الاثنين 31 كانون الثاني (يناير) 2011

مسألتان في مستقبل الثورة التونسية

الاثنين 31 كانون الثاني (يناير) 2011 par د. عبد الاله بلقزيز

يوفر قرار قيادة الجيش في تونس بحماية الثورة ومكتسباتها ضمانة قوية لصونها من مخاطر الالتفاف عليها من وراء حال عدم استقرار العلاقة بين الشارع والحكومة المؤقتة، ويقدم بعض الطمأنة لهواجس نمت في الأيام الأخيرة وكان موضوعها ولا يزال الخوف من مشهد الفراغ الدستوري في ما لو سقطت الحكومة القائمة تحت وطأة الضغط الشعبي . والحق أن المرء إذ يجد في قرار الجيش درعاً جديدة واقية للثورة من خارجها الحركي، يخشى من أن تتفاعل تناقضات قواها من الداخل على نحو قد يأخذ الأمور نحو الفراغ الدستوري، ولذلك كان الاقتران في كلام قيادة الجيش بين طمأنة المجتمع على مستقبل الثورة وعلى تحذيره، في الوقت عينه، من خطر الفراغ اقتراناً مشروعاً ومتوازناً ومسؤولاً .

ليس لأحد منا، وخاصة من خارج تونس وأجواء ثورتها الشعبية العظيمة، أن يملي على شباب الثورة ما عليهم أن يفعلوه وما عليهم أن يتجنبوه، حتى إن كان مثلنا من أنصار تلك الثورة، فهم أدرى بشعاب قضيتهم ومطالبهم، وهم أقاموا من أدائهم الرفيع أوفر الأدلة على نضجهم ومسؤوليتهم عن مصير ثورتهم، ورفعوا عن أي واحد منا شعور المخافة . غير أن واجب النصرة، ومشاعر الحرص على مستقبل الثورة الديمقراطية، يفرضان علينا أن نقول رأياً صريحاً في ما بتنا نخشاه ونحن نعاين هذه الحال من الاستقطاب الحاد في تونس بين فريقين يعتركان على النفوذ في البلاد . ونحن هنا نبسطه في نطاق ما يسمح به حيز مقالة في مسألتين رئيستين وشديدتي الأهمية والحيوية، بل والمصيرية، في هذه اللحظة من تجربة الثورة المستمرة فصولاً ووقائع:

* أولاهما تتصل بما نبهنا عليه من محاذير، وأدعاها إلى الحيطة والتيقظ محذور الفراغ السياسي والدستوري الذي يمكن أن يفاجئ الثورة في أية لحظة إن استفحلت استفحلت أزمة العلاقة بين “الشارع” والحكومة وانتهت الأمور إلى انفراط الأخيرة، وهذا الاحتمال وإن لم يكن سهل التحقق في اللحظة الراهنة ليس عسير الإمكان، خاصة إن وجد من ينفخ في جمره من خارج الثورة . عليّ هنا أن أتحرى الوضوح والدقة طلباً لرفع الإبهام عن موقفي وموقف كثيرين غيري ممن يتقاسمون المخاوف عينها . لست أعتقد أن الحكومة المؤقتة القائمة اليوم هي “الحكومة الثورية” التي ترتضيها الثورة وتجد فيها صورتها السياسية والقيادية . فالثورة لم يطلقها حزب، ولم يقدها حزب أو حلف حزبي، ولم يظفر بها كي يقيم حكومة من هذا النوع . لقد كانت ثورة شعب بكامله من دون قيادة حزبية . لا يجوز أن يقال عنها إنها ثورة عفوية، لأن معنى ذلك أنها غير منظمة، والحال إنها كشفت عن مستويات من التنظيم لم يتوقعها أحد وإنما الأدق أن يقال إنها انطلقت واتسعت نطاقاً وانتصرت من دون قيادة حزبية لها .

