الاثنين 21 آذار (مارس) 2011

الذين شَرْعَنُوا جريمتَهُ من حيث “لا يَدْرون”

الاثنين 21 آذار (مارس) 2011 par د. عبد الاله بلقزيز

منذ انتحل صفة “الزعيم القومي” بُعَيد انقلابه العسكري سيئ الذكر في سبتمبر ،1969 أثار عقيد ليبيا انتباه كثيرين كانوا في صفوف الحركة القومية العربية، ورأوا في “ثورته” دليلاً إضافياً على أن قوة الدفع التي أطلقتها ثورة يوليو 1952 لم تَضْمَحِل أو تستنفد طاقتها على الرغم من نكسة الانفصال في 1961 ومن هزيمة 5 يونيو 67 الموجعة . فها هي مَلَكية أخرى تسقط، وها هي الفكرة القومية تُبْعَث من جديد: في غرب الوطن العربي هذه المرّة، وها هي مصر التي فقدت سوريا شرقاً تعوّض عن فقدانها إياها بليبيا غرباً .

زاد الطلب القومي الحزبي على ليبيا العقيد بعد رحيل عبدالناصر وانطلاق الثورة المضادة التي قادها أنور السادات في مصر . وما لبث أن انضمّ الشيوعيون العرب وفصائل من الثورة الفلسطينية ومن اليسار العربي إلى القوميين في الرهان على ليبيا قاعدة جديدة لحركة التحرر الوطني، فباتت طرابلس الغرب مَحجّاً للوفود والمؤتمرات واللقاءات والجبهات والتحالفات، مثلما كانت قاهرة الخمسينات والستينات، وأصبح العقيد المرجع والمفتي والمرشد . ومع الزمن، زادت صفاته تنوّعاً بما أغدق عليه المحاسيب والمنافقون والانتهازيون من الواقفين على أعتابه يتسوّلون .

وَفرتْ “جماهيرية” العقيد “الثورية” الأطر المؤسسية لهذا الطيف العريض من الأحزاب “التقدمية” العربية الوافدة إلى رحاب الحضن الليبي أرْسَالاً . كان “مؤتمر الشعب العربي” فاتحتها، ثم تناسلت كالفطريات فخرجت أخرى كان آخرها في ما أعلم “ملتقى الحوار العربي الديمقراطي الثوري” . وعلى مدار ربع قرن أو يزيد، تحوّلت ليبيا قبل انقلابها على العروبة نحو إفريقيا في منتصف التسعينات من القرن الماضي مقصد السياسيين والمثقفين المنتمين إلى فصيلة “حركة التحرر الوطني”: يَنْتَبِرُون فيها من منابر الخطابة فيكشفون عورات أنظمتهم متسترين على عورات النظام المضيف، هذا إن لم يغدقوا عليه عبارات المديح (وما أكثر المدّاحين من هؤلاء”، ويقذفون أمريكا و”إسرائيل” بوابل من القذائف اللغوية وساحاتهم الوطنية تزحف عليها الهدنة، وصحائفهم وبرامجهم المهادنة تفضحهم، ولقد كان لكل واحد من حُجاج ليبيا سِعْرٌ يعلو أو يهبط تبعاً لقربه أو بُعده من “الخيمة المقدّسة” والمقيم فيها، أو من زبانيته المتنفّذين .

أفسد المال الليبي أخلاق حركة التحرر وهبط بها عن المعدّل المألوف في حركات التحرر في العالم، تماماً كما أفسدها الدعم المادي السوفييتي . لقد اشترى قرارها واستأجر لسانها أو في القليل نال من صورتها لدى شعوبها وجمهورها ومن صدقية ما تدّعيه من مبادئ . لنتذكر أن أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية كانت لا تزال تتدفق على ليبيا مع علمها باختطاف العقيد للإمام موسى الصدر، وأن جبهات اليسار الفلسطيني كانت تشد رحالها إلى طرابلس مع علمها بما كان يحيكه العقيد من مكائد للثورة الفلسطينية، التي نَصَحَها بالانتحار الجماعي في بيروت بدلاً من أن يمدّ لها يد الدعم، وأن الأحزاب الشيوعية العربية لم تتوقف عن الحج إلى العقيد مع علمها بأنه من سَلّم قيادة “الحزب الشيوعي السوداني” لجعفر نميري، وأن الأحزاب الإسلامية وأوّلها حزب حسن الترابي (“الجبهة القومية الإسلامية”) ظلت ضيفاً دائماً على نظام القذافي مع علمها بما فعله من جرائم في حق “الإخوان المسلمين” و”الجماعة الإسلامية المقاتلة”، وأن المثقفين “الليبراليين” العرب ظلوا يزورون ليبيا أو يتعاملون معها مع علمهم بالمذابح اليومية التي يقترفها نظامها ضدّ الحريات وحقوق الإنسان .

فصلٌ غير مشرف في التاريخ هو ذلك الفصل من التعامل مع نظام قدّم أسوأ صورة يمكن أن يقدّمها فرد أو جماعة أو نظام عن القومية والوطنية والاشتراكية والإسلام، حيث ذهب في ابتذال معانيها إلى حدود لا يبلغها خيال بشريّ .

ولم يكن يَسَعُ حاكمَ ليبيا أن يلبس لنفسه لباس “القومي” و”الثوري” و”الاشتراكي” و”الإسلامي” لولا وصيفات (حزبية) ألْبَسْنَهُ إكليل التمثيل القيادي لهذه المبادئ . ولم يفعل هذا الجيش العرمرم من حلفاء العقيد “التقدميين” العرب غير خَلْع الشرعية أو إسباغها على نظام يفتقر إلى أية شرعية سوى شرعية القوة العمياء يغطي عليها بإغداق المال على مَن هم جاهزون لتلميع صورة نظامه خارج ليبيا .

لم نسمع أحداً من هؤلاء التقدميين يقدّم نقداً ذاتياً لعلاقة غير مشرفة رَبَطَته بنظام القذافي في ما مضى على الرغم من أن موعد مثل ذلك النقد الذاتي أزَفَ منذ ما قبل الثورة، منذ منتصف عقد التسعينات على الأقل . لن ينسى الليبيون غداً مَن وقَفَ مؤيّداً للطاغية، صامتاً عن جرائمه، مُشِيحاً النظر عن آلام شعب وكأنه لا يوجد على الخريطة . سيتذكرون كلّ كلمة حق حُرةٍ قيلت وأزعجت نظام الطاغية، كلّ كلمة نفاقٍ سيقت في مديحه، كل موقفٍ سياسي حرام أهداه له حزبٌ أو لسانٌ طمعاً في مال . ذاكرة الشعب تشحذ نفسها باستمرار وتَعْتَاصُ على التسوس، فَمَن يُقْرِض شعبَ ليبيا إذن قَرْضاً حَسَناً أيّها التقدميون؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165391

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165391 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010