السبت 12 شباط (فبراير) 2011

ثورة مصر.. بوابة الأمة إلى المستقبل

السبت 12 شباط (فبراير) 2011 par عبد الله الحسن

حين كتب المفكر المصري فوزي منصور يندب حضور العرب في التاريخ الإنساني في كتابه الموسوم (خروج العرب من التاريخ)، دبج البعض قصائد تحت عنوان (متى يعلنون وفاة العرب)، بينما انصرف البعض الآخر إلى تأكيد ذلك من خلال استدعاء صفة العرب البائدة من دفاتر التاريخ، والإعراض عن مفهوم الأمة العربية، لصالح مفاهيم تناسلت هويات قطرية بديلة لم تلبث أن تناسلت بدورها هويات أدنى جعلت الكثير من الأقطار العربية على حافة التفتيت والتقسيم، لا بل إن البعض منها قد دلف إلى قلبه مَثل السودان، وحين كانت تحضر على صفحات الحاضر أفعال ومآثر عربية: الانتفاضات الفلسطينية، وتحرير الجنوب اللبناني، وعظمة المقاومة العراقية الباسلة، وانتصار تموز عام 2006 كان الرد إنها ارتعاشات الجسد العربي في لحظات احتضاره.

القديم يحتضر والجديد يولد

تاريخ الأمة الحضاري الذي يساوي في مداه وعمقه نصف التراث الحضاري للإنسانية كما يقول المؤرخ البريطاني وول ديورانت في كتابه (قصة الحضارة) أبى إلا أن يمد لسانه، ويطلق قهقهته في غمرة الإمكانات المتضاربة، حيث القديم يحتضر والجديد يولد. والولادة تبدو عرضية كاملة النمو بمواصفات حضارية ورفعة أخلاقية أدهشت العدو قبل الصديق، تؤذن باستعادة العرب زمانهم المتماهي مع الزمن الإنساني، لا سيما أنهم دلفوه بأدوات العصر من خلال ثورتين متتابعتين لم تفصل بينهما سوى أيام قليلة: ثورة الياسمين، وثورة تموز الشعبية، ولا نعتقد أن التاريخ سيتأخر في قول كلمته من أن ثورة الياسمين هي طرقات الأمة العربية على بوابة التاريخ، وأن الثورة المصرية هي فتح بوابة التاريخ للأمة الذي تستعصي أبوابه على الفتح قبل أن يستوفي إتاوته. وفي نظرة أولية على الاستراتيجية المتبعة في الثورة الشعبية المصرية، نلاحظ ابتعادها عن الفعل الثوري الانفجاري العاصف كما شهدته البشرية في الثورة الفرنسية حينما ساد خط اليعاقبة، فعصف بكل شيء حتى أتى على ذاته ومهد بذلك الطريق للردة التروميدورية، وكذلك الثورة البلشفية الروسية بقيادة لينين، حيث كنست كل شيء قبل أن تنقلب ديكتاريوية مستبدة على يد جوزيف ستالين تعاملت مع إنسانها كأداة إنتاج لا أكثر، ما أفسح المجال لهزيمتها وانهيارها أمام خصمها اللدود الولايات المتحدة الأمريكية، ولعل هذه الدروس لم تغب عن أذهان الشباب المصري قائد ثورة تموز الشعبية، ثورة الخامس والعشرين من يناير وعقلها الجمعي وحاملها الاجتماعي، لذلك راح يمد بأبصاره إلى نموذج إرشادي يجنبه الوقوع في شراك أخطاء الثورات الأنفة الذكر، واهتدى، بتقديرنا إلى ما يمكن تسميته بنموذج “المجتمع المقاوم”. نموذج يقوم على تحريك الكتلة التاريخية الفاعلة في المجتمع المصري، أو بحسب تعبير المؤرخ والقانوني والفقيه المصري المستشار طارق البشري بـ“التيار الأساسي السائد”، ويقصد به: الإطار الجامع لقدر الجماعة الوطنية، والحاضن لهذه القوة، يجمعها ويحافظ على تعددها، بحيث يعبر عن القاسم المشترك لجماعات الأمة وطوائفها ومكوناتها السياسية والاجتماعية. ويتحرك المجتمع المقاوم في صبوته نحو أهدافه كما أمواج البحر، في تصعيد أفقي يأخذ شكل زيادة الخبرة عند الجماعة الوطنية المصرية من خلال البحث عن رقعة الإجماع الشعبي بين المصريين و الثوابت الإنسانية: حرية، كرامة، وعدالة اجتماعية، ويتميز بقدرته الفائقة على التحرك والاستمرار تحت معظم الظروف، وهو يتوهج حينا ويخبو حينا، لكنه لا ينطفئ أبداً، وإنسان المجتمع المقاوم، إنسان متحرر من قبضة الزمن الرديء، وينجز ذلك لا بتحطيم الزمان ونفسه، وإنما بتقبله كمعطى والعمل من خلاله ".تجدر الإشارة إلى أن المجتمع المقاوم ينطوي على مراحل عدة يمكن تلخيصها في ثلاث:

1- تشمل الاحتجاج الجماهيري واسع النطاق على سلطة الدولة، يستخدم فيها التظاهر بجميع أشكاله ودرجاته، وتضم هذه المرحلة أشكالا معينة من العنف الجماهيري والفردي، كما ترفع فيها شعارات ومطالب محددة تشمل إقصاء الحكومة أو النظام ذاته، وإحلال حكومة أو نظام آخر محله.

2- تقوم على العصيان المدني الشامل، ويعني ذلك في الجوهر مقاطعة الحكومة والنظام مقاطعة شاملة، إلى الحد الذي يعدم الأثر العملي لوجود سلطة غير مقبولة، ويسلبها ليس فقط شرعيتها، إنما أيضاً المزايا والفوائد المشتقة من وجودها، ولا تشمل هذه المرحلة جميع أشكال المقاطعة وعدم التعاون في مختلف المجالات فقط، بل وأيضاً محاولة تفكيك آلة الحكم ومؤسساته، وقد تنتهي هذه المرحلة بانتصار الكفاح المدني وأهدافه.

3- تشمل الانتشار العملي لسلطة بديلة في أي موقع محرر فعليا من السلطة القائمة، كما لا يستبعد الاشتباك في حرب أنصار واسعة النطاق أو محدودة باستخدام الأدوات المتاحة عمليا. وقد يستخدم كذلك تبعاً للظروف أسلوب حرب العصابات والإرهاب الثوري، كوسائل وأدوات تكميلية لهذا المنهج المدني الجماهيري من الكفاح ضد السلطة الغاشمة.

يقول المهاتما غاندي في (اللاعنف هو عقيدتي): من الأفضل أن نكون عنيفين إذا كان ثمة عنف في صدورنا، بدلا من أن نتلفع بغطاء اللاعنف لتغطية عجزنا. إن العنف أفضل في كل الأوقات من العجز.فهناك أمل أن يصبح الرجل العنفي لا عنفيا، و لكن لا أمل في العاجز.. جوهر المجتمع المقاوم الاعتماد المباشر على الجماهير.. على أبناء الشعب العادي، لا على طاقم المحترفين (سياسياً وعسكرياً) المعزولين عنها، من خلال عملية “تمكين الجماهير” كنقيض موضوعي “لنزع القوة من الجماهير”. ويتم هذا التبني في اللحظة التي تكتسب فيها الجماهير الثقة الإيمانية بقدرتها على الانتصار، ومن هذا المنظور يمكننا أن نؤكد أن مثل هذا النموذج يمكنه أن يؤدي كل وظائف الشرارة.

وبهذا الأسلوب، وعلى مدى زمني معين، يفكك هذا النموذج النخبة الحاكمة من الطبقة الجديدة، طبقة الحيتان: تحالف البيروقراطية الفاسدة والكمبرادور، أو ما يسمى في الأدب السياسي العربي المعاصر تحالف السلطة والثروة، عبر عملية استنزافية تستهلكه، ومن ثم تذر يره، ولاشك أن قابلية تحقيق ذلك يتطلب إنجاز العمليتين التاليتين:

1- تفسخ آلية الحكم وشل جهاز القمع على وجه التحديد، بحيث لا يصير القمع أو استنفاد طاقة الجماهير ممكنة.

2- قسم المجتمع السياسي (النخبة السياسية) الحاكم وإنضاج أزمته إلى الحد الذي يصبح فيه تجاوز هذا المجتمع لهذه الأزمة مشروطا بالتسليم بالمطالب التي يرفعها المجتمع المقاوم على المدى الطويل.

يتوقف إنجاز هاتين العمليتين على جملة الظروف المحددة بتكوين المجتمع المقاوم ودرجة تلاحمه أو صلابته الذاتية، وموازين القوى بينه وبين المجتمع السياسي.

