الخميس 14 نيسان (أبريل) 2011

محمد بو عزيزي : أيقونة الحرية

الخميس 14 نيسان (أبريل) 2011 par د. سمير التنير

ركعت فوق قبر ابنها، والغبار يحيط بها من كل جانب، وأخذت يدها ترفع الحجاب عن وجهها المتعب الحزين وأخذت تتمتم وهي تتلو الصلاة والدعاء «يا رب.. اشمله برحمتك ولا تدع دمه يذهب هدراً.. يا رب». وتتقدم منها امرأة من مدينتها وهي تقول : «أنتِ أعطيتنا ابنك الذي أعطى الحرية لنا جميعاً».

كان القبر بسيطاً جداً. مجرد قطعة من الإسمنت الرمادي. على حافة مساحة القبور الخاصة بالعائلة وإلى جانبه علم تونسي يرفرف. أتى والده بشاهد مكتوب عليه : «الشهيد محمد بوعزيزي تاريخ الولادة 29 ـ 3 ـ 1984 تاريخ الوفاة 4 ـ 1 ـ 2011».

هنا يرقد محمد بوعزيزي بائع الخضر والفواكه الجوال، الذي أشعل بجسده النار، ومعه اشتعلت النار في العالم العربي.

جاءت الأم والوالد لزيارة القبر. تأخرا ثلاثة أسابيع عن ذكرى الأربعين. كانت الأسابيع ملتهبة بالأحداث. أتى بهم إلى القبر فريق تصوير تلفزيوني. لم تكن الوالدة تستطيع ترك البيت، إذ عندما تتركه تلاحقها كاميرات التلفزيون. لم تكن مخلوقاً طبيعياً. كانت أشبه بشبح إنسان. لقد غيرها الحزن وحولها إلى تمثال من الكآبة، كان الشبان يحملون صورة ابنها كأيقونة للحرية، كمفجر للثورة الكبرى، التي أطاحت دكتاتور تونس وفرعون مصر وحركت الانتفاضات في اليمن والجزائر والبحرين والأردن وليبيا والعراق والبقية آتية، لا ريب.

ترد منوبية بوعزيزي والدة الشهيد على أسئلة الناس والأحباب. يحمل الشبان الثائرون صورة محمد وهم يطوفون الشوارع. لماذا بدأت الثورة في مدينة يملأها الغبار؟ ما الذي تفعله الثورة بالناس؟ لماذا تغير حياتهم؟ ما الذي تخبئه الحرية لهم والتي بدأت للتو؟

عاش محمد بوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد التي تبعد 200 كيلومتر جنوب العاصمة تونس والتي يبلغ تعداد سكانها 140 ألف نسمة. وفي وسطها شارع رئيسي طويل. كانت المدينة منسية تماماً. إذ لا ذكر لها في نشرات الأخبار، حتى عندما تسرد التلفزيونات توقعات الطقس. لم تكن في المدينة اية إشارات أمل لذلك البائع الجوال. من أراد العمل يجده في مصنع الصلصة، والبعض الآخر يبيع بنزيناً ليبياً مهرباً. أما الآخرون فهم هائمون على وجههم في الشارع الكبير، أو في معاصر الزيتون، هم مثقفون ومتخرجو جامعات.. بلا عمل.

كان محمد بوعزيزي يبلغ من العمر 26 عاماً كغيره من الشبان الذين يؤلفون النسبة العظمى من سكان البلدة. كان حلم الشبان الوحيد هو الهجرة إلى أوروبا للعمل هناك. كان الشبان يلبسون ملابس «المودة» الأوروبية التي يشترونها من تجار البالات. وكان محمد يرى في البلدة سيارات تحمل أرقام السيارات الأوروبية. هم مواطنون من البلدة كانوا يعملون في البلدان الأوروبية. وهم يفخرون بذلك. لم يكن محمد يعرف الكثير عن العالم الخارجي. لم يكن يعلم ان الأسعار ارتفعت أضعافاً في بورصات نيويورك ولندن وباريس. كان يعلم انه كلما ارتفعت أسعار المواد الغذائية، أصبح عليه ان يقنن ويختصر من غذاء عائلته.

في يوم 17 كانون الأول عام 2010 وعند الساعة 11,15 كان محمد في ساحة بلدة سيدي بوزيد الرئيسية يدفع بعربته الخشبية التي تحوي الخضار والفواكه، عندما لمح الشرطية فادية حمدي. عندما رأته فادية قررت على الفور وقفه ومصادرة عربته، لكونه لا يحمل تصريحاً من البلدية. بدأ على الفور الشجار بينهما وارتفعت أصواتهما بالصراخ. لا يعرف السكان الذين حضروا تلك المشادة ما الذي حدث بالضبط. سمعوا صوت الصفعات التي انهالت على وجه محمد من الشرطية فادية حمدي. كما شاهدوا الباعة يهربون سريعاً بعرباتهم.

توجه محمد إلى مخفر الشرطة لاستعادة عربته. ثم توجه بها إلى مركز المحافظة. وفي الساعة الواحدة توقف محمد أمام الباب، وكان يحمل بيده قنينة تحمل مادة حارقة (لعلها البنزين) ثم رفع القنينة إلى رأسه وصب منها المادة الحارقة. ثم أشعل النار بواسطة عود ثقاب.

لم يكن محمد ولا فادية يعلمان ان لقاءهما سيكون قدراً يحوّل مجرى التاريخ، ويدفع الناس للخروج من منازلهم إلى الشارع. كان الشجار يكشف سلطة استبدادية، تضطهد وتعذب مواطنيها دون ان تسمح لهم بالعمل في أشق الأعمال وأصعبها.

عندما كانت النار تلتهم جسد محمد بوعزيزي، كانت أمه تعمل في معصرة لزيت الزيتون مقابل 4 دنانير في اليوم، أي اقل من 2 يورو، أقل من 3 دولارات. وعندما أبلغها صاحب العمل ان ابنها محمد مريض، عرفت ان أمراً خطيراً قد حدث.

كان بن علي يبعث في كل يوم بفرق جديدة من الشرطة إلى البلدة. وكان الشبان يشتبكون معها في معارك لا نهاية لها، وهم يحملون صور محمد. وقد امتدت التظاهرات إلى كل مدن الريف. وفرق الشرطة تتزايد أعدادها يوماً بعد يوم.

في 28 من كانون الأول زار الديكتاتور محمد بوعزيزي في المستشفى ودعا أمه إلى القصر الرئاسي. وأرسل وفداً قضائياً للتحقيق في حوادث سيدي بوزيد. وقد قرر القضاء حبس فادية حمدي في سجن قفصة. كان الديكتاتور يريد تهدئة الناس. ولكن الوقت جاء متأخراً جداً، إذ توفي محمد بوعزيزي يوم 4 كانون الثاني عام 2011. وبعد 10 أيام أي في 14 من الشهر نفسه هرب بن علي مع عائلته إلى جدة، في المملكة العربية السعودية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2178305

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178305 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40