الاثنين 18 نيسان (أبريل) 2011

فرضيات بددتها الثورة

الاثنين 18 نيسان (أبريل) 2011 par د. عبد الاله بلقزيز

بدّدت وقائع الثورتين التونسية والمصرية ونتائجهما في البلدين، وفي مجموع الوطن العربي، جملة واسعة من اليقينيات والفرضيات في الوعي السياسي العربي، سواء لدى النخب الثقافية والسياسية المرتبطة بأنظمة الحكم أو لدى المرتبطة منها بالمعارضات، بمقدار ما كشفت عن حدوده الاستكشافية المتواضعة في رؤية ما تحت سطح الواقع المرئي من قوى وعلاقات وإمكانات مضمرة لا تتبين إلاّ للتحليل الثاقب الرصين. مثلت «نازلة» الثورة - إن استعرنا مفردات الفقه - حقل اختبار تاريخي لقدرة الوعي العربي على أن يحسن إدراك الظاهرات، لكن حصيلة فاعليته أتت دون المطلوب، فما أن وقعت الواقعة في تونس، وأعقبتها نظيرتها في مصر، ثم تنقلت بعدها في هذا المِصْر وذاك من أمصار العرب، حتى كان على ذلك الوعي المفتجأ أن يجد نفسه في حال من الذهول لم يبرحها - أو تبرحه - حتى الآن. لنطالع سريعاً بعض ما تبدد من فرضيات حاكمة.

[**استحالة الثورة*]

رسخ في الأذهان، لفترات متطاولة، أن الثورة الاجتماعية والسياسية باتت في حكم الممتنع في الحياة السياسية العربية بعد الإخفاقات المتعاقبة التي منيت بها محاولاتها في الماضي القريب (في سودان ما بعد جعفر نميري مثلاً أو في انتفاضة أكتوبر 1988 في الجزائر ..)، وبعد نجاح النظام العربي في إحاطة نفسه بأسباب القوة والمدافعة التي تحمي سلطانه من احتمالات الثورة عليه. ومما زاد فرضية استحالة الثورة رسوخاً في الوعي العربي أن قواها المفترضة، من يسارية وقومية وتقدمية، تعرضت للتصفية والتبديد في جولات من القمع المنظم والعشوائي في عصر الاستبداديات العربية، منذ عقد السبعينات من القرن المنصرم، وأن فراغاً في القوى نشأ في امتداد ذلك لم تملأه إلا قوى غير محسوبة عادة على معسكر الثورة (قوى التيار الإسلامي). ثم ما لبثت الفرضية عينها أن تعززت أكثر بعد انفراط الاتحاد السوفييتي وانهيار «المعسكر الاشتراكي»، والانتصار الساحق للتحالف الرأسمالي الغربي في الحرب الباردة، وما أعقب ذلك من تراجع حركات اليسار في العالم كله.

على أن أكثر ما كان دوره حاسماً في إنتاج هذه الفرضية في الوعي السياسي العربي هو مفهوم الثورة نفسه في ذلك الوعي. فالذين حسبوا الثورة في حكم الاستحالة، إنما كانوا يفترضونها على مقتضى هندسة نظرية تنزلت من وعيهم منزلة اليقين الذي لا يتبدل، فالثورة عندهم فعل سياسي واجتماعي تنهض بأمره طبقات «ثورية». وهذه تقوم بذلك الأمر متى امتلكت وعيها الطبقي بمصالحها. والوعي هذا وقف على وجود من يحمله إليها وينظمها (الحزب الطليعي أو الثوري).. الخ. وبما أن هذه الهندسة النظرية لا تستقيم واقعاً، أو لا تجد في الواقع ما يشهد لها، وبما أن قوى اليسار والقوى الثورية في حال من الضعف والوهن بحيث لا تقوى على النهوض بأدوار ثورية، نجم عن ذلك حكماً أن أفق الثورة مقفل وإمكانها مستحيل في الواقع العربي.

