الاثنين 17 أيار (مايو) 2010

في ذكرى (تجدد) النكبة: إسرائيل تكافئ مصر بسرقة نيلها

الاثنين 17 أيار (مايو) 2010 par مطاع صفدي

الفراغ السياسي العربي متعدد الأبعاد والمساحات. فهو جغرافياً وفي مساحة أقطاره الواسعة الشاسعة يشابه صحراء أراضيه القاحلة. وهو في مجال قضاياه الحيوية داخل أقطاره، وفيما بينها، ليس ثمة حراك مشترك في أي موضوع إنساني أو اجتماعي أو مادي يقوم عادةً بين الجار وجاره، وليس بين الشقيق وشقيقه. أما على المستوى الدولي فالأمة العربية ممحية من قائمة الحضارات الفاعلة في هذه المعمورة.

ولا يكاد يعرف العالم عنها إلا الكوفية والعقال ونقاب النساء وبراميل النفط، وأشباههم من البشر، و(الإرهابي) المفخخ. دويلة واحدة، صغيرة ومصطنعة ودخيلة على الجغرافيا والكينونة العربية، وهي إسرائيل طبعاً، تكاد تختصر العالم العربي في مصطلح (الشرق الأوسط) الذي ترشح نفسها لزعامته وحدها إن عاجلاً أو آجلاً.

الفراغ السياسي العربي في إقليمه ومحيطه وفي أوسع دائرة دولية، ينبغي أن يُفهم بصورة متعارضة: فهو من جهة فراغ إرادة الوجود العصري والمبادرة الخلاقة، على مستوى فعاليات العشرين كياناً دولانياً وأكثر؛ وهو من جهة أخرى فراغٌ جاذب لانشغالات عالمية كبرى، لاحتوائه واستغلاله والسيطرة على مصائره - وعلى هذا يجوز ترداد الحكم القائل أن الأمة الفاقدة لحضورها بالنسبة إلى ذاتها، لن تكون حاضرة بالنسبة لغيرها، سواء كان هذا الغير صديقاً أم عدواً. فما يعنيه الحضور في هذا السياق، وحسب منطق العلاقات الدولية، هو قدرة الأمة على حماية سيادتها، بما توفره إمكانياتها الحضارية من تحقيق شروط مشروعيتها الأنطولوجية، قبل الحقوقية، وذلك في عين ذاتها وقبل عين الآخر الغريب.
المسرح السياسي اليومي هو الذي يُمَشهد هذه المعايير. يذّكر الوعيَ المراقب والمسؤول بالمزيد من الفوارق النوعية المتراكمة بين خطاب تلك المعايير، ووقائع الأحداث العامة. وقد تشعر بعض النخب الثقافية المتناثرة بين عواصم الجغرافية المتباعدة، بما تدعوه مأزق النهضة العربية، المتجلي خاصة فيما يتعدى مفهوم أمنها القومي إلى مفهوم الأمن المدني. وتفسير هذه الترسيمة الرهيبة هو أن صيغة الدولة العربية الفاشلة لا ترجع فقط إلى عجز المرحلة الاستقلالية منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، عن تخطي القيادة القطرية لنموذجها الانغلاقي التجزيئي نحو أية مشاريع وحدوية أو تكاملية في الحد الأدنى على الأقل، بل كان الحدث السياسي المتواتر معيقاً للتحقق النهضوي، وإن ظلَّ حاملاً لشعاراته النظرية دائماً، محتاجاً إلى زخمها الثقافي والمعياري لتسويغ مبادراته التحشيدية إزاء جماهيره الموافقة منها أو المعترضة.

كان الخطاب السياسي المتداول يأنف من صفته تلك. فالقيادات، والتشكيلات الحزبية، ومنابر الإعلام، كانت تردد قاموس الثوريات ومشتقاتها. ليس ثمة رأي أو موقف وحتى قرار لدولة أو تنظيم (عقائدي)، إلا وهو مُقَوْلَب في المبنى والمعنى بالتلفيظ الثوري، كمعيار أعلى، يكسبه المقبولية المطلوبة أو ينتزعها منه. فإذا كان ثمة سياسة هنا أو هناك، فهي مستظلة بأعلام الأمن القومي، أو متحايلة، بل خارجة عليه، أي على مسلماته الأيديولوجية، ومقاييسه الإطلاقية. لم يكتشف الفكر (التقدمي) دلالة واقعية للأمن المدني إلا بعد أن خسر الأمن القومي معظم رهاناته التاريخانية. فحين كان هذا الأخير طامحاً إلى مأسسة الحقبة الاستقلالية تحت طائلة النقلة النوعية نحو دولة الأمة العصرية الواحدة، كانت الدولة القيادية في هذا المسعى تتعرض لأعنف محاولات الاستعمار الجديد، في تقويض الحدود الدنيا من استقلالها الوطني، وفي تعجيزها اجتماعياً عن أية إنجازات نهضوية، تغير قليلاً من شروط الحياة الرديئة والمتخلفة لمعظم فئاتها.

