الجمعة 8 نيسان (أبريل) 2011

غولدستون ينقلب على نفسه

الجمعة 8 نيسان (أبريل) 2011

بقدر ما فاجأ القاضي الجنوب الإفريقي ريتشارد غولدستون، العالم، بتراجعه عن نتائج التقرير الذي حمل اسمه “تقرير غولدستون” في شأن الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على قطاع غزة قبل أكثر من عامين، فإنه تسبب بصدمة كبيرة للفلسطينيين، وخصوصاً ضحايا “الإرهاب” والجرائم “الإسرائيلية”، في الوقت الذي تلقفت فيه “إسرائيل” هذا الموقف “المشين” من غولدستون، للدفاع عن نفسها وعن الأخلاقيات الرفيعة التي يتمتع بها جيشها “المجرم”، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بمطالبة غولدستون نفسه بالاعتذار عن الأضرار التي ألحقها تقريره بالكيان، في حين طالبت الأمم المتحدة بإلغاء هذا التقرير ووقف أي إجراءات دولية كانت ستتخذها المنظمة الدولية بحقها استناداً إلى نتائج هذا التقرير .

تراجع غولدستون عن جزء مهم وكبير من نتائج التقرير، الذي بات “وثيقة دولية” وليس تقريراً شخصياً، يثير علامات استفهام كبيرة لجهة توقيت هذا الموقف من جانب غولدستون، إذ إن هذا الموقف المفاجئ والغريب من قاضي يمتلك خبرة قانونية دولية كبيرة، جاء بعد تبني مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومقره جنيف في الخامس والعشرين من شهر مارس/ آذار الماضي، قراراً يوصي على وجه الخصوص بأن تقوم الجمعية العامة بتقديم تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في شأن الحرب على غزة “تقرير غولدستون” إلى مجلس الأمن من أجل النظر في إحالة الوضع في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى المحكمة الجنائية الدولية .

كما أن موقف غولدستون من التقرير جاء في ظل تصعيد عسكري “إسرائيلي” خطير وغير مسبوق على قطاع غزة منذ انتهاء الحرب، ورغم توافق فصائل المقاومة على التهدئة إذا التزمت بها “إسرائيل”، ومع ذلك تواصل قوات الاحتلال تنفيذ عمليات اغتيال يصنفها القانون الدولي بأنها “عمليات قتل خارج إطار القانون”، ما يؤشر إلى أنها معنية باستمرار التوتر والتصعيد والقلق في غزة، وربما تسعى من وراء هذه الجرائم إلى جر رد فعل من جانب فصائل المقاومة، يستدعي قيامها بشن حرب دموية على القطاع .

إن تراجع غولدستون عن الجزء الذي يتهم فيه “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين في قطاع غزة خلال الحرب، يعزز من موقف هذه الدولة المارقة المتعالية بالأساس على القانون الدولي والمواثيق الدولية، وربما يشجعها على عدم التردد في شن عدوان جديد ضد القطاع، قد يكون أكثر دموية وشراسة من الحرب السابقة، التي شنتها في السابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 2008 واستمرت على مدار 22 يوماً، قتلت خلالها قوات الاحتلال حوالي 1400 فلسطيني جلهم من المدنيين والأطفال والنساء، فضلاً عن دمار واسع لحق بالمنشآت العامة والخاصة وآلاف المنازل السكنية، والبنية التحتية .

لقد ساق غولدستون لتبرير تراجعه المدان والمستهجن عن التقرير، مبررات غير منطقية، بقوله إنه يعرف الآن ما حصل في الحرب على غزة أكثر مما كان يعرف حين ترأس بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، مضيفاً “لو كنت أعرف يومها ما أعرفه الآن، لكان تقرير غولدستون وثيقة مختلفة” .

وفي محاولة منه لذر الرماد في العيون، جدد غولدستون في المقال الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية يوم السبت الماضي، انتقاده ل”إسرائيل” لرفضها التعامل مع بعثته، لكنه في الوقت نفسه أشاد بها في إجراء تحقيقات خاصة “خلصت إلى أن المدنيين في غزة لم يستهدفوا عمداً وبناء على سياسة محددة، وأن تلك التحقيقات أكدت صحة بعض الحوادث التي حققت فيها البعثة، وشملت حالات تورط فيها جنود بشكل فردي، إلا إنها تشير أيضاً إلى أن تلك الحوادث لم تكن كسياسة تستهدف المدنيين عمدا” .

إن غولدستون وهو يتراجع عن تقريره الذي شاركه في إنجازه فريق دولي من ذوي الخبرة القانونية وخبراء في التحقيق في الصراعات الدولية، يضرب مصداقيته وسمعته قبل أن يضرب التقرير، ويجامل الجلاد على حساب الضحية، أو آلاف الضحايا بالأحرى الذين ارتقوا خلال الحرب، ومن بينهم 29 شهيداً من عائلة السموني، ذكرهم غولدستون في مقاله، وبرأ “إسرائيل” من دمائهم .

