الأحد 10 نيسان (أبريل) 2011

عظة «النبي صالح»

الأحد 10 نيسان (أبريل) 2011 par د. عبد الحليم قنديل

تقرير أذاعته قناة «الجزيرة» من قرية (النبي صالح) الفلسطينية قدم الجواب الصحيح على أسئلة المأزق الفلسطيني برمتها.

مغزى التقرير أبعد من مشاهد الدراما فيه، فقد بدا أطفال الحجارة غاية في الجرأة والشجاعة، وأقوى من غلظة اعتقال جنود الاحتلال للأطفال، فيما بدت لهفة الأمهات موحية، بالعراك الشرس مع جنود الاعتقال، وباحتمال صبور لأذى التفتيش الهمجي، وبخوف على الأطفال ممتزج بدموع الفخر، وبالطلب الصامت للنجدة، وحيث لا يستمع أحد أو يقرأ، أو يشاهد ويتعظ.

قرية (النبي صالح) في قلب المحنة، وأطفالها على خط النار والحصار، وقرارات الإبعاد جاهزة، والقلوب مشتعلة بجمرة البقاء في الوطن الذي لا وطن غيره، بينما الرئيس عباس مشغول بسفرياته، وبإقاماته الخمس نجوم، وبلقاءاته مع ما يسمى الرباعية الدولية، وبثرثرات لا معنى لها عن مفاوضات لا تجري، ونتائج لا تجيء، وبينما المشهد الفلسطيني الأمامي مشغول بما يسمى حوارات المصالحة، وتبادل الشروط، وتقاذف الاتهامات، والبقاء في وضع الضحية التي تذبح نفسها، وقبل أن تذبحها «إسرائيل»، وتجتث الأطفال من أرض أحلامهم، ومن خضرة أوطانهم.

الطفل الصغير الباسل من عائلة التميمي بيده الحل، بيده الحجارة، واتجاه الحجر صائب تماما، ويحسم جدالا طال حول المطلوب عمله بالضبط، وفي سياق عواصف وثورات تهز المنطقة كلها، وتلم نثار الحروف، وترد الاعتبار لكلمة «انتفاضة»، فليس من حل بغير انتفاضة فلسطينية ثالثة، وبغير رجم الشيطان «الإسرائيلي» بالحجارة المقدسة.

يذهب الرئيس عباس إلى غزة، أو لا يذهب الآن، أو ينتظر حتى اتفاق «فتح» و«حماس»، لا يبدو كل ذلك مهما، المهم أن يذهب الكل الآن إلى حجارة النبي صالح، إلى انتفاضة مدنية جماهيرية في الضفة والقدس بالذات، إلى مظاهرات بعشرات الألوف، تتطور بعدها إلى تجمعات بمئات الألوف، تعتصم بالشوارع والميادين، تتبارى الفصائل في حشدها، وتتنافس «فتح» و«حماس» على قيادتها، وتبتعث من الموات الفلسطيني حياة جديدة، وتوحد الضمائر على نداء إجلاء الاحتلال، وكنس عملائه، وإزالة خيال المآتة المسمى بدولة أوسلو، التي تستعبد الفلسطينيين أكثر مما تفعل «إسرائيل»، وتطمس نور اليقظة في نفوسهم، وتسد عليهم باب الشمس، وتجعل حياتهم باردة كثلوج القطب الشمالي.

المطلوب ـ إذن ـ اتفاق على نقطة واحدة لا غير، وليس تضييع الوقت في ذهاب وفود ومجيئها، وفي مناقشة تحفظات على ورقة المصالحة، وفي الحديث عن ترتيبات لا ضرورة لها، وعن مواعيد انتخابات تشريعية أو رئاسية، وكلها قصص لاعلاقة لها بهدف إنهاء الاحتلال، ولا بتحرير قطعة وطن نتبارى ديمقراطيا لتنظيم الحكم فيها، لا أن نقيم دولة بغير أرض ولا سيادة، وهذه خطيئة أوسلو كطريقة تفكير، وقبل خطايا التوريط الأمني، وإذكاء التنافس الدموي على كعكة ليست في اليد، وخفض تكلفة الاحتلال «الإسرائيلي» إلى أدنى حد، وتوفير أجواء هادئة مميتة للروح، لا يعلو فيها صوت على صوت الجرافات «الإسرائيلية» التى تهدم ملكوت الفلسطينيين، وتقيم ملكوت اليهود في صورة مستوطنات تعلو وتزحف، ولا تترك للفلسطينيين سوى فتات أرض، يطلبون فيها الإطعام من جوع، والأمان من خوف لا يرحم ولا يتوقف .