هنالك الرأي الذي يُرجِعُ الفراغَ السياسي الراهن إلى افتقاد العالم العربي للدولة القائدة، الأمر الذي يجعل بقية الدول متساوية تقريباً في محدودية القدرة على تحمل أعباء التزامات شمولية كبرى، من نوع الضرورات القومية. فانسحاب مصر، القطر الأكبر ديموغرافياً وجغرافياً وحضارياً، من مهمة القيادة، بعد رحيل عبد الناصر، كان من الأهمية السلبية الخطيرة، بحيث لم تستطع أية دولة أخرى أن تملأ الدور القيادي والزعامي، بالرغم من محاولات العديد من الأقطار في إنتاج نُسَخٍ عنه، كانت لها صولاتٌ وجولات في ساحات الصراع الإقليمي، ولكن من دون نتائج فاعلة في ترسيخ أسس الأمن القومي، إن لم تكن قد عجٌلت في انهيار ما تبقى من هذه الأسس، وصولاً إلى تعرض أكبر قطر مشرقي، وهو العراق، إلى أول تطبيق لنموذج الحرب الإبادية المتواترة، الذي يدشن عصر انتشار الإمبراطورية الأمريكية أحادية القطب، لما بعد انقضاء الحرب الباردة.

ما يعنيه انهيار مبدأ الالتزام بضرورات الأمن القومي، مع اختفاء وظيفة الدولة القائدة، دون استخلافها بأشباه لها، هو افتقاد أقطار العرب، تدريجياً وسريعاً، لمختلف أشكال ودرجات الحماية الجيوستراتيجية، التي كانت وفَّرتها نهضة الاستقلالات الوطنية لدولها الناشئة، حين منحتها ثمة كياناً تضامنياً، بَرْهن، ولو ضمن حدود أولية، على إمكانيات صمود وتصدٍّ واعدة في ظروفها النسبية آنذاك، ضد الهجمة المزدوجة العارمة، الصهيونية والأمريكية، على إثر اغتصاب فلسطين، وعودة مشاريع الأحلاف الغربية المفروضة على دول المشرق خاصة.

تلك المرحلة التي اتخذت لذاتها عنوان القومية العربية، كانت لها ترجمة مباشرة على أرض الواقع السياسي ومتغيراته العنفية فكرياً وعسكرياً واجتماعياً. وقد افترضت لها تحدياً مركزياً هو عدم تكرار نكبة فلسطين في نكبة نهضوية عربية شاملة. بمعنى أن النهضة قد تخسر حروباً ومعارك في قطاعات كثيرة من فعالياتها، لكنها لن تخسر ذاتها. لذلك شكّل وقْفُ الزحف الإسرائيلي فيما حول رقعة الدويلة العبرية المغروزة في خاصرة المشرق، شكّل الهدفَ المحوري للأمن القومي العربي. كان هدفاً دفاعياً بمعنى الكلمة، بدءً من شرطه العسكري. فقد كشف اندحار ما سُمي آنذاك بالجيوش العربية المانعة للنكبة الفلسطينية المتحققة، عن هشاشةِ حتى قدرتِها الدفاعية عن أقطار أخرى فيما لو تمادت إسرائيل في توسعها.

