الثلاثاء 20 نيسان (أبريل) 2010

مَن يصر على عدم التخلي عن منطق التفاوض فليطرحه بشكل فعّال

الثلاثاء 20 نيسان (أبريل) 2010

مقابلة مع عزمي بشارة

 ما مغزى إعلان أبو مازن عدم ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ وما هي التداعيات المحتملة على الوضع الفلسطيني في حال التزم إعلانه؟

- تهديده تعبير عن مأزق، وهو تورط وربما لن يتمكن من التراجع عن هذا الإعلان. هنالك محاولات أوروبية خجولة لإنزاله عن هذا السقف، لكن لا توجد محاولات أميركية، فالأميركيون لا يريدون أن يدفعوا له ثمناً سياسياً كي يتراجع عن هذا الإعلان. من الواضح أنه فشل، لكنه لا يريد أن يستخلص النتائج. وإذا لم تنفع المفاوضات، فالمطلوب هو مزيد من المفاوضات، غير أنه يأمل بأن مكانته واستراتيجيا التسوية المثابرة التي اتبعها ستدفعان العالم إلى أن يهب لنصرته، وأن يضغط على نتنياهو بحيث لا يذهب ما فعله مع أولمرت هباء منثوراً. وقد بالغ في تصوير حجم التقدم التفاوضي مع أولمرت، بما يتناقض مع إنكاره التقدم في السابق. فهذا “العالم” نفسه (والمقصود أميركا وأوروبا) لم تهتز قصبة له عندما أعلن رئيس السلطة الفلسطينية “عدم رغبته” في ترشيح نفسه. لقد استخدمه الأميركيون، ولا يبدو أنهم سيذرفون عليه دمعة، بل سيفكرون فوراً في البديل. إنه عزيز عليهم فعلاً، لكن معزّته ليست شخصية. حليفهم في مأزق؟ هذا صحيح، إلاّ إنه لا يهدد بالعودة إلى الانتفاضة، ولا حتى بالحجر. ونتنياهو ينتظر الآن أن يستخلص النتائج. لم تكن إسرائيل في تاريخها كله على هذه الدرجة من الوقاحة والثقة بالنفس.

 ما رأيك في “الحل” الذي عرضه سلام فياض لمقاومة الاحتلال في وثيقته الشهيرة، وفي الشرح الذي طرحه في مقابلة نشرناها في العدد السابق من مجلتنا، والذي أعلن فيه أن الفلسطينيين سيقدمون على إعلان قيام الدولة الفلسطينية من طرف واحد بعد عامين؟

- توالت مؤخراً تداعيات انتخاب نتنياهو واتضحت، للمرة الألف، طبيعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية حتى في عهد أوباما. وبالعامية “حاصت” القوى السياسية الفلسطينية، أو دارت في مكانها بعصبية وحيرة ضاربة أخماساً بأسداس، وتتالى الإدلاء بمواقف وتصريحات تعبِّر عن حالة من عدم الارتياح الشديد، واستنجد رئيس السلطة الفلسطينية بما يسمى “المجتمع الدولي” لأنه لا يمكنه الاستمرار بهذه الطريقة، ملوّحاً بعدم رغبته في الترشح مرة أُخرى. وفي غضون أسبوعين تطرق ناطقون باسم السلطة الفلسطينية إلى إمكان حل السلطة مرة، وإلى حل الدولة الواحدة مرة ثانية، وإلى التوجه إلى مجلس الأمن لترسيم حدود الدولة الفلسطينية، أي لترسيم حدود الرابع من حزيران/يونيو مرة ثالثة، وهي حدود معروفة لا تحتاج إلى ترسيم، لأنها هي نفسها خطوط الهدنة التي رسمتها المعركة في سنة 1948، والتي وُقّعت في رودس مع الجيش الأردني سنة 1949، وأهمها خطوط الهدنة في داخل القدس نفسها، وخرائطها موجودة وجاهزة في الأرشيفات. هي إذاً خطوط واضحة خلافاً لحدود التقسيم في سنة 1947، والتي رسمتها وصاغتها الأمم المتحدة من لا شيء، وقد صارت بدورها في الأرشيفات.