إنها ليست “حكومة ثورية” لأن الثورة عانت من حال من الفراغ القيادي، ولأن الذين يكوّنون هذه الحكومة ليسوا قادة للثورة وإن كانوا ممن صنعوا مقدماتها وأسبابها ووعيها وشعاراتها: إن سلباً وهم الأقل في أعضاء الحكومة أو إيجاباً: وهم الأكثر فيها من المعارضين السابقين، سياسيين ونقابيين وحقوقيين وناشطين مدنيين . هي، بهذا المعنى، ليست الحكومة “المثالية” التي يرضاها التونسيون وتناسب تطلعاتهم الكبرى، لكنها قطعاً أفضل ما هو متاح في الظرف الراهن . هي، على الأقل، جنبت البلاد ويلات الفراغ السياسي والدستوري الذي كان من الممكن أن يقع بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي . وهي قامت باتفاق بين سياسيي تونس من حساسيات ومشارب مختلفة ولم ينصبها احتلال أجنبي كما حصل في العراق (“مجلس الحكم الانتقالي” ثم “الحكومة المؤقتة”) حتى تتهم في وطنيتها . نعم، هي ناقصة على صعيد التمثيل، لكنها شديدة التفاعل مع مطالب الثورة وسريعة التجاوب، ويفتح برنامجها أفقاً أمام انتقال هادئ وسلس للسلطة، إلى الشعب عبر من سيختاره في الاقتراع الديمقراطي الحر . هذا طبعاً من دون أن نتحدث عن بعض حقائق تكوينها ومنها أن في جملتها رجالاً كانوا رموزاً للمعارضة الديمقراطية الشجاعة في عهد النظام الظالم، وأن تاريخهم النضالي ومقامهم الرمزي أعلى من أن يزايد عليه .

ننتقل من هذه المقدمات إلى القول إن الأوان آن للانتقال من الجدل حول كينونة الحكومة إلى حوار حول نطاقها التمثيلي وبرنامجها السياسي الانتقالي . نحن لا نقول إن مطلب حلها لا يفتح أفقاً أمام تشكيل بديل حكومي أوسع تمثيلاً، وإنما نخشى من ألا يكون هذا الأفق هو الإمكان الوحيد الذي ينتجه إسقاط هذه الحكومة، أي بالتبع نخشى أن يكون حلها مدخلاً إلى الفراغ حين يتعذر التوافق على ترتيب سياسي بديل . لذلك نميل إلى الاعتقاد أن الخيار الأكثر واقعية والأقل كلفة هو الحوار حول تطوير تركيبتها وتوسيع تمثيليتها وترشيد جدول أعمالها السياسي الانتقالي .

وثانيتهما تتصل بالحاجة إلى خروج المجتمع السياسي التونسي، والحزبي منه بخاصة، من حال الجدل السياسوي حول الحكومة ومن يكون فيها، ومن لا يكون، بما يستجده ذلك الجدل على القوى السياسية من استنزاف للجهد والوقت، وما يكرسه من عادات وقيم غير سليمة وغير صحيحة في العلاقات المتبادلة بينها . .، إلى حال أخرى من الجدل الخصب والضروري حول مستقبل البلد وثورته . والإطار الأنسب لذلك ليس الحكومة، بما هي جهاز تنفيذي مدعو إلى إدارة مرحلة انتقالية تمهيداً للانتخابات، وإنما مؤتمر وطني تشارك فيه القوى السياسية والنقابية والحقوقية والمدنية كافة، يكون مدار مناقشاته على مسألة المستقبل الديمقراطي لتونس بعد ثورتها المظفرة، وينصرف إلى بناء رؤية وطنية وهندسة سياسية لذلك المستقبل على قاعدة التوافق الوطني بين الأطراف كافة .

نخشى على تونس من أن تستقبل غدها الديمقراطي من دون رؤية شاملة للمستقبل يتواضع فيها التونسيون على المبادئ قبل القواعد والآليات، أو أن يقع ترحيل هذه المهمة الحيوية إلى آماد لاحقة تحت عنوان حاكمية صناديق الاقتراع واقتران أي خيارات سياسية بنوع النتائج التي ستسفر عنها . وما أغناني عن القول إن النخبة الفكرية التونسية تدرك قبل غيرها وربما أكثر من غيرها أن الديمقراطية ليست آليات عمل نظيفة فحسب، وإنما هي في المقام الأول رؤية مجتمعية للسلطة والمجال السياسي وللعلاقات المتبادلة بين الدولة والمجتمع، وأن الديمقراطية لا تنجح في مجتمع لمجرد أنها تؤمّن انتخابات حرة ونزيهة وتداولاً للسلطة إن لم تقم على مشروع مجتمعي متعاقد ومتوافق عليه، هو الذي يجري عليه التنافس والتدافع السلمي والتداول على مسؤولية تحقيقه عبر سلطة الدولة .

لعلها الورشة الفكرية السياسية التي تحتاج إليها تونس اليوم، خلال هذه الفترة الانتقالية، لتزويد مستقبلها بالأدوات الضرورية للبناء والتحصين . وإذا كانت الثورة تنتظر شيئاً من نخب المجتمع تسهم به فيها وفي ترشيد مسيرتها، فهي تنتظر مثل هذه الورشة التي توفر لها رؤية ودليل عمل .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165884

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2165884 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010