السبت 9 نيسان (أبريل) 2011

تغيير عربي تاريخي نوعي يستحيل منعه

السبت 9 نيسان (أبريل) 2011 par نصر شمالي

اقتضى نهوض الأمة العربية، الذي نأمل أنّه بدأ، مرور أزمنة طويلة متعاقبة حافلة بالأهوال الداخلية والخارجية، وتطلّب تضحيات جسيمة رهيبة، قدّمتها أجيال عربية عديدة متوالية ومتواصلة، إلى أن تحقّق اليوم ما نظنّ أو نعتقد أنّه التراكم التاريخي الضروري الذي لا تنهض الأمم قبل تحقّقه، والذي يفترض أنّه بلغ حدّاً أصبح معه مؤهّلاً للتحوّل من تراكم كمّي مضمر وكامن إلى تغيير نوعي معلن وسائد. وإنّه لبديهي أنّ هذا التراكم الضروري يتكوّن من جهود وتجارب ومعاناة وإضافات الأجيال العربية المتوالية جميعها، فهي متساوية نسبياً في المسؤولية عن تعثّره وتقدّمه، وعن سلبياته وإيجابياته.

نريد أن نخلص إلى أنّه ليس من الحكمة ولا من الإنصاف في شيء أن يحاول البعض اليوم تشويه الانتفاضات الشعبية الثورية، بتسطيح التاريخ وفصلها عن سياقه، وبإدانة مراحل منه بكاملها، بجميع مكوّناتها ووقائعها، كالقول، مثلاً، انّ أنظمة الشرعية الدستورية البرلمانية، الديمقراطية أو الليبرالية، هي الوحيدة الضرورية والصحيحة في جميع العهود والأزمنة والأمكنة، بينما أنظمة الشرعية الثورية مدانة ومرفوضة دائماً وأبداً، فمثل هذا القول، في حالة حسن الظن، يفتقر إلى إدراك مدى تعقيدات الحياة البشرية، التي من الصعب إن لم يكن من المستحيل إخضاعها لقوانين سياسية ثابتة، والتي لا يمكن التعامل معها عموماً إلاّ بالقوانين التجريبية، لأنّ تعقيدات الحياة البشرية تفوق حقاً تعقيدات التركيبات المادية الكيميائية.

هل من المعقول القول اليوم انّ الثورة المصرية العسكرية الناصرية (وغيرها من الثورات العربية المماثلة) كانت غير ضرورية تاريخياً، في مرحلتها الأولى طبعاً، وانه كان ممكناً عدم حدوثها؟ ولكنّ حال مصر والأمة عموماً يؤكّد أنّ تلك الثورة كانت ضرورية تاريخياً، إنما كمرحلة مؤقتة انتقالية، استثنائية تمهيدية، وكمدخل إجباري إلى حياة دستورية برلمانية ديمقراطية مستقرة. أمّا أنها طالت، وانقطعت الصلة لاحقاً بين بداياتها ونهاياتها، فأصبحت قوانينها الثورية الاستثنائية المؤقتة دائمة، وصارت ذريعة لاحتفاظ الورثة بامتيازات أسطورية رغم تخليهم تماماً عن روح تلك القوانين، فهذا موضوع آخر.

لقد حدثت تلك الثورات العربية الانقلابية، التي يفترض أنها انتقالية، في زمن عانت فيه الأمة عموماً نقصاً بنيوياً فادحاً من جهة، واختراقات أجنبية مميتة من جهة أخرى. وحدثت لأنّه كان مستحيلاً عدم اللجوء إلى الشرعية الثورية من أجل تعويض ذلك النقص البنيوي الذي لم يكن يسمح بنهوض حياة دستورية ديمقراطية سليمة قادرة على مواجهة الاختراقات الأجنبية، وعلى تلبية الاحتياجات الملحة للأكثرية. وبالطبع، لو أنّ بنية الأمة كانت مكتملة اجتماعياً وجغرافيا وسياسياً، ولو أنها كانت في حالة تطوّر طبيعي مستقلّ ومنيع، لما كانت ثمّة ضرورة لأنظمة الشرعية الثورية، وإنّ لنا في موقف الجيش المصري من الانتفاضة الشعبية الثورية خير دليل على ذلك، ومثله موقف الجيش التونسي.