إن التوجه إلى مجلس الأمن تحول من “أضعف الإيمان” الذي تسخر منه الثورة الفلسطينية إلى خيار يهدِّد به الفلسطينيون خصومهم، غير أن هذا الخيار هو الأكثر جدية من وجهة نظر السلطة، والأكثر انسجاماً مع استراتيجيتها. أمّا الخيارات الأُخرى فلا تنسجم مع تصورها لنفسها وللعالم، وهي تبدو كأنها مجرد تلويح وتهديد في مشادة أكثر مما تشبه التكتيك السياسي، فضلاً عن الاستراتيجيا. فالدولة الواحدة حل يُطرح لمصلحة الشعبين، وعلى من يجدّ في مثل هذا الحل أن يُقنع، لا أن يُهدد به، كأنه يهدد بحرب لا يقصدها أصلاً، وذلك كي يُنفِّر الآخرين منه. أمّا فكرة حل السلطة فحبذا لو كانت واقعية، وحبذا لو كان حلها ممكناً، ذلك بأن السلطة هي كل ما يملكه أربابها وربيبوها، وهم لن يتخلوا عنها. وإذا تخلوا عنها (في خيالنا الجامح طبعاً)، فإن إسرائيل لن تقبل بأن تعود إلى الاحتلال المباشر، وستنشأ حالة فراغ تملؤه الأجهزة الأمنية. والمرشحون لـ “إنقاذ الشعب الفلسطيني” من حالة الفوضى بدعم غربي وإسرائيلي كثر.

أمّا اقتراح التوجه إلى مجلس الأمن لاستخلاص قرار بإقامة دولة وترسيم حدودها، فهو خيار أكثر جدية، ذلك بأنه ينسجم مع اللغة السياسية لأصحابه، لكنه للأسف عبارة عن “تخريجة”، وليس مخرجاً مشرّفاً. وهذه التخريجة ليست مشرِّفة لأنها تعبر عن مأزق سلطة لا يمكنها العودة إلى المفاوضات مع استمرار الاستيطان، ولا يمكنها العيش سياسياً من دون مفاوضات. ومن هنا، فإن السلطة تستدر عطفاً ودعماً، وأقطابها يتحركون دولياً لتحريك الأوضاع في نوع من الحركة الدبلوماسية غير المدعومة بخيارات بديلة من خيار التفاوض. وهكذا، فإن “العالم” لا يرى تهديداً، وبالتالي، فإن الحركة في مجلس الأمن محرجة قليلاً له ولـ “العالم”، لكنها في النهاية ستنتهي، وسيعود ممثلو السلطة إلى المأزق نفسه، ذلك بأن مجلس الأمن لا يغيِّر موازين القوى، ولا الواقع على الأرض، ولا حتى حين يرسل قوات لتغيير الواقع وإسقاط دول، مع أنه من المعروف أن الذي يقوم بذلك هو الولايات المتحدة وحلفاؤها من خلال استخدام مجلس الأمن. ولا يبدو أن الولايات المتحدة عازمة على استخدام مجلس الأمن لإقرار عقوبات على إسرائيل، فضلاً عن إرسال قوات لتحرير مناطق الضفة الغربية والقدس التي سيعلنها مجلس الأمن دولة. وبالعكس، فإن ثمة احتمالاً جدياً في أن تحبط الولايات المتحدة مثل هذا القرار باستخدام حق النقض، بذريعة أن اقتراح القرار الفلسطيني هو دعوة إلى “التدخل” في المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة بين “الطرفين”. ومنذ أوسلو، تصر الولايات المتحدة على أن الهيئات الدولية يجب ألاّ تتدخل في عملية السلام، وأن عليها أن تترك “الطرفين” يتفقان. وهذا المنطق هو أحد أهم أبعاد أوسلو من وجهة نظر إسرائيل. ففي أوسلو، خرجت منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.) عن تقليد المطالبة بتطبيق القرارات الدولية إلى المفاوضات بين “طرفين” كاملي الإرادة، متساويين كذباً، متكافئين زوراً، بوسيط محايد زوراً وبهتاناً، هو الولايات المتحدة. وها هي السلطة تدرك للمرة الألف منذ عقدين أنها في ورطة ومأزق. وهي تحاول استثارة الشفقة والتعاطف القائمين على تقدير موقفها وضرورة إنقاذها.

