الأربعاء 20 نيسان (أبريل) 2011

في الموقف من الثورات الشعبية

الأربعاء 20 نيسان (أبريل) 2011 par منير شفيق

يندر أن يكون هنالك أحد ممن يقوّمون الثورات المندلعة في عدد من البلدان العربية يُنكر أنه إزاء ظواهر جديدة، معقدة، مركبة. وقد تداخلت فيها قوى كثيرة ذات خلفيات متعدّدة وهي ذات رؤى وأهداف متعدّدة.

يُلحظ من تجربتيْ الثورتين التونسية والمصرية كل ذلك الجديد والتعقيد والتركيب والتداخل. ومع ذلك أمكن توحيد القيادات الميدانية تحت هدف واحد هو إسقاط زين العابدين ونظامه في تونس، والإطاحة بحسني مبارك ونظامه في مصر.

ولولا هذا الإجماع على الهدف الواحد المذكور لتمزقت الوحدة الداخلية في قيادة الثورة وكوادرها شذر مذر. ولو كشف كل طرف عن أهدافه الحقيقية وارتباطاته وعلاقاته لما أمكن الاتفاق على الهدف الواحد في كل من الثورتيْن، ولما أمكن للثورتيْن أن تحققا النصر، وتبدآ مرحلة بناء النظام الجديد، أو التخلص من بقايا النظام القديم.

كثيرون من قادة الثورتيْن في الميدان ليسوا من الشخصيات السياسية المعروفة، بل كان أكثرهم من الشباب من دون أن يعني ذلك أنهم لم يحملوا تعدّدًا في تجاربهم وخلفياتهم الأيديولوجية وارتباطاتهم السياسية.

الثورات التي عرفها التاريخ، أو أغلبها، اتسّمت بهذه الظاهرة الجديدة المعقدة والمركبة والمتعدّدة حين كانت ذات طابع شعبي واعتمدت أسلوب الثورة الشعبية السلمية. وانطبق عليها هذا التنوّع والتعدّد والتداخل حتى حين كان لها قيادة أو حزب محدّد المعالم.

كل أطياف المجتمع عادة تشارك في الثورة الشعبية السلمية خاصة حين تثبّت أقدامها في الأرض، وتسير باتجاه الانتصار. وهاهنا لا يستطيع أحد أن يمنع انضمام انتهازيين ومشبوهين ومندسّين إليها، ولا يستطيع أحد أن يعترض على انضمام قيادات من الجيش والأمن والدولة إليها. بل سيكون كل ذلك من عوامل عزل العدو واقتراب الانتصار. بل لا يمكن للثورة إلاّ أن ترحّب به وتسعى إليه.

ولا أحد يستطيع أن يمنع انقلاب قيادات ثورية تاريخيا على الثورة ولا سيما بعد انتصارها. وقد دخلت مرحلة بناء الوضع الجديد.

كل ذلك من سنن الثورات الشعبية، ومن سنن التدافع. فالثورة الشعبية تلد في الشارع، وليس في غرفة ولادة معقمة.

أما ما سيؤول إليه المستقبل بعد انتصار الثورة فلا يُحسم بالصراعات التي ستتولّد في مرحلة اندلاع الثورة ومعارك الوصول بها إلى الانتصار، لأن تفجير الصراعات سوف يشقّ الصفوف في حين يقطع سيف العدو الرؤوس، ومن ثم سيؤدّي بالثورة إلى الفشل.

فهنالك لحظات تمرّ بها الثورة الشعبية السلمية يكون فيها ميزان القوى غير محسوم في مصلحتها وهي عندئذ تكون بحاجة إلى أي عامل يُضمّ إليها، ويضيف إلى قوتها، أو يُضعف عدوّها، لكي تتجنب الانهيار أو لكي تؤمّن الانتصار.

