الأحد 16 كانون الثاني (يناير) 2011

أبعد من التفجير وأخطر من الفتنة

الأحد 16 كانون الثاني (يناير) 2011 par معن بشور

الإجماع المصري والعربي والإسلامي الغاضب ضد جريمة تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية وضد كل مظاهر العنف الطائفي أو المذهبي في مصر أو العراق أو غيرهما من دول عربية أو آسيوية أو إفريقية يمكن أن يؤسس لثقافة جامعة نابذة لكل أشكال العنف الأهلي، وأن يمهد لإطلاق آليات تحصين مجتمعاتنا بوجه كل أنواع الفتن والاحتراب المرتكز على إثارة عصبيات جامحة منفلتة من كل عقال، بل يمكن له أن يستعيد من تاريخنا العربي والإسلامي العديد من الصور والسير التي يمكن الاقتداء بها في مواجهة لحظات مرعبة وخطرة كالتي نعيشها ونحن نرى كل هذا العنف الموجه ضد بيوت عبادة، إسلامية ومسيحية، وضد مدارس أطفال وضد تجمعات بشرية وأسواق شعبية، وبذرائع واهية لا تصمد برهة واحدة أمام آيات كريمة “ولا تزر وازرة وزر أخرى” أو “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً” .

لكن السؤال يبقى لماذا مصر بالذات؟ ولماذا استهداف الشعب المصري بأسره من خلال المكوّن القبطي الذي كان على مدى التاريخ جزءاً فاعلاً وطليعياً من المجتمع المصري في سنوات الكفاح ضد الاستعمار، كما في ساحات الإبداع الحضاري وفي ميادين مواجهة العدوان؟

بل هل انتقل مخطط تفتيت الأمة من دول الأطراف إلى مركز الأمة وقلبها في مصر، والتي لم يكن ممكناً أصلاً استفراد أقطار الأمة الأخرى لولا النجاح في اصطيادها “كسمكة كبيرة” كما وصفها وزير خارجية أمريكا الأسبق، ومهندس مخططات التفتيت منذ أوائل السبعينات، هنري كسينجر، الذي ركز على إخراج مصر من الصراع مع العدو، خصوصاً بعد العبور التاريخي لقناة السويس الذي قام به جيش مصر في حرب أكتوبر/ تشرين الأول ،1973 جنباً إلى جنب مع جيش سوريا وبقية الجيوش العربية؟

بل هل يمكن قراءة هذا الاختراق الأمني العنيف لمصر بمعزل عن اختراقات سياسية واستراتيجية واستخباراتية لأمن مصر القومي؟

فقبل أسابيع قليلة استفاقت مصر على اكتشاف أجهزتها الأمنية لشبكة خطرة عاملة لحساب الموساد، لم يكن نشاطها محصوراً بمصر، وإنما امتد إلى بلدان عربية أخرى مثل سوريا ولبنان، في تأكيد جديد على أنه مع هذا النوع من الأعداء لا تنفع كل معاهدات السلام، ومحادثات “الصداقة”، ومواقف الدعم والإسناد، حتى ولو حملت في طياتها أقسى أنواع التحدي لمشاعر المصريين والعرب . فالجاسوسية الصهيونية التي حاولت اختراق حصون “الداعم الأكبر” للكيان الصهيوني في واشنطن عبر الجاسوس بولارد لن تتردد طبعاً عن اختراق “الاتصالات” في القاهرة وصولاً إلى اختراق الأمن الوطني المصري ذاته .

وقبل أشهر أيضاً، وجد المصريون أنفسهم أمام أزمة جديدة تتعلق بمياه النيل نفسه، واهب الحياة لمصر، حين طالبت دول المنبع الإفريقية بإعادة النظر باتفاقيات تقاسم مياه النيل، وهو مطلب يستحق المناقشة في كل الأحوال، لولا اقترانه بخطاب حاد وعالي النبرة لكبار المسؤولين الاثيوبيين خرجوا عن أصول العلاقة التاريخية القديمة بين مصر والحبشة ليتحدّوا مصر وقدراتها وهيبتها في أمر كان بالإمكان معالجته بهدوء وبالطرق الدبلوماسية المعهودة .

وها قد وجد المصريون أنفسهم، ومعهم كل العرب والأفارقة، أمام تقسيم لبلد عربي مهم كالسودان، وهو تقسيم يدرك المصريون قبل غيرهم مخاطر تداعياته على أمنهم القومي، وأمنهم المائي على حد سواء، بل هو تقسيم يدرك المصريون ومعهم كل العرب والأفارقة أنه لن تكون تداعياته محصورة في السودان بل سيكون نموذجاً معتمداً في العديد من الدول العربية والإفريقية المحكومة بالفقر والضعف والتخلف والتفتيت في عالم يعتبر أن التكامل والوحدة هما حق الشعوب “المتحضرة” والقوية، فيما التفتيت والتمزق هما سمة الشعوب الضعيفة و”المتخلفة” بل “وواجبها” أيضاً، وهو عالم وضع قوانينه منظرو المحافظين الجدد حين شجعوا كل عصبية إثنية أو دينية أو عنصرية على تقرير المصير حين تكون مثل هذه العصبيات في بلادنا، وحرموا عليها “تقرير المصير” إذا كانت في دول أوروبية أو أمريكية، تماماً كما حرّموا على العرب السعي لوحدة قومية بين أقطارهم، فيما شجعوا أمم الغرب على وحدة تتجاوز قومياتها رغم تاريخها المشحون بالصراعات والحروب .

ومن هنا تكتسب الجريمة المروعة التي استهدفت قبل أيام مصر كلها، وليس الأقباط وحدهم، أبعاداً استراتيجية متصلة بالأمن القومي لمصر والأمة بأسرها ولا تنحصر فقط بالآثار المؤلمة على العلاقات بين مكونات مجتمع واحد .

ومن هنا نتساءل أيضاً، لماذا لم تعرف مصر عبر تاريخها مثل هذا النوع من الجرائم، وهذا المستوى المتدني من الخطاب الطائفي البغيض؟ لماذا لم نرَ هذا الاحتقان الطائفي في زمن جمال عبدالناصر القومي العربي مثلاً أو قبله في زمن الوفد المصري الذي كان يعتز أن بين أكبر قادته في مواجهة الاستعمار البريطاني زعيماً قبطياً كبيراً كمكرم عبيد رفيق مصطفى النحاس وتلميذ سعد زغلول والذي قال مرة (أي عبيد) “أنا مسيحي ديناً ومسلم ثقافة وحضارة” .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165379

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165379 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010