الخميس 17 شباط (فبراير) 2011

رسالة إلى عواصم الغرب: لا تضغطوا

الخميس 17 شباط (فبراير) 2011 par جميل مطر

انتظر المصريون في عام 1952 أن يأتي الإصلاح على أيدي القادة السياسيين وبخاصة رؤساء الأحزاب وكبار الشخصيات ولم يأت . راحوا في غالبيتهم يتنافسون على كسب رضاء القصر أو الإنجليز ويزدادون فساداً . وفي هذه الأثناء وكرد فعل طبيعي لاهتمام القادة السياسيين بشؤونهم الصغرى انتفض الشباب وبخاصة طلاب الجامعة يضغط بالمظاهرات والتدريب على القتال وتشكيل كتائب لمقاومة الإنجليز في منطقة القناة، ونشط شباب بعض الأحزاب والجماعات السياسية في محاولة لفرض التغيير داخل أحزابهم وجماعاتهم . وأمام تدهور الأحوال وانتشار الغضب تدخل الجيش ملبياً نداءات بدأت خافتة قبل أن تتصاعد على وهج فضائح الفساد وبخاصة في مسائل تمسه تحديداً مثل السلاح وسوء إدارة الحرب في فلسطين . كانت استجابة الجيش بالقول والفعل كافية ليخرج الناس كهولاً وشباباً يؤيدون تدخله . ولكنها كانت كافية أيضاً لكي تقوم جماعات وقوى داخلية وخارجية بتعبئة صفوفها لتنصب نفسها أعداء للجيش الذي تولى الحكم وأفصح عن نية تنفيذ إصلاحات سياسية .

تصدرت قائمة هؤلاء الأعداء “إسرائيل” التي تعمدت شن غارة على غزة بعد أقل من عامين من تولي الجيش السلطة، وهي الغارة التي راح ضحيتها ضباط وجنود مصريون . كانت الغارة من وجهة نظر “إسرائيل” ضرورة حتمية لتحقيق هدفين: أولهما تذكير القادة الجدد في مصر بتوازن القوة العسكرية بين مصر و”إسرائيل” بحيث تكون ل “إسرائيل” على الدوام اليد العليا والأقوى في صياغة علاقات المواجهة مع مصر، وثانيهما دفع قادة الحكومة العسكرية في مصر نحو اتخاذ موقف واضح وصريح يكشف عن حقيقة نواياهم تجاه “إسرائيل”، فإن هم أعربوا علناً عن نوايا تصالحية بعد الغارة التي شنت على غزة فقدوا قواعد التأييد في صفوف شعبهم وظهروا ضعفاء مخذولين في مصر وخارجها وضاع منهم موقع الريادة في المنطقة العربية . وإن هم تصدوا لتداعيات العدوان على غزة بمواقف وطنية ولجأوا إلى حشد الشعب وتعبئته فقدوا رضاء الولايات المتحدة التي كانت تأمل في صنع نظام إقليمي دفاعي جديد في الشرق الأوسط تنضم إليه مصر ويضم العراق وتركيا ودولاً أخرى، وفقدوا في الوقت نفسه صداقة دول عربية حليفة لأمريكا وغير مستعدة لاستئناف صراع العرب على “إسرائيل” أو إغضاب الغرب عموماً .

اختارت القيادة العسكرية المصرية البديل الثاني لأسباب كثيرة كشف عنها في السنوات اللاحقة . أحد هذه الأسباب تتعلق بحقيقة أنها لم تكن قد استقرت تماماً في الحكم وكانت الخلافات حول أهدافها السياسية والدستورية عديدة وكبيرة وبقيت لمدة غير قصيرة بعيدة عن الحل . ولكنها وقد اختارت هذا البديل قررت تصعيد أهداف تدخلها مقتربة من المضمون الثوري فأضافت إلى أهدافها وسياساتها التصدي للأحلاف وحشد الجماهير العربية ضد “إسرائيل”، فتضاعف عدد المؤيدين . وبالفعل وبالتعبئة ضد عدوان “إسرائيل” وهجمة حلف بغداد وبدعم هائل من الشعب تحولت “الحركة الانقلابية المباركة” التي قام بها نفر من الضباط الأحرار في يوليو/ تموز 1952 إلى ثورة غيرت وجه مصر وصاغت مضموناً جديداً للنظام الإقليمي وشاركت بفاعلية وإيجابية في صنع مرحلة مهمة من مراحل تطور النظام الدولي حين تجاسرت باسم مصر فأسست منظمومة دولية للحياد الإيجابي والتعاون بين دول ومستعمرات العالم الثالث . في شهور قليلة كانت حركة الضباط قد صارت ثورة رفعت من شأن مصر والعرب والشعوب النامية الأخرى وحصلت على إعجاب وانبهار شعوب عديدة وألهمت قادة عسكريين في دول كثيرة وجلبت لنفسها ومصر عداء أمريكا وبقية دول الغرب .

شيء بل أشياء من هذا يحدث الآن وإن كان في ظروف وبأشكال مختلفة . ففي مصر تفجرت ثورة صاغ مطالبها وحرك جماهيرها شباب عاديون من أبناء المدن . مدنيون ومدينيون ومدن استهانت بهم وبها الطبقات السياسية الجديدة وقادة العسكر في أنحاء كثيرة من العالم . انتظرت مصر لسنوات عديدة أن يخرج مما بين طبقاتها السياسية ونخبتها الحزبية قوة أو جماعة تأتي بالإصلاح . ضغط الشعب بالاحتجاج تارة والاعتزال تارة أخرى، ولم يعره الاهتمام حكامه الذين اتضح في ما بعد أنهم كانوا في أسوأ الحالات يحتقرونه، وفي أحسن الحالات يتعالون عليه وعلى مطالبه وحاجاته . تخاذلت معظم قيادات القوى الحزبية والسياسية التي فضل قادتها إرضاء الحاكم على رضاء الشعب . ارتضوا لأنفسهم العيش على فتات السلطة والجاه والمال عن العيش في ساحات النضال السياسي الحر والمستقل . ولذلك فإنه عندما لم يأت الاصلاح على أيدي سياسيين عاد الشعب ولكن بتردد شديد ينتظر أن يأتيه على أيدي العسكريين . وأظن أنه انتظر طويلاً رغم أنه لم يعول عليه كثيراً .