أحياناً تندلع الثورة في وقت غير مناسب أو قبل أن تتوفرّ شروط الانتصار، هنا تجد فئة من الثوريين بل «الأكثر ثورية» ينقلبون على الشعب باللوم والنقد، ويخرجون من الساحة عمليا وقد غسلوا أيديهم من الخطأ الذي وقع في التوقيت، أو في إدارة الصراع (وبعضه بسبب قلة الخبرة). وقد عرف الإسلام في تجربته الأولى المليئة بالدروس والعبر ألوانًا من المعوِّقين والمثبطين والمنافقين، والذين يلومون عندما تميل الريح في الاتجاه المعاكس.

عرفت تجارب الثورات شبيهًا لذلك أيضا، مثلاً اندلع صراع شديد في تقويم كومونة باريس وما ارتُكِب فيها من أخطاء وكذلك حدث في ثورة 1905 في روسيا، وقد غسل بعض «الأكثر ثورية» أو من سُمّوا بـ «الانتهازيين اليساريين» أيديهم مما حدث للثورتين من انتكاسة. وقد انهال عليهم ماركس ولينين بالهجوم الشديد لأنهم تركوا الطبقة العاملة في الثورة تُذبح، ولم يقفوا معها. ولم يدافعوا عن شجاعتها وبطولتها. وقد كان لكل من ماركس ولينين ما يقولانه، ربما أكثر، في نقد ما حدث من نواقص أو أخطاء.

ولهذا عندما نرى الظواهر نفسها تتكرّر في ما عرفته الثورات الشبابية الشعبية في تونس ومصر، ولا سيما في ليبيا واليمن (حيث أصبح الصراع أشدّ تعقيدًا) فنحن أمام سنن ماضية لا محالة مع كل الثورات، وإن اختلفت بالتفاصيل والأسماء والطروحات من حالة إلى أخرى. وبالمناسبة لا يمكن للمرء أن يجد ثورة على قياسه حتى لو كان قائدها. وذلك حين تصبح ثورة شعب.

ففي الثورة الشعبية في ليبيا على الخصوص وقع تدخل عسكري أميركي أوروبي أطلسي بعد أسبوعين من اندلاعها. وذلك بسبب القرار الذي اتخذه القذافي بأن يذهب إلى سحق المدن والبلدات التي انضمت إلى الثورة. ومن ثم عدم التعامل مع الثورة الشبابية الشعبية كما فعل زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر.

وقد تقاطع ذلك مع قرار من قِبَل بعض الأنظمة العربية. وكذلك قرار أميركي أوروبي بعدم السماح للثورات التي راحت تندلع من المحيط إلى الخليج بأن تلقى المصير الذي لقيته الثورتان في مصر وتونس. أي أصبح من المطلوب ترتيب الوضع القادم قبل رحيل الرئيس وسقوط النظام، خصوصًا إذا لم يكن بالإمكان الاحتفاظ بهما مع إجراء «إصلاحات».

فأميركا على الخصوص وجدت نفسها أمام المجهول بعد رحيل بن علي ومبارك، لأن الثورتين في تونس ومصر استمرتا بعد الانتصار. وراحت مطالب الشعب تزيد يوما بعد يوم.

لقد أعلن القذافي، بالصوت والصورة، أنه سيسحق الشعب الذي ثار عليه. وكانت موازين القوى العسكرية في مصلحته: الطائرات والبوارج والدبابات والأسلحة الثقيلة الأخرى. وبدأ بالفعل في عملية الاكتساح والمحاصرة والإثخان بالمدنيين ولا سيما في مصراتة والزاوية والزنتان وحيث ما وصلت قذائفه حتى كاد أن يدخل بنغازي المعقل الأول للثورة.

هذا التطوّر في الأحداث أشرع الأبواب أمام التدخل العسكري الأميركي البريطاني الفرنسي، وإن تغطى بلجوء المجلس الوطني الانتقالي إلى مجلس الأمن وطلب التدخل العسكري، كما تغطى بقرار من مجلس الجامعة العربية الذي خضع لما طلبته أميركا منه.

هنا انقلب بعض مؤّيدي الثورة إلى الشك في قيادتها إلى حدّ اتهامها بالخيانة والعمالة. وبدأت المعلومات والتفاصيل تتناول عددًا من الأفراد حول علاقاتهم السابقة بأميركا والسي آي أي. وبهذا غيّبوا صورة الثورة الشبابية الشعبية العفوية، فعمّم الجزء على الكل، وأصبح بعض الأفراد هم كل قيادات الثورة.

