السبت 26 شباط (فبراير) 2011

الثورة والدستور حكايات مصرية

السبت 26 شباط (فبراير) 2011 par ممدروح طه

في هذه الأيام التاريخية، والتي نشهد فيها من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال، عالما يتغير، في مشهد جديد تعاد فيه إجادة كتابة التاريخ وإعادة رسم الخرائط، يصبح بمقدورنا القول بوضوح إن العالم عموما والعالم العربي خصوصا، يتحرك الآن في اتجاه عصر جديد، بعد عصر القوميات وعصر الأيديولوجيات، هو «عصر الشعوب».

وبينما تهب رياح التغيير على غير انتظار في أكثر من موقع على الخريطة الجغرافية العربية، سواء بالإصلاح أو بالثورة، تحت مظلة الشرعية الدستورية أو في ظل الشرعية الثورية، نستطيع القول إن حركة التاريخ في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم، قد دخلت طورا جديدا من التغيير المبرر استجابة لمطالب شعبية وطنية، أو التغيير المقرر تنفيذا وتحقيقا لأغراض دولية.

وفيما لم يعد باستطاعتنا أن نخفي على أنفسنا في شرقنا الإسلامي وفي وطننا العربي، أننا نواجه حاليا عاصفة شعبية فوارة ساخنة وباردة، أكثر سرعة وأكبر تأثيرا في مستقبل هذه المنطقة.. فإننا ندرك أننا الآن نقع في دائرة مشروعين استراتيجيين متضادين في قلب عملية إعادة رسم الخرائط، وإعادة صياغة التاريخ، الأول حضاري عربي إسلامي تحقيقا لتطلعات شعوبنا وأوطاننا، والثاني غربي صهيوني تتنفيذا لمآرب أعداء شعوبنا وأوطاننا.

وفي ظل حركة هذين المشروعين المتناقضين للتغيير في أوطاننا، يلزمنا وضوح كامل للرؤية حتى لا تختلط علينا الصور بخداع البصر في ظل الحماس الفوار، فإذا العد صديقا وإذا الصديق عدوا، أو تتشابه علينا المفاهيم في ظل الرغبة الجامحة في التغيير بين الفتنة والثورة، فنقع دون قصد في فخاخ تنفيذ ما يراد بنا، ظنا بالوهم أو بالتمني أننا نحقق ما نريده لأنفسنا.

والعاصم الأساسي لسلامة عملية التغيير نحو صحيح الأهداف الشعبية الوطنية، هو استدعاء كل تجاربنا الثورية التاريخية ودراستها بعناية، واستلهام كل مبادئنا وقيمنا السماوية وتطبيقها حركة على الأرض، والوعي العميق بأن أدوات مشروع أعداء شعوبنا العربية والإسلامية، هي إشعال الفتن السياسية والطائفية والمذهبية والعرقية تحت شعارات خادعة، ولا عاصم لنا إلا الله والوحدة الوطنية سدا عاليا أمام الانقسامات الوطنية، وحائط صد للحروب الأهلية التي يكون الكل فيها خاسرا، حتى لا نخدع أنفسنا أو يخدعنا أعداؤنا.

وهنا ربما تكون تجربة «الثورة المصرية» جديرة بالدرس والتدريس، فمصر هي «أم الدنيا» باعتبارها أول دولة في التاريخ، ولا بد أن تكون هي أم الحضارات وأم الدساتير، و«أم الثورات»، فقد بدأت ثورة شعبية امتدت عبر تاريخها الطويل، في مسيرة كبرى عبر محطات تاريخية كبرى، وأعقبت كل تجربة ثورية تجربة برلمانية وتجربة دستورية جديرة بالدراسة والمراجعة، بداية بأول دستور عام ‬1923 ومرورا بدستور ‬1956، ونهاية بدستور ‬1971.