غير أنّ الأوضاع السائدة اليوم في البلاد العربية عموماً، على اختلاف الشرعيات التي تستند سلطاتها إليها، تبدو وكأنّها أذنت جميعها بالزوال. فالتراكم التاريخي بلغ، كما أشرنا، حدّاً يجعله على وشك الانقلاب إلى تغيير نوعي عميق، والأمة التي برهنت على أنها أمة واحدة تبدو وكأنها استكملت الكثير من نواقصها البنيوية الفادحة وامتلكت الكثير من العتاد الضروري، وتوشك أن تنهض وتتخطى جميع معوقات تقدّمها. وهكذا فإنّ الأوضاع التي كان ممكناً قبولها طوعاً، أو فرضها قسراً، والتي استمرّت على مدى العقود الطويلة الماضية، لم يعد استمرارها ممكناً أبداً، لأنّ الوضع الذي كنا ننظر إليه في الماضي على أنّه وضع إيجابي ننظر إليه اليوم على أنّه سلبي، علماً بأنّ بعضه كان في حينه، خاصة في بداياته، إيجابياً بالفعل. وهذا أمر مفهوم بالطبع، حيث الإيجابي في الحاضر سوف يصبح بدوره سلبياً في المستقبل، لأنّ الحياة هكذا، ولا مجال فيها أبداً للثبات والاستمرار في كيان واحد وعلى حال واحدة.

وعلى ذكر برهان الأمة العربية على وحدتها، بانتفاضاتها الشعبية الثورية المتزامنة التي ترفع شعارات مشتركة، فإنّه لمن شبه المؤكّد أنّ التغيير النوعي التاريخي المنشود هو استرداد الأمة الواحدة لذاتها، بإسقاطها عوامل ضعفها وتجزئتها وتهميشها، وبامتلاكها حرّيتها وتحقيق استقلالها. وقد يكون مناسباً هنا التذكير بتقرير لجنة كامبل بنرمان الإنكليزية الذي أعدّ عام 1907، وبما تضمنه من تحديد واقعي لحدود الوطن العربي الكبير ومن شرح لخصائص الأمة العربية، ومن اقتراحات لتمزيقها وتكبيلها وتغييبها، الأمر الذي يفسّر الأسباب العميقة والأهداف الكبيرة لانتفاضاتها الثورية الحالية المتميّزة.

قال التقرير الإنكليزي/الأوروبي : «على الساحل الجنوبي للمتوسط، من الرباط إلى غزّة، وعلى الساحل الشرقي حتى مرسين وأضنة، وعلى الجسر البرّي الضيق الذي يصل آسيا بأفريقيا والذي تمرّ فيه قناة السويس شريان حياة أوروبا، وعلى جانبي البحر الأحمر، وعلى طول ساحلي المحيط الهندي وبحر العرب حتى خليج البصرة حيث الطريق إلى الهند.. في هذه المنطقة الحساسة أمة واحدة تتوفّر لها من وحدة تاريخها ودينها، ووحدة لسانها وآمالها، جميع مقومات التجمع والترابط والاتحاد، وتتوفر في نزعاتها التحررية وفي ثرواتها الطبيعية وفي كثرة تناسلها جميع أسباب القوة والتحرّر والنهوض»..الخ.

لقد استنتج التقرير الإنكليزي/الأوروبي أنّ الخطر على الإمبراطوريات الاستعمارية كامن في تحرّر هذه المنطقة، وفي توحيد اتجاهات سكانها وتجمعها حول عقيدة واحدة وهدف واحد، واقترح العمل على استمرار وضع المنطقة المجزّأ وإبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتخلف، ومحاربة اتحاد جماهيرها، ومنع ترابطها الفكري أو الروحي أو التاريخي، وإيجاد الوسائل العملية القوية لفصلها عن بعضها، وإقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط شطرها الآسيوي بشطرها الأفريقي، بحيث يكون هذا الحاجز (الإسرائيلي) قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة.

وبالفعل، فإنّ استنتاجات لجنة بنرمان ومقترحاتها هي ما عانت منه الأمة العربية أفظع المعاناة على مدى القرن الماضي، وهو ما سهرت سلطاتها الحاكمة التابعة في معظمها على تحقيقه، وهو ما تهبّ الأمة اليوم في جميع أقطارها هبّة واحدة للخلاص منه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165260

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165260 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010