ما يمكن قوله إن انبعاث حركة القومية العربية، مع المتغيرات الانقلابية والسياسية في سورية، وانطلاق ثورة عبد الناصر، كان في جوهره حراكاً دفاعياً عن مجرد الوجود العربي. وما تلبية أوسع الجماهير لشعاراته، في أرجاء الوطن كله، بتلك الحماسة العفوية غير المسبوقة، والمشاركة الجماعية ما فوق الحدود والسدود في تمظهرات هذه التلبية الشعبية المطلقة، لم يكن ذلك سوى تعبير عن رفض تلقائي للحالة العبرية الطارئة، واعتبار إنساني بسيط أن الغزو اليهودي لفلسطين ليس سوى المدخل المرحلي إلى غزو العالم العربي، إن لم يكن عسكرياً عاجلاً، فسيكون استيعاباً سياسياً واقتصادياً - وحتى ثقافياً.
الاسم القومي العربي آنذاك لم يولد شعارياً فحسب، لكنه كان وسيبقى آمراً بالقول والفعل في كل شأن كياني، يُصطلح عليه تحت مفهوم الأمن القومي. فالنكبة عربية في مبتدئها ومسيرتها، وحصائلها الراهنة والمتوقعة. وهي تمثل مركزية التهديد الوجودي للأمن القومي. هذه الحقيقة المطلقة لا يعفو عليها مضي الزمن، بل يزيدها خطراً وتعقيداً. فالعالم العربي والإسلامي يعج بأشكال وألوان النكبات، لكنه في الوقت عينه يفجّر حالات المقاومة والممانعة. وإذا كان الأمن القومي قد خسر حروباً على مستوى الأنظمة الحاكمة، فإن الشعوب تبتكر لذاتها وسائل دفاعها عن معتقداتها ومصائرها. وإسرائيل بالمقابل لم تبرح بَعْدُ صيغتَها الأجنبية الغازية. هذا الوضع اللااستراتيجي يجعلها كياناً طارئاً، أي مؤقتاً، مهما فعلت. وهي اليوم تضلّل نفسها بإطلاق هستيريا الاستيطان، كتعويض مرضي عن لا شعورها الأنطولوجي كونها لا تمتلك وطناً حقيقياً ومشروعياً، ولن تمتلكه أبداً.

أما عرب اليوم، فإنهم يعانون فراغ السياسة، بقدر ما تتحلى أنظمتهم الحاكمة عن آمرية الأمن القومي، في الوقت الذي يتطور هذا التخلي المدان تاريخياً وحقوقياً وإنسانياً، إلى الهاوية الاستراتيجية الأشد ظلماً وظلاماً. وذلك عندما يصبح أيضاً تخلياً عن الأمن المدني. إذ راحت تنكشف المجتمعات، تتداعى أسوار حماياتها الذاتية والحضارية، تحت وطأة أفاعيل التفكيك لمكوناتها الثقافية والأقوامية؛ حتى يتحول كيان الدولة القطرية نفسها إلى وعاء هش، لن يعود جامعاً لشعب متضامن ما بين فئاته المتنوعة، ومتطلع إلى الأمة العظمى التي ينتمي إليها ويتكلم لغتها، ويتداول ثقافتها، متعايشاً مع آلامها وآمالها.
إن انهيار الالتزامات القطرية بالأمن القومي، واختفاء دور الدولة القائدة وانصياع نظام مصر إلى كل ما يعاكس مفهوم هذه القيادة وأهدافها، ذلك هو ما يجدد (معنى النكبة) ويزوِّده بأسوأ نتائجه المدمرة.

النكبة العربية بإسرائيل قائمة مستديمة في الحرب كما في السلم. بل أن أخطارها وأفاعيلها في ظل السلم الزائف هي الأخطر والأعمق تأثيراً حاضراً ومستقبلاً. إذ أن توازنات القوى تبطل أفضلية الحرب بالنسبة لخيارات إسرائيل. لذلك سيكون عدوانها من صنف المصائب والعلل الداخلية لمجتمعات المنطقة. فالأمن المدني العربي والإسلامي هو المستهدف الراهن والمستقبلي. والأمثلة على اختراقه إسرائيلياً لا تعد ولا تحصى، منذ توطين أشباح الحروب الأهلية في أكثر من دولة، بدءً من تجاربها المستديمة في لبنان قبل ما يقرب من أربعة عقود. وقد يكون مثالها الأدهى هذا التطويف المتشعب لمجتمعات المشرق: وشواهده الكارثية فاعلةٌ مدمرة في النسيج العراقي بعد إسقاط أمنه العسكري والسياسي، واستباحته كلياً من داخل أنسجته البشرية والحضارية.

مصر التي تنازلت عن دورها القيادي، وارتضت لنفسها وظيفة الحليف الوفي لإسرائيل، الناشط فيما وراء حدودها مع من تبقى من أعدائها العرب، ها هي أمست فريسة للطعن الإسرائيلي من خلف ظهرها؛ مصر تواجه ربما أرهب إعدام لها آتٍ من خارطة أفريقيا. فحين تحبس الكمية الأعظم من ينابيع ومياه شريانها، نهر النيل العظيم، هل سوف تشرب البحر، لأن إسرائيل سوف تسرق النيل.. عبر مؤامرات مشاريعها الاقتصادية، المسيّرة لحكومات جنوبي النيل.. وقد انطلقت البداية المشؤومة حالياً، مع معاهدة تقاسم مياه النهر ما بين هذه الدول، من دون مصر والسودان. وتحدياً لهما معاً.
تخلت مصر عن قيادة الأمن القومي العربي. وها هي تواجه تجدد النكبة الفلسطينية، في عقر دارها.. وبما لن يقاس عبر أهوالها القادمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165485

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165485 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010