في أي حال، لنفترض أن مجلس الأمن أقر التوجه الفلسطيني بإعلان الدولة. ماذا سيجري بعد ذلك؟ لقد أقرت هيئة الأمم المتحدة حدوداً أفضل كثيراً هي حدود التقسيم لسنة 1947، ووافقت عليها الحركة الصهيونية في حينه، فماذا حدث؟ احتلت إسرائيل أغلبية القسم المقرر أن تقوم عليه دولة عربية في فلسطين. إن مشروع إعلان الدولة في مجلس الأمن سيكون تراجعاً عن قرار التقسيم، وهو القرار الدولي الوحيد الذي يتضمن حدوداً مرسّمة بين الكيانين، وسيكون من دون حق العودة. ولن تطبق إسرائيل قرار مجلس الأمن، وإنما ستدعو السلطة إلى العودة إلى التفاوض، لأن لا شيء يلزمها إلاّ المفاوضات برعاية أميركية، وسترد عليه بإعلان ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، ثم تدعو إلى العودة إلى التفاوض.

لقد أُعلنت دولة فلسطينية في سنة 1988 في الجزائر، لكن قلة تتذكر أن الإعلان جاء بناء على قرار التقسيم لعام 1947. أمّا الإعلان الحالي، فالمرغوب فيه هو أن يقتصر على حدود 1967 بناء على قرار مجلس الأمن؛ أي أن السلطة “تهدد” إسرائيل بالتراجع عن الإعلان السابق!! وستبقى السلطة في حدودها الحالية، أي أنها ستتحول، في أفضل الحالات، إلى دولة محاصرة بحدود موقتة على نمط اقتراح موفاز. غير أن ذلك سيبدو كأنه إنجاز وتحدّ. ويستشهد البعض بالغضب الإسرائيلي من التحرك الفلسطيني لإثبات صحته، لكن هذا ليس دليلاً على الإطلاق، إذ من الطبيعي أن تعارض إسرائيل، وأن تستغل الإعلان كي تتخذ خطوات أحادية الجانب من طرفها. فهذه الدولة، خلافاً للعرب، ترى في كل شيء خسارة لها، وتنازلاً منها، ولا تتوقف عن البكاء والتمسكن، حتى حين يرى العرب قرار مجلس الأمن انتصاراً لهم، مع أنه لن يطبق.

 حسناً، هذه تخريجة، لكن ما هو المخرج المشرف بنظرك؟

- إن أي مخرج مشرف يتطلب تغييراً ما في الاستراتيجيا التي قادت إلى المأزق. فحين تصل قيادة ما إلى وضع تهدد فيه بالاستقالة، وتصوغ في الوقت ذاته، ثلاث استراتيجيات متضاربة، فهذا يعني أنها في مأزق. ومأزق القيادة السياسية إذا ارتبط بخيار سياسي يكاد يكون تاريخياً، وإذا ما دافعت هي عنه، وربطت مصيرها ومستقبلها به في مرحلة تاريخية معينة، هو مأزق لهذا الخيار. وإذا تورط قسم كبير من نخب الشعب الفلسطيني وجمهوره في هذا الخيار، فإن المأزق هو مأزق شعبي. والشماتة في مثل هذا الحال حماقة، فحال مرتكبها كحال المتشفي بمأساته.