لم يأت الإصلاح . لم يأت عندما صدق الشعب وعود الطبقة السياسية وقادة النظام الحاكم بجناحيه جناح السلطة وجناح المعارضة . ولم يأت عندما انتظر انتفاضة من الجيش تحمل راية الإصلاح . طال انتظاره حتى يوم خرج فيه الشباب في ثورة هزت أفئدة العالم فقامت الدنيا ولم تقعد . جاءت من فرنسا رسالة تنقل عن مسؤول كبير أمنية أن يعيش ليرى في بلاده ثورة كالمصرية تصلح ما أفسده استقرار طال أمده، وجاءت من أمريكا مقالة لصحفي كبير يعترف فيها بأن الثورة المصرية نموذج تحتاج إليه أمريكا ليضيء أمام الأمريكيين طريق إصلاح نظام ديمقراطي آيل للسقوط بدليل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستحكمة التي تمسك بخناق النظام السياسي الأمريكي . وفي إيطاليا خرج برلسكوني الرجل الذي لم يخف يوما كراهيته لكل ما هو عربي وإسلامي يقول “فقط دولة بتاريخ مصر قادرة على أن تصنع هكذا ثورة” .

فجأة، عادت مصر تملأ قلوب أهلها وجيرانها العرب بالحب وتحظى منهم بالمؤازرة والدعم، وراحت تهدم بنجاحات ثورتها وسماحتها وسلميتها صروح الكذب والغش التي أقامها خصومها في الولايات المتحدة و”إسرائيل” حتى جعلوا سمعة المصرييين والعرب سبة في جبين الإنسانية . فبفضل جهالة نظام حكم مصري بطيء التفكير والحركة وسيئ الأخلاق وفاسد السلوك لم تعد المعارضة السياسية في مصر وبلاد العرب في نظر الغرب سوى جماعات إسلامية إرهابية تنتظر لحظة القفز على الحكم في القاهرة وإعلان الحرب على الغرب وإلقاء اليهود في البحر .

وسط هذا الزخم الفريد فوجئت مصر بإشارات دولية وضغوط وتصريحات ومطالب من الخارج تدعو مصر إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات ومواقف توضح نوايا الثورة الشعبية المصرية تجاه “إسرائيل” . قيل لنا من واشنطن إن “إسرائيل” تريد أن تحصل من مصر على ما يثبت أنها لن تغير سياستها تجاهها “إسرائيل” وأن اتفاقية الصلح لن تمس بأي حال من الأحوال . من ناحية أخرى وبإيحاء من “إسرائيل” وأمريكا مارست دول أوروبية أخرى، وأذكر تحديداً حكومة إنجيلا ميركيل في برلين، مارست ضغوطاً هائلة على مصر في وقت كانت القيادة الجديدة تتلمس الطريق إلى الاستقرار وتحاول الاستفادة من التأييد الدولي والعربي والمصري العارم استعداداً للانتقال إلى مرحلة جديدة نحو النهضة والرقي والديمقراطية .

لا شيء يمكن أن يقال عن هذه الضغوط المتتالية أكثر من أنها صدرت عن دول أغلبها أخطأ التقدير وأساء إلى الثورة المصرية وهي في المهد طرية، وأساء أيضاً إلى شعب مصر . لقد تابعنا بقلق شديد كل ما صدر عن “إسرائيل” والجماعات الصهيونية في أمريكا وأوروبا الغربية، ومعظم ما صدر كان مكللاً بحقد أسود وأسوأ النوايا . هدفها، كما كان هدف العدوان على غزة في 1955 وكما كان هدف عملية لافون، وكان أيضاً هدف كل رؤساء حكومات “إسرائيل” الذين كانوا يتعمدون زيارة حسني مبارك عشية اتخاذ قرار بشن عدوان على العراق أو لبنان أو غزة، وهو إحراج مصر وإخضاع حكومتها لإرادة “إسرائيلية” وفي الوقت نفسه إذلال الشعب المصري وتشويه صورته في نظر شعوب، جميعها من دون استثناء تستعد لثورة تنوير ونهضة وحرية .

لا أقول إن حكومات ألمانيا وفرنسا وأستراليا وغيرها من الحكومات التي طلبت من حكومة ما بعد مبارك إعادة تأكيد إلتزاماتها تجاه “إسرائيل” واحترامها اتفاقيات السلام تعمدت إضعاف القيادة الجديدة والثورة بأسرها ووضعها في موقف حرج عربياً وداخلياً، أو أنها أرادت ما أرادته “إسرائيل” وهو إذلال الثورة المصرية وهي في أوجها وزرع وقيعة بينها وبين دول الغرب وبخاصة أمريكا، ولكن أقول إن هذه الدول جميعاً أساءت التقدير وأخطأت ربما عن غير قصد في حق هذه الثورة، وأقول أيضاً إن هذه الدول إن استمرت في الضغط علينا، ثورة وقيادة وشعباً، في الموضوع “الإسرائيلي” فإنها ستفقد رصيداً أثمره تأييدها للثورة المصرية، وستفقد ما هو أكثر كثيراً، ستخسر فرصة أن يكون لها تأثير في صنع مستقبل هذه المنطقة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165962

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165962 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010