النيل حين يعود ليتدفق في شرايين حياتنا العربية

إن إنجاز هاتين العمليتين يفسح المجال أمام صعود نخبة أكثر حداثة، وأكثر عمقا في الانتماء إلى الوطن والشعب، تخرج الدولة من إسار الشخصنة، بما تعنيه من سيطرة الفرعونية السياسية، متمثلة في شخص الفرعون على آلة الحكم وأجهزته، ووضعها تحت إمرته من خلال شخصنة الفئة المحيطة به من العاملين معه بإبقائهم في وظائفهم أطول فترة ممكنة، بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية، إضافة إلى السعي الدائم لتثبيت الأمر الواقع، ومقاومة التغيير، وإن أدعى الرغبة في حصوله، والبديل الذي تتوخاه الثورة المصرية كما يبدو من مفاعيل حركة أمواجها البشرية يقوم على تجنب السير نحو نمط التسلطية التنافسية مثلما حصل في الاتحاد الروسي في الانتقال الهادئ للسلطة من بوريس يلتسين إلى فلاديمير بوتين، ويتم ذلك من خلال تجاوز الثورة لما يسمى بمطالب السياسة الدنيا القائمة على مطالب محددة جغرافيا، أو مهنياً، إلى مطالب السياسة العليا التي تستهدف تغييراً لقواعد السياسية الحاكمة للمجتمع، أو تغيير مؤسسات الدولة وإسقاط الحكومة أو نظام الحكم، فضلاً عن التحرر من منظومة كامب ديفيد، واستعادة أرصدة القوة المصرية المتبددة على مذبح هذه الاتفاقية، ولاشك في أن تفجير أنبوب الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني في اليوم الحادي عشر من الثورة الشعبية لهو الدليل والمؤشر الأنصع الذي لا تخطئه العين. غني عن البيان أن اتفاقية الغاز الموقعة مع الكيان الصهيوني تشكل المثل الأكثر سفوراً على مدى تبديد الثروة المصرية، إذ من المعروف أن مصر تصدر الغاز إلى الكيان الصهيوني بمبلغ سنوي لا يتجاوز 164مليون دولار، بينما تستورد نفس الكمية بمبلغ يصل إلى ثلاثة مليارات دولار. غير أن الأهم من كل ذلك، هو خروج مصر من دور الكومبارس، والعجز عن المبادرة والفعل المؤثر، و الاكتفاء بردود فعل يغلب عليها الطابع العشوائي، واستعادة دورها القائد لأمتها باعتبارها الإقليم القاعدة، فمصر دولة قديمة تضم شعبا متجانسا، تجعلها أكثر الدول قدرة على التأقلم الخلاق والاستمرارية، لا سيما أنها تتمتع بموقع جغرافي فريد يطل على مداخل القارات الثلاث، يضعها في حالة تفاعل كثيف ومستمر مع إقليم تتوسطه، ومع عالم تقع في قلبه. ثم إن التجربة الممتدة من خروج مصر الرسمية من دورها العربي أظهر بما لا يدع مجالا للشك أن ضعف مصر لم يؤثر على الداخل المصري فحسب، بل على الوطن العربي بأكمله، إذ بات العرب في ظل هذا الخروج غير قادرين على التعامل بفاعلية مع الأزمات والتحديات التي تواجههم. من هنا فإن آمال العرب معقودة على نهوض مصر واستعادتها لعافيتها، ليتمكن الجسد العربي من مقاومة ما تسلل إليه من علل وأمراض أوهنته وأقعدته. الثورة الشعبية القائمة اليوم على أرض المحروسة، كنانة الله على الأرض، تضيف إلى أرصدة التاريخ المصري أرصدة جديدة تعزز قوة مصر الناعمة من خلال قوة المثال الذي تجترحه بإرادة شعبها، وإصراره على الحرية والديمقراطية والمشاركة في صنع مستقبل مصر، ولعل هذا المثال هو ما أرعب الحلف الصهيو- أمريكي، حيث استشعر أن قوة نار الثورة المصرية توشك على إحراق مصالحه وإنجازاته طيلة العقود الثلاثة ونيف الأخيرة، وتبدد كل ما تباهى بإنجازه إلى حد دفعت رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيوني السابق الجنرال عاموس يادلين إلى التباهي أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، من أن التأثير الصهيوني في مصر لو سقط حسني مبارك قابل للصمود لمدة خمسين عاما من بعده، لذا لم يكن من المستغرب أن تبادر الإدارة الأمريكية إلى تشكيل خلية أزمة لمتابعة التطورات الجارية على أرض المحروسة ومحاولة التأثير عليها، ولا يبدي الكيان الصهيوني قلقه من ذلك أن يخرج وزير حربه إيهود باراك، ويعلن أن المنطقة مقبلة على نظام إقليمي جديد، أليس هذا نهاية الحلم الصهيوأمريكي بشرق أوسط جديد؟ إنه النيل حين يعود ليتدفق في شرايين حياتنا العربية، حاملاً الخصب والنماء لأمة طال شوقها إلى خير أجناد الأرض.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 47 / 2165542

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165542 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010