ومن ثم صدر الحكم القاطع بغسل اليدين منها وإدانتها في حين أن مصراتة مثلاً تحت الحصار والتدمير، وهي تقاوم بثوار وشعب سطروا ملحمة ثورية كبرى يجب أن تحسب في رصيد الثورة والأمّة وليس في رصيد أميركا والعملاء.

ومثل مصراتة الكثير من البلدات التي قاتلت وما زالت تقاتل ولا تستسلم حتى بعد أن تبيّن لها أن التدخل الأميركي البريطاني الفرنسي لم يأت لإنقاذ المدنيين ولا للحسم ضدّ القذافي. وقد راح يبتزّ طرفيْ الصراع في حين ظلت دماء الشعب الليبي الذي تجرّأ على الثورة تسيل بغزارة، بل بغزارة أشدّ في ظل التدخل مما كان عليه الأمر قبله. أما القوى العسكرية بيد القذافي فاستمرّت تعمل كالسابق في ظل تدخل طيران الناتو.

وجود قيادات مشبوهة من ضمن عشرات القيادات الشعبية النظيفة يجب ألاّ يصبغ الثورة بها ويطمس وجهها الحقيقي واتجاهها الذي اندلعت على أساسه. وكذلك صدور قرارات ضعيفة أو مرفوضة تصدرها قيادة الثورة، بغض النظر عن الأسباب، لا يجوز أن يذهب بالثورة إلى الإعدام، لأن مثل هذا النهج في التعاطي مع حالة قيادات مشبوهة أو قرارات خاطئة (مثل طلب التدخل الخارجي) يُضيّع اتجاه البوصلة. وقد يحرم الثورة من إمكانات التصحيح، علمًا بأن التدخل الخارجي يثبت دائمًا أنه كان كارثيًّا كما حدث في العراق ويحدث الآن في ليبيا.

الذين يرتكبون هذا الخطأ في الموقف العام يكرّرون ما حدث في ثورة يوليو 1952 لا سيما في سنواتها الثلاث الأولى. وذلك ابتداء من إعلان محمد نجيب قائدًا لها، مرورًا بقيادات فيها ومن حولها وقد أدخل بعضهم بحق في إطار المشبوهين في العلاقة بأميركا أو الميل إليها، وانتهاء بموقف أميركا من الثورة في بدايتها أو بما قبلته الثورة من إدخال «النقطة الرابعة» لمصر أو تلزيم بناء السد العالي لأميركا.

كل هذه دفعت الكثيرين من القوى اليسارية والقومية والإسلامية إلى اتهام الثورة بالأمركة. وبقي هنالك من يحمل هذه الأفكار من بين يساريين وقوميين وإسلاميين ومقاومين فلسطينيين طوال مرحلة الناصرية حتى مشروع روجرز.

ولكن في الحقيقة كانت ثورة يوليو، ومنذ اليوم الأول، ماضية في اتجاهها العام على الضدّ من تلك الاتهامات التي اعتمدت على وجود مشبوهين أو بعض المساومات مع أميركا هنا وهناك.

وهذا ما حدث مع ثورة كاسترو وهي في جبال السيرامايسترا حيث لم تبرأ من وجود أفراد متعاطفين مع أميركا، وربما سي آي أي، أو من دعم أميركي ضدّ باتيستا. والأمثلة أكثر بكثير مما يظنه «الأكثر ثورية» في التعاطي مع الثورة في ليبيا.

من يريدها ثورة من ذهب خالص لا شائبة فيه، أو يريدها ولادة في غرفة معقمة، أو يريدها بلا مساومات، أو بلا تعرّجات، لا سيما إذا كانت ثورة شبابية شعبية مليونية سلمية فليبحث عن ثورة في غير هذا العالم.

المهم الاتجاه العام والنفس العام للشعب وإلى أين يمضي بالمحصلة. وإياكم من التفاصيل. وأدْرَؤوا الحدود بالشبهات.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 43 / 2165788

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165788 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010