وفي كل التجارب الثورية، كان الجيش المصري هو جيش الشعب المصري الذي قام بأعظم الأدوار التاريخية، إما بدور الطليعة الثورية أو الأداة الثورية لثورة الشعب، بداية بثورة الجيش بقيادة أحمد عرابي، ضد الظلم والتمييز في وجه الخديوي توفيق عام ‬1881، مرورا بثورة الشعب المصري بقيادة سعد زغلول، ضد الاحتلال الإنجليزي عام ‬1919، وانتهاءً بثورة جيش الشعب بقيادة جمال عبد الناصر، ضد الاحتلال والاستغلال معا في يوليو عام ‬1952.

وتأتي ثورة الشعب المصري في محطتها الأخيرة في ‬25 يناير عام ‬2011، تتويجا لكل الثورات التاريخية الكبرى التي سبقتها، كأكمل وأجمل الثورات، بمشاهدها الوطنية والإنسانية والحضارية، التي تجلى فيها تحالف الشعب والجيش، ووحدة المسلمين والمسيحيين الوطنية الرائعة، سواء في «ميدان التحرير» في القاهرة أوفي كل ميادين التحرير في المدن المصرية، من الإسكندرية إلى أسوان ومن العريش إلى مطروح، لتصبح مصر حديث عالمها العربي وأمتها الإسلامية والعالم كله، بثورتها الشعبية بأهدافها الإنسانية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

ويستوقفني هنا ما قام به جمال عبد الناصر وهو يقدم للشعب المصري دستور عام ‬1956، من استخلاص للدروس، ساعياً إلى التنبيه لما قام به أعداء هذا الشعب من خداع والتفاف على ما سبق من ثورات ودساتير..

ففي سنة ‬1805 كافح الشعب ضد ظلم الوالي التركي، وطالبه بأن يشترك في حكم نفسه بنفسه، وبأن يقيم دستوراً، ولكن الوالي العثماني قال: «إنني هنا بأمر السلطان ولا يمكن أن ألبي رغبة الفلاحين»! فاجتمع الشعب وعلماء الشعب، وكتبوا وثيقة بعزل الوالي التركي، وأثبتوا حقهم الدستوري بالقول: «إن للشعوب، طبقاً لما جرى به العرف، ولما تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية، الحق في أن يقيموا الولاة، ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن سنن العدل وساروا بالظلم؛ لأن الحكام الظالمين خارجون عن الشريعة»، وعزلوا الوالي وأقاموا محمد علي.. لكن محمد علي ذبح المماليك، وبعدها استبد بالشعب المصري!

وقام عرابي سنة ‬1881، وطالب الخديوي بأن يحقق للشعب حريته وحقه في الحياة، وفي الدستور، وبحق الشعب أن يقر الضرائب والقوانين، ولكن الخديوي رفض واستعان بقوة أجنبية، فكان الاحتلال البريطاني. لكن الشعب لم يستسلم، وكافح ضد العدوان الخارجي وضد السيطرة الداخلية.

وقامت الثورة الكبرى سنة ‬1919، بعد كفاح طويل ضد العدوان الخارجي وضد السيطرة الداخلية، تطالب بالدستور الذي يعلن حق هذا الشعب في الحياة وفي الحرية، وكافح الشعب حتى انتصرت إرادته سنه ‬1923 بإعلان الدستور كمنحة من الملك.

لكن بقي الاستعمار، وبقي الإقطاع، وبقيت سيطرة رأس المال على الحكم في ظل الدستور، ولم تكمل حكومة سعد زغلول عاما واحدا إلا وأقالها الملك، وبعدها ألغى الدستور..! فكافحوا كفاحاً مريراً من أجل حقهم في الحرية وحقهم في الحياة.

وحينما قامت ثورة يوليو ‬52 تنبهت لضرورة القضاء على الاستعمار وأعوانه، وعلى الإقطاع، وعلى سيطرة رأس المال على الحكم أولاً، ثم قدمت الدستور باسم «نحن الشعب المصري»، حتى يمكنها مواصلة طريقها، لتحقيق أهداف الشعب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهو ما تسعى إليه حاليا ثورة ‬25 يناير الشعبية المباركة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 64 / 2165842

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165842 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010