تتطلب المسؤولية السياسية إذاً حواراً عربياً وفلسطينياً للبحث عن مخارج. وأقول مخارج مشرفة، لا حلولاً ولا استراتيجيات، لأن الاستراتيجيا غير مرتبطة بالوعظ والتبشير، بل بالهدف، وبمقومات هذه الاستراتيجيا المادية، وبعناصرها وحَمَلتِها، وبالإرادة أيضاً. وهذه كلها لا يمكن فرضها. ففي رأيي، لا يوجد حل لقضية فلسطين، فإمّا أن توجد استراتيجيا مواجهة عربية، وإمّا لا توجد. والمقاومة هي حالة بينية لا بد من توفرها إلى أن توجد استراتيجيا مواجهة عربية. ومهمة المقاومة هي: تحرير الأرض بالمعنى القطري للكلمة؛ منع تحوّل إسرائيل إلى حالة طبيعية في المنطقة؛ تقديم نماذج ناجحة في مواجهة إسرائيل؛ تقديم الدليل على أن هذه المواجهة ممكنة؛ تطوير إرادة المجتمعات العربية؛ منع فرض حلول غير عادلة؛ وغيرها. وقد حققت المقاومة إنجازات في هذه المجالات. ولا يمكن فرض حلول أو استراتيجيات على من تبنى حتى الآن استراتيجيا محددة جداً ومناقضة لما نقترح، لكن لا بد من طرح المخارج عليه كي لا تُفسر الأمور بأن جزءاً من الشعب الفلسطيني ينتظر فشل الجزء الآخر كي يتفرج على عملية سقوطه، أو ذهابه في طريق الفشل إلى نهاية يدفع الجميع ثمنها. لقد وُقِّع أوسلو، لكن الذي دفع ثمنه هو من وقَّعه ومن عارضه. وحبذا لو طُرحت مخارج لعدم توقيعه من جانب الدول العربية، بدلاً من الدفع في اتجاهه أو انتظار فشله.

لن تعود السلطة الفلسطينية إلى خيار المقاومة، فالدول العربية ما زالت غير راغبة في تبني خيار المواجهة من جديد. لكن في هذه الأثناء، كيف يمكن أن تقترح على جزء كبير من الشعب الفلسطيني مخارج مشرّفة؟ لا بد أولاً من الاعتراف بفشل طريق أوسلو، والتلويح الجدي يكون بالعودة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية. هذا تهديد، وهو تهديد جدي، ويجب أن يُنفَّذ، لأن البديل قاد إلى مأزق. ثم لا بد من وضع برنامج سياسي مشترك يلزم الجميع، في مقابل تخلي السلطة عن التنسيق الأمني مع إسرائيل. أمّا بالنسبة إلى موضوع العودة إلى المفاوضات، فيجب أن يكون واضحاً أن لا عودة إلى المسارات المنفصلة لأنها تتيح لإسرائيل الاستفراد بكل طرف على حدة، بل إيجاد وهم في أن هناك تنافساً معيباً بين المسارات ليس له وجود حقيقي. ومن هنا، فإن أي خيار تفاوضي لا بد من أن يكون بمنطق مبادرة السلام العربية الشاملة لفلسطين وسورية ولبنان معاً، إذ لا يمكن التفاوض فلسطينياً بشأن القدس، وبشأن حق العودة، كما أنه لا يجوز أن توقّع سورية ولبنان اتفاقات سلام مع إسرائيل بناء على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 من دون حق العودة. ومن يشكك في نيات سورية بهذا الشأن فليلزمها بالتنسيق معه من خلال حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وفي مسار تفاوضي عربي واحد.

لن تقبل إسرائيل بما نطرحه من مخارج، وأنا أرى وجوب إلغاء مبادرة السلام العربية، إلاّ إن هذا الكلام هو مخرج لغيرنا بمنطقه هو، منطق التفاوض، وليس بمنطقي أنا.

وفي حال فشل مثل هذه المبادرة، وهي ستفشل، فإن على الدول العربية أن تدعو الأردن ومصر إلى إلغاء السلام المنفرد مع إسرائيل، ذلك بأنه في مثل هذه الحالة فقط، يمكن طرح خيارات بديلة؛ خيارات مواجهة يقود إليها منطق التفاوض، وهي خيارات تحول المأزق العربي إلى مأزق إسرائيلي وأميركي، وتطرح حلاً لاستعادة التضامن العربي بلغة لا يريد النظام الرسمي العربي حالياً التخلي عنها. حسناً، من يصر على عدم التخلي عن منطق التفاوض فليطرحه على الأقل بشكل فعّال يُحرج إسرائيل وأميركا فعلاً، ويقلقهما، ويلزم العرب بطرح خيارات أُخرى. وباختصار لا مخرج مشرفاً من دون التخلي عن مسار أوسلو.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 30 / 2165321

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165321 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010