نعم، الانتفاضة الفلسطينية الثالثة هي الحل، وباستيحاء مشاهد الجموع في عواصم الغضب العربي، وبما ملكت الأيدي من حجارة الوطن، وبغير قياس بليد لحسابات المكسب والخسارة، فقد تضاعف الاستيطان «الإسرائيلي» مرتين في العام الأخير وحده، والبقاء في ترانزيت الانتظار لا يخدم سوى «إسرائيل»، وتنازع السلطتين في غزة ورام الله لا يضيف سوى لبؤس الفلسطينيين، بينما الانتفاضة توحد، والحجارة ترشد، وكل تطور بالإيجاب في حياة الفلسطينيين على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، كل تطور بالإيجاب لا تصح نسبته سوى لشيء واحد هو الانتفاضة، فقد أعادت الانتفاضة الحديثة الأولى ـ 1987 ـ إحياء قضية الشعب الفلسطيني، وأدت الانتفاضة الثانية ـ 2000 ـ إلى تفكيك مستوطنات غزة، وإجلاء قوات الاحتلال عن ترابها الطاهر، وبين الانتفاضتين، كان الشعب الفلسطيني يعيد اكتشاف قوته الكامنة، ويعيد بناء هويته القومية الجامعة، فالشعب الفلسطيني مشتت في الجغرافيا، نصفه خارج فلسطين كلها، ونصفه الآخر موزع في فلسطين، وفي غرف جغرافيا تبدو منفصلة، غرفة في غزة، وأخرى في الضفة والقدس، وثالثة في فلسطين المحتلة منذ 1948، وجاءت حجارة الانتفاضة الأولى لتقفز على أسوار الانفصال الجغرافي، وتبتعث هوية موحدة للمحاصرين جميعا، وتطور قوة دفع هائلة إلى الانتفاضة الثانية، كان عرب 1948 ـ قبل الانتفاضة الأولى ـ في عالم يخصهم، كان ثمة ارتباط لعناصر بينهم مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكن الصورة العامة لهؤلاء كانت أقرب إلى معنى «الأسرلة»، كان التيار السائد أقرب لمعنى الاندماج في التكوين «الإسرائيلي» اليهودي، وكان كفاحهم جاريا في مسرى ومطالب المساواة في الحقوق المدنية، لم يكن من مطلب قومي ولا طابع قومي لعمل طلائع فلسطينيي 1948، كان التصويت الأغلب لمصلحة «راكاح» وجبهة العدالة والمساواة، وجاءت انتفاضة 1987 لتحدث انقلابا دراميا، استعاد وضوح الهوية القومية العربية للفلسطينيين، وشهد نزوحا كبيرا من أحزاب الاندماج «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني، وتراجعا في نفوذ «راكاح»، وتزايدا في نفوذ جماعات وأحزاب عربية فلسطينية خالصة، كانت الحركة الإسلامية الصاعدة تضاعف نفوذها، وكان حزب «التجمع الديمقراطي» ـ بقوميته العربية العلمانية ـ يتقدم إلى صدارة المشهد، وكان التصويت الفلسطيني في قواعده الأغلب يتجه لمصلحة ممثلية الأبعد عن معنى الأسرلة، والأقرب إلى روح الانتفاضة الموحدة للشعور والوعي الفلسطيني، وبدت حركة الشعب الفلسطيني أقرب إلى وحدة صافية من كل كدر، وامتزج دم الشهداء في معركة واحدة، لا تمييز ولا تمايز بين دم شهداء غزة، ودم شهداء القدس، ودم شهداء الفلسطينيين من عرب 1948، كانت وحدة الدم تنتقل بنا إلى معنى جديد، وتعيد بناء الرابطة الفلسطينية قفزا فوق شتات الجغرافيا، وبرزت أسماء عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح جنبا إلى جنب أسماء ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، بدا هؤلاء ـ وغيرهم ـ كأبناء قضية واحدة، لا أبناء قضايا متعددة تفرقت بها السبل، وهذه بركة المقاومة حتى لو كانت بالحجارة، هذه بركة الانتفاضة التى تزيح الركام، وتجلو الصدأ، وتستعيد أفضل معادن الشعوب تحت الاحتلال، فقضية الشعب الفلسطيني هي قضية تحرير وطني، وليست قضية نزاع على سلطات في أرض لم تتحرر بعد.

والظروف الآن أكثر من مواتية، فقد ولدت أجيال لم تشارك في الانتفاضتين الأولى والثانية، والثورات الهائلة في وسائل الاتصال تمدها بموارد حشد غير مسبوقة الأثر، والبيئة الاستراتيجية تتغير بتداعيات الثورات وعواصف الناس في العواصم العربية، فيما يتواصل العد التنازلي لبقاء نظم البؤس، وقد كانت انتفاضات الفلسطينيين مصدر إلهام آن له أن يستعاد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2178590

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2178590 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40