الاثنين 31 كانون الثاني (يناير) 2011

عن مصر وفجرها الجديد

الاثنين 31 كانون الثاني (يناير) 2011 par طلال سلمان

من زمان ومصر ملقاة على رصيف تاريخها المجيد تنتظر فجرها الجديد.
استهلكت كل صبرها الطيب، متحملة ما يفوق أي احتمال، تجرعت الهزائم والمرارات وهي تشهد سيادتها واستقلال قرارها وكرامة موقفها تُباع في سوق النخاسة، وإرادتها تحاصَر بالهيمنة الأميركية المتمادية حتى بلوغ النخاع الشوكي، وكرامتها مرتهنة للابتزاز الإسرائيلي المفتوح منذ أن أسقطها حاكمها بخطيئة الصلح المنفرد المميتة.
نظرت إلى نفسها تتصاغر ونظامها يعمل على تقزيمها حتى باتت أقل تأثيراً من مشيخة نفطية، لا تملك قرارها بل تؤمر فتطيع كما تلك الدويلات التي استنبتتها الإرادة الأجنبية في غفلة من الأمة.

انعدم دورها بعدما صار الكل يعرف ويتصرف بواقع معرفته بأنها مرتهنة القرار، لا تملك أن تقرر حتى في شؤونها الداخلية. سياستها الخارجية تملى عليها إملاء، فتسارع السلطة للادعاء أنها إنما قررت بوحي مصالح البلاد العليا، مضيفة عبارات مفخمة عن السيادة، مستدعية ذكريات الدور الذي أضاعته، مستنفرة العصبية للادعاء أنها تحفظ عزة مصر.

تخلت عن دورها العربي القيادي بغير أن تكسب بالمقابل الشراكة في القرار الدولي، بما يتناسب مع وزنها لأن سلطتها أفقدتها هذا الوزن، فصارت مكابرتها فارغة من المعنى، وظلت ادعاءاتها بلا صدى.

تطاولت عليها إسرائيل، التي لم تغادر أبداً موقع «العدو»، فسكتت سلطتها، لم تقاوم ولم تعترض، بل شنت حملاتها الشعواء على من طالبها بحماية كرامة مصر وقداسة دماء الشهداء الذين افتدوها بأرواحهم، والذين كانوا سيعادلون سكان دولة عربية لو أنهم استمروا أحياءً يتوالدون!

تجرأ عليها العدو في الداخل، فحرم عليها إصدار قرارات كانت سوف تتخذها حفظاً لمصالحها الوطنية، وفرض عليها إجراءات تحقق مصلحة إسرائيل على حساب مصالح المصريين، فضلاً عن كرامتهم. هي مفتوحة لشبكات التجسس الإسرائيلية ولعملياتها التخريبية في الداخل، ومفتوحة لكل من تريد إسرائيل استيرادهم من الأفارقة، لا يهم أن يكونوا من الفالاشا أو من الباحثين عن فرصة عمل، أي عمل في مكان للمنتجات الإسرائيلية، حتى الزراعية، ولا من يراقب.
وتجرأ عليها العدو عند حدودها فأجبرها أن تظل مفتوحة أمامه، لا ترسل إلى سيناء كلها أكثر من مئات من رجال الشرطة، مع منع صارم للقوات المسلحة بأفرعها المختلفة من أن تتواجد ـ ولو رمزياً ـ في طول شبه الجزيرة تلك وعرضها... وأجبرها، مؤخراً، على فتح قناة السويس أمام غواصاته ومدمراته تعبرها بحرية مطلقة من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر حيث خليج العقبة وبالعكس.

ولندع الآن جانباً الحديث عن حصار غزة، وعن التعامل مع الشعب الفلسطيني وكأنه «عدو»، في حين يسرح العدو ويمرح في مصر المحروسة. ذلك أمر آخر سنرجع إليه في حديث آخر.

تضاءل وهجها الذي طالما أنار دنيا العرب وغمر بإشعاعاته بعض آسيا ومعظم أفريقيا. فقدت مركزها المتقدم علمياً، وأصاب الترهل جامعاتها الرسمية لتخلي موقعها الممتاز للجامعات الأجنبية. يقول العالِم المصري حائز جائزة نوبل، أحمد زويل، وهو خريج جامعة الإسكندرية، إن جامعته سنة تخرجه (1969) كانت أفضل مستوى منها في بدايات القرن الواحد والعشرين.

هجرها رواد الثقافة إلا قلة قررت الصمود بأمل أن مصر سوف ترجع إلى ذاتها في يوم غير بعيد. صمت المبدعون أو غادروها طلباً لملجأ يوفر لهم الخبز مع الكرامة. تحولت الصحف ذات التاريخ التنويري، إلى أبواق لنفاق الحاكم ولو بتزوير الصور التي رآها العالم كله بأصلها الكاشف عجزه وتهالكه وتفاهة دوره. ارتكبت أعرق صحيفة فيها فضيحة عالمية مسيئة بذلك إلى كرامة مصر قبل كرامة الصافة والصحافيين. شحب دور السينما، وكانت لمصر الريادة في مجالها، وانعدم دور المسرح وكان «نوارة» القاهرة، وتم تحويل دار الأوبرا التاريخية إلى كاراج للسيارات في قلب عاصمة المعز. خلا الجو للمهرجين ومنافقي السلطان وباذلي كراماتهم أمام قروش سواح المتعة. صار «شعبولا» أعظم مطرب في مصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وأسمهان وفريد الأطرش، محمد عثمان وعبده الحامولي وزكريا أحمد والعبقري سيد درويش. سادت الأغاني الهابطة والأفلام الهابطة والمسرحيات الهابطة.. بل أن النكات تدنى مستواها بينما المصريون مبدعون في فن التنكيت الذي يستخدم التورية للسخرية من الحاكم المتجبر. هاجر الشعر ولحقت به الرواية. سادت الأغاني الهابطة والأفلام الهابطة والكتابة الصحافية الهابطة بالنفاق إلى درك يأباه لأنفسهم المبتدئون في مجال الكتابة والارتزاق منها.