ومع أن سوابق عديدة أقامت دليلاً، في العقود الثلاثة الماضية، على أن الثورة الاجتماعية ممكنة بمعزل عن هذه الهندسة النظرية العقدية، على مثال الثورات التي حصلت في أوروبا الشرقية وفي أمريكا اللاتينية وإندونيسيا وأوكرانيا وجورجيا، وسددت - بذلك - ضربة موجعة لتلك الخطاطة الافتراضية القائمة على نظرة طليعوية أدواتية للثورة ..، إلا أن الوعي السياسي العربي - ووعي اليسار العربي خاصة - لم يستفد من دروس تلك التجارب ولا اشتق منها الخلاصات المناسبة، بل لم يكد يضعها موضع درس وتأمل على الرغم من عظيم نتائجها ومكتسباتها.

[**الاستثناء العربي والامتناع الديمقراطي*]

لم تكن القوى السياسية التي انتقلت، في العقدين الأخيرين، من فكرة الثورة الاجتماعية إلى فكرة التغيير الديمقراطي لتشك في أن النضال من أجل الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية هو أصوب خيار سياسي في المرحلة التاريخية الراهنة لكف الاستبداد من جهة، بعد أن استشرى في الجسم الاجتماعي فأهلك الحرث والنسل، ثم لفتح الطريق من جهة ثانية، أمام تحول ديمقراطي يعيد تغيير علاقات السلطة ويعيد السياسة إلى مكانها الطبيعي كمجال عمومي غير قابل للاحتكار أو المصادرة من نخبة أو حزب أو عائلة أو فرد .. الخ. غير أن الذين خاضوا في هذا الخيار السياسي الجديد ظلت توقعاتهم في إحداث التغيير الديمقراطي متواضعة إلى حد ملحوظ . ولم يكن تواضعها بسبب ملاحظة حال الاختلال في توازن القوى بين قوى الديمقراطية وأنظمة الاستبداد فحسب، بل أيضاً بسبب ملاحظة ضعف انتشار الثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية والتجدد المثير للأفكار التي تناصب الحداثة السياسية عداء ملحوظاً فترجمها بتهمة اللائيكية والغربة عن «أصالة» فكرة السياسة والسلطة في الإسلام، وتقرن أحياناً بينها والكفر.

ولما كانت البشرية المعاصرة شهدت، في العشرين عاماً الأخيرة، موجتين متزامنتين - متعاقبتين من التحولات الديمقراطية في بلدان شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية أطاحت نظماً كلاّنية (توتاليتارية) وعسكرية فاشية، وفتحت مستقبل تلك البلدان على نظم حكم مدنية منتخبة. ولما كان الوطن العربي قد امتنع مصيره على مثل هذه التحولات، فقد ازدهرت فجأة فرضية «الاستثناء العربي» لدى كثيرين لم يكن الديمقراطيون في جملتهم طبعاً، لكنهم ما كانوا يملكون حجة الرد عليهم بما يدحض الفرضية تلك. كان يسعهم أن يقرأوا في الفرضية تلك مضموناً سياسياً لخطاب رسمي رديء يجهد كي يبرر شذوذ السياسة في البلاد العربية عن أحكام الدنيا، ومحاولة للتيئيس ونشر مشاعر الحبوط في المجتمع، غير أنهم لم يكونوا متأكدين تماماً من أن هذه الحال من الامتناع الديمقراطي تقبل الزوال في الأمد المنظور، فالوقائع أمامهم تشهد بأن قوى الديمقراطية ضعيفة، وجمهور قضيتها محدود، والاصطفافات الاجتماعية تزيد ميلاً نحو التعبير عن نفسها عامودياً لا أفقياً، فيه صورة انقسامات عصبوية : طائفية ومذهبية وعشائرية، والفتن والحروب الأهلية تطل على الاجتماع العربي وتعيد عقارب الزمن فيه إلى ما قبل العصر الحديث.

وبالجملة، كان الحديث عن ثورة ديمقراطية في مثل هذا المناخ يرقى إلى مكابرة لفظية تخفي كل ظواهر الامتناع هذا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2178526

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2178526 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40