ويبدو أن غولدستون استسلم أخيراً للضغوط الشديدة التي مارسها عليه اللوبي الصهيوني، ورضخ لها على حساب كرامته وسمعته المهنية الطويلة على ساحة القضاء الدولي، متناسياً عن قصد عشرات الروايات الحية التي استمع إليها بنفسه من الضحايا وذويهم في غزة خلال تحقيقه المستفيض في مجريات الحرب “الإسرائيلية”، فبماذا عساه أن يبرر هذا الموقف أمام هؤلاء؟ بل يمكن للبعض التشكيك الآن في نتائج التحقيقات السابقة التي قادها غولدستون نفسه في نزاعات كثيرة في أكثر من منطقة حول العالم .

ورغم الصدمة التي لحقت بالفلسطينيين من موقف غولدستون، لا يرى خبراء حقوقيون أن موقفه هذا سيؤثر في التقرير من الناحية القانونية، خصوصاً بعد أن تبنى مجلس حقوق الإنسان التقرير وأوصى الجمعية العامة للأمم المتحدة برفعه لمجلس الأمن، وذلك بعد أن تأكد لدى مجلس حقوق الإنسان بشكل واضح فشل دولة الكيان “الإسرائيلي” في إجراء تحقيقات داخلية نزيهة وشفافة فيما نسب إليها خلال الحرب من جرائم، الأمر الذي دفع المجلس للبحث عن آليات لتحقيق العدالة الدولية، ما يثبت أن لجان التحقيق “الإسرائيلية” غير مستقلة وغير نزيهة، ولا يمكن لها أن تحقق فيما ارتكب من جرائم، وبالتالي المجتمع الدولي الآن يجب أن يقوم بذلك .

[**مواقف فلسطينية*]

موقف غولدستون أثار ردود فعل فلسطينية غاضبة، ووحد الفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم لجهة توجيه انتقادات لاذعة له، واتهامه بالخنوع والخضوع لضغوط اللوبي الصهيوني، وتشجيع “إسرائيل” على الفتك بالمدنيين الفلسطينيين بغطاء من هذا التراجع، ودون خشية منها من رد فعل المجتمع الدولي .

حركة “حماس”، التي تسيطر على قطاع غزة منذ حوالي أربع سنوات، وتخشى من حرب جديدة في ظل التصعيد “الإسرائيلي” الحالي، أبدت استغرابها الشديد من موقف غولدستون وتراجعه عن جزء من التقرير الدولي وتقبله للرواية “الإسرائيلية” رغم أن الاحتلال “الإسرائيلي” رفض استقباله أو التعاون معه، بينما تم استقباله في غزة وتقديم كل التسهيلات لعمل فريق بعثة الأمم المتحدة التي ترأسها .

واتفقت حركة “حماس” مع منظمة التحرير في دعوة الأمم المتحدة إلى عدم التأثر بموقف غولدستون الجديد، والمضي قدماً لإنفاذ ما ورد في التقرير كونه أصبح أحد الأوراق والوثائق الدولية، وليس ملكاً شخصياً لغولدستون، فقد شارك في وضعه فريق من القضاة الدوليين إلى جانب غولدستون، هذا عدا عن أن التقرير اعتمد على جملة من الوثائق وشهادات شهود العيان في الميدان مما يزيد من قوة التقرير وصدقيته .

وكان لافتاً الموقف الحاد الذي اتخذته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رداً على تراجع غولدستون، الذي رأت فيه أنه ينطلق من “منطلقات سياسية لا تتمتع بأي مصداقية قانونية أو أخلاقية”، خصوصاً في الجانب التبريري لمقتل عائلة السموني، واعتباره الجريمة تصرفاً فردياً .

كما رأت اللجنة التنفيذية أن التبرير السياسي لدموية المجازر التي ارتكبت في قطاع غزة، وفي هذا الوقت الذي تحضّر فيه قوات الاحتلال “الإسرائيلي” لعدوان جديد على قطاع غزة، تحت ذرائع واهية، إنما يعطي غطاءً مباشراً لهذا العدوان، وإطلاق يده في ارتكاب المزيد من المجازر، وإلا، فبماذا يفسّر غولدستون رفض “إسرائيل” التعاون مع بعثة لجنة التحقيق في نتائج العدوان على غزة؟

[**الكيان يغسل يديه*]

وفي مقابل الانتقادات والغضب الفلسطيني من موقف غولدستون، وجدت دولة الكيان “الإسرائيلي” في هذا الموقف فرصة سانحة للانتصار لنفسها، وغسل يديها من دماء الفلسطينيين، والعودة من جديد إلى الدور الذي لطالما لعبته لجهة التشويش على الرأي العام الدولي، والتغطية على ما ترتكبه “إسرائيل” من جرائم شبه يومية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل .

وقد انبرى قادة دولة الاحتلال “الإسرائيلي” لحصد الانجازات من وراء موقف غولدستون، فقد طالب رئيس دولة الكيان شمعون بيريز، القاضي غولدستون ب”الاعتذار”، والإدعاء بأن جيش الاحتلال “تصرف من منطلق الدفاع عن النفس وأجرى تحقيقات في طريقة أداء عملياته، وهو سيبقى في المستقبل أيضاً من أكثر جيوش العالم التزاماً بالأخلاقيات” .

وفي هذا الوقت، قال رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو إنه بعد مواقف غولدستون وتراجعه عن نتائج التقرير يستوجب الدفع بهذا التقرير إلى “مزبلة التاريخ” . واصدر نتنياهو تعليماته لوزارتي الخارجية والعدل في حكومته لدراسة الخطوات الممكن اتخاذها لإلغاء التقرير بعد تراجع غولدستون عن الجزء الأكبر مما ورد فيه، فضلاً عن إصدار توجيهاته لمندوب “إسرائيل” لدى الأمم المتحدة بالعمل من اجل وقف الإجراءات ضد “إسرائيل” التي بدأت المنظمة الدولية باتخاذها في أعقاب تبني مجلس حقوق الإنسان للتقرير .

لكن الوزير “الإسرائيلي” المتشدد يوفال شتاينتس رأى أنه “لا مغفرة لغولدستون كونه افترى فرية دم على “إسرائيل” وجيش الاحتلال، وأن على غولدستون عدم الاكتفاء بكتابة مقال وإنما العمل على إصلاح الأضرار الجسيمة التي تسبب بها تقريره” .

وقال وزير الخارجية “الإسرائيلي” أفيغدور ليبرمان إنه “ليس بحاجة إلى أي اعتذار من غولدستون”، معتبراً أن “إصرار “إسرائيل” على تحقيق أهدافها وتمسكها بالعدل واستعدادها لدفع الثمن هو الذي أدى إلى التحول في موقف القاضي غولدستون” .

ودافع ليبرمان عن رفض تعاون “إسرائيل” مع بعثة تقصي الحقائق التي ترأسها غولدستون، وقال: “لو كانت “إسرائيل” قد تعاونت مع عملية التحقيق التي أجراها غولدستون لكان ذلك سيؤدي إلى سابقة خطيرة” .

وجاء تراجع غولدستون عن تقريره على وقع التصعيد “الإسرائيلي” غير المسبوق في غزة، وصبيحة عملية اغتيال نفذتها طائرة استطلاع “إسرائيلية” واستهدفت ثلاثة قادة في كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة “حماس”، وسبق هذه العملية بأيام اغتيال ثلاثة من نشطاء سرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، وذلك رغم توافق فصائل المقاومة على التزام التهدئة إذا التزمت بها “إسرائيل” .

ورغم تحلي فصائل المقاومة بمسؤولية عالية عبر تجاوبها مع مساعي الأمم المتحدة وأطراف أوروبية وإعلانها التزام التهدئة، إلا أنه سيكون من الصعب عليها التزام الصمت طويلاً إزاء الجرائم “الإسرائيلية”، وستكون مطالبة أمام عناصرها بالرد على هذه الجرائم، الأمر الذي قد يقود إلى تدهور الأوضاع الميدانية في القطاع، التي ظلت متماسكة إلى حد كبير رغم الاعتداءات “الإسرائيلية” - خلال العامين الماضيين .

ويعتقد محللون عسكريون “إسرائيليون” أن ما يجري اليوم بين “حماس” و”إسرائيل” هو “حرب صغيرة على نار هادئة”، وبحسب المحلل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي فإن المخاوف تبقى قائمة من تصاعد الأمور بين الطرفين إلى “حرب شاملة” لا يريدها أي طرف .

ولكي لا تصل الأمور في قطاع غزة المحاصر إلى حد حرب شاملة، في وقت كثير من الدول العربية منشغلة بما يدور فيها من اضطرابات واحتجاجات شعبية عارمة تطالب بالحرية والديمقراطية وإصلاحات سياسية، فإن المجتمع الدولي مطالب بالوقوف أمام مسؤولياته وعدم التأثر بموقف غولدستون الجديد، وعدم إعفاء الاحتلال “الإسرائيلي” من جرائمه، وعدم مساعدته على تزييف الوعي الدولي بحقيقة هذا الاحتلال وجرائمه اليومية ضد المدنيين الفلسطينيين، والوقوف بقوة في وجه أي مسعى “إسرائيلي” من حكومة اليمين المتطرف لشن حرب جديدة على غزة .

- [**رائد لافي - غزة.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165454

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165454 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010