طردت الرداءة الإبداع. احتل المنافقون والنصابون المواقع القيادية في حزب السلطة وفي مؤسساتها. المتقدم في الموقع هو الأرخص والمضيف جديداً إلى فن النفاق. تم تحطيم المعايير والمقاييس ليمكن للتفاهة والجهل والأمية أن تحتل موقع الصدارة في المجالات جميعاً.

امتدت يد الحرام إلى المال العام. فتحت أبواب النهب المنظم بالقانون أمام السماسرة والنصابين الراشين المرتشين، الناجحين في بيع خبز أهلهم وعرق جباه آبائهم وأجدادهم لأغنياء المصادفات القدرية من أهل النفط والصفقات المريبة في مجالات المخدرات وتبييض الأموال وتزوير الحبوب المقوية للقدرات الجنسية! بيعت قلاع الصناعة الوطنية التي بنيت بالعرق، والدماء أحياناً، قبل الثورة، ثم بعدها خلال الستينيات، والتي وفرت حاجات الاستهلاك المحلي كافة إضافة إلى تصدّرها قائمة الصادرات، إلى مجموعات من شذاذ الآفاق والمضاربين الذين عقدوا الصفقات مع متمولين من الخارج يدفعون حفنة من المال بينما يقدم «أبناء البلاد» خبراتهم في أكل لحم بلادهم فإذا القسمة ضيزى...
أُقطعت الأراضي المستصلحة، أو تلك التي كانت قد استعيدت من الإقطاعيين الذين أخذوها كمنح ملكية، لبعض سماسرة أهل النظام، فبيعت مقابل قروش بعد أن سحبت إليها المياه، فصارت قيمتها بالمليارات... وصارت مصر، المجوعة والمفقرة، بالثمانين مليوناً من أهلها، عاصمة الثروات القياسية بتعاظمها خلال زمن قياسي لأصحاب الحظوظ من «رجالة» نظامها المستعدين لبيعها شققاً مفروشة لمن يدفع، ولو كان« إسرائيلياً!»

هتكت القوانين فالتهم البناء غير المرخص الأراضي الزراعية.. وفاضت أعداد السكان عن مدنهم وقراهم في الأرياف فجاءوا القاهرة التي ضاقت بهم فاتخذوا من المقابر سكناً، ثم وجد بعضهم في أصحاب النفوذ من يحميه من القانون فإذا «بالعشوائيات» تقوم أسواراً من الفقراء، تكاد تكون مدناً لعدد سكانها وهي ليست من المدن في شيء. كل ما فيها مخالف للقانون وبغير ترخيص، لكن إزالتها تشبه الحرب الأهلية.

آخر ما ابتدعه فن النصب أن يقدم بعض أصحاب النفوذ على بيع جزيرة لها قيمة أثرية عظمى، عند مشارف بحيرة ناصر في أسوان... وليس إلا في اللحظة الأخيرة حتى تم التنبه إلى هذه الجريمة فأوقفت.

لا تحتاج الانتفاضة الشجاعة في مصر إلى حيثيات تبرر اشتعالها، بل لعلها تحتاج إلى تبرير لتأخرها إلى هذا الوقت.
قد تحتاج، بالمقابل، إلى حديث في ضمانات نجاحها في الوصول إلى أهدافها، وأخطرها ليس إسقاط هذا النظام المتهالك بعجوزه الذي يأبى أن يترك السلطة موفور الكرامة، بل البديل الذي تطلبه مصر وتحتاجه في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ مصر.

وذلك حديث آخر يحتاج إلى توغل في التفاصيل الداخلية وفي الضغوط الأجنبية الهائلة، وفي التخلي العربي الذي انتبه بعض قادته إلى الكارثة التي تحيق بهم الآن فهبّوا يساندون النظام العاجز عن حماية نفسه، لا سيما وقد تخلت عنه عاصمة الهيمنة الكونية واشنطن، فأرهبتهم وجعلتهم يفكرون بمصيرهم الذي قد لا يختلف عن مصيره.
المهم أن مصر تستعيد وعيها بعدما استعادت روحها وبدأت رحلتها في العودة إلى دورها الذي لا يقدر على لعبه غيرها، والذي تسبب في كثير من النكبات القومية نتيجة غيابها عنه وقصورها عن أدائه بسبب القيود التي فرضت عليها والتي آن أوان تحطيمها، لأن الشعب أراد..

والتجربة التونسية البهية إلى اكتمال..



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165371

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165371 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010