجروح»، ولم يمض سوى يومين آخرين حتى خضع مبارك لأول جلسة تحقيق أمام النيابة العامة.

[**لائحة الاتهام*]

في الثاني عشر من إبريل الجاري توجه وفد من النيابة العامة إلى مدينة الطور التابعة لمحافظة جنوب سيناء، حيث تم استدعاء الرئيس السابق للمثول أمام قاضي التحقيق من مقر إقامته في شرم الشيخ، بعد تعثر استدعائه في القاهرة لأسباب تتعلق بتوفير التأمين اللازم لوصوله إلى العاصمة، وبحسب ما ذكرته مصادر قانونية فقد تعرض مبارك لأزمة صحية عنيفة، عندما وجهت له النيابة اتهامات تتعلق بالفساد السياسي والمالي، واستغلال ابنيه نفوذه في تحقيق ثروات طائلة، وقد انتهت الجلسة الأولى للتحقيق لينقل بعدها مبارك بساعات إلى مستشفى شرم الشيخ الدولي إثر إصابته بهبوط حاد في الدورة الدموية.

ربما لا يملك أحد تقديراً حقيقياً لثروة مبارك التي يجري التحقيق معه بشأنها، وإن كانت تقديرات تذهب إلى أنها تفوق الـ 30 مليار جنيه إسترليني مودعة في عدد من البنوك الأجنبية، وفي صورة استثمارات وسبائك وعقارات في لندن ونيويورك وباريس وبيفرلي هيلز، ويقول كثير من المراقبين في مصر إن فترة الشهرين التي استبقت استدعاءه للتحقيق كانت كفيلة بأن يخفي الرئيس السابق هذه الثروة الحرام وأن يضع أصولها بعيداً عن متناول المحققين.

ويقول كثيرون إن مبارك ربما يفلت من الاتهامات المتعلقة بتكديس الثروة الحرام، إذا لم تقدم النيابة أدلة قوية تقنع المحكمة، لكن ذلك لا يعني أنه سوف يفلت من الاتهام الأخطر وهو المسؤولية السياسية وربما الجنائية عن قتل ما يقرب من ألف شهيد خلال الأيام الأولى للثورة، وهو الاتهام الكفيل وحده إذا ما ثبت بالأدلة والبراهين الدامغة بأن يضع حبل المشنقة حول عنقه، أو على الأقل، قضاء ما تبقى له من عمر خلف أسوار السجون.

- **المصدر : صحيفة «الخليج» الاماراتية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165448

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165448 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010