من يُعيد قراءة بعض الكتب التي صدرت بعد الحرب الأهلية في لبنان قبل أكثر من عشرين عاماً وقد كُتبت بأقلام كتّاب عرب عايشوا وعاشوا ويلات تلك الحرب في بيروت الجميلة التي لا تستحق إلاّ تحية الشعر ورائحة الوردة .. يصاب بالذعر من ظاهرة دموية كانت سائدة في بعض أحياء تلك المدينة التي هي بمرتبة تحية يومية للبحر الأبيض المتوسط، فقد وضع ناقد سينمائي معروف مثل عدنان مدانات بعض المشاهد اليومية في كتاب صغير أشبه بتقرير فيلمي على شكل شريط مصوّر ولكن بالكلمات تظهر فيه بيروت مدينة أسيرة تحت الحرب، خصوصاً في اجتياحات «إسرائيلية» لها ظروفها السياسية في وقت كان فيه لبنان، رغم كل ذلك الدمار، قوياً وصبوراً بحيث يكتب الكاتب، وتُقال القصيدة في الصباح مع فنجان القهوة، ويمضي العاشق إلى المقهى مع صديقته وقصيدته على حدّ سواء .. لكن كان دائماً فوق أسطح البنايات مجموعة من القنّاصة الذين يستخدمون السلاح لالتقاط أرواح الناس بأقل عدد من الرصاصات.
ومع هذا، فإن بيروت كانت، رغم عيون القنّاصة، قادرة على تخبئة أهلها وسكّانها في بيوت لا ينقطع فيها صوت فيروز ورائحة الكبة والنعناع، وبقيت الحياة في مدينة الشعر والصحافة والحب أقوى من القنّاص الجبان الذي ما إن تفرغ رصاصات بندقيته حتى تراه وقد تحول إلى متسوّل للحياة، لكي يسامحه قتيله أو تسامحه ضحيته.
الكاتب المصري حلمي سالم عاش في بيروت وكتب هو الآخر بعض اليوميات التي توّثق لمدينة تحب الحياة وتنبذ الموت بكل صوره السياسية وحتى الثقافية، فالموت أحياناً «ثقافي» هو الآخر حتى لو كان في مظهره العام يرتدي قفازات من الحرير.
بكلمة صغيرة .. انتصرت بيروت في مرحلة مؤلمة من تاريخها الماضي على القنّاص وربما جعلته يشعر بالندم، أو بكلمة ثانية .. قد تكون بيروت بثقافتها المدنية الحضارية قد دجّنت القنّاص وامتصت من شرايينه دمه الشرير ثم بصقته إلى الفراغ والنسيان.
نتذكر صورة القنّاص في مدينة الحب والجمال .. الصورة التي تم دفنها في الثقافة اللبنانية إلى الأبد. ونستهجن أو نصاب بالذعر ونحن نرى القنّاصة يعودون مرة ثانية إلى أسطح البيوت في بعض المدن العربية التي يطالب شعبها بالحرية والإصلاح والتغيير.
القنّاصة وصنّاعهم وأساتذة الموت معهم لا يتعلمون من التاريخ الذي يقول إن كل بشاعة من هذا النوع مآلها إلى المحو والرمي إلى القمامة.
RLS
