الخميس 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010

موروثات في سياسة مصر الخارجية

الخميس 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010 par جميل مطر

كانت الانتخابات درساً للنظام الحاكم في مصر، ودرساً لأهل البلد، ناخبين كانوا أو متفرجين، هؤلاء الآخرون هم الأكثرية، وبينهم من كانوا مشاركين وضاقت بهم سبل المشاركة فتحولوا إلى متفرجين، هؤلاء المتفرجون هم أنفسهم الذين تضيق بهم الآن سبل الفرجة أو صاروا يملون منها، غير معروف تماماً إلى ماذا يتحولون؟ ولكن حتماً سيتحولون .

بالانتخابات وما جرى فيها وما أسفرت عنه وبأحداثها العالمية، وبعاصفة نشر موقع “الويكيليكس” لآلاف الوثائق الدبلوماسية الأمريكية، دخلت مصر دائرة حرجة اجتمع فيها عنصران، عنصر السلوك الداخلي للنظام في مصر، وهو السلوك الذي يعكس بوضوح فلسفة الحكم في مصر ونظرته إلى الشعب وإلى نفسه وإلى العصر الذي يعيش فيه . . كان سلوك الحزب الحاكم في الشأن الداخلي محبطاً لأنصار التغيير وكاشفاً عن نظرة متعالية إلى قيم هذا العصر وأفكاره وعلومه وواضعاً الأمن الداخلي في اهتماماته أسبق على التحضر والتقدم .

يأتي الشأن الخارجي عنصراً ثانياً في الدائرة الحرجة التي تنحشر فيها مصر الآن .

نعرف ويعرف كثيرون في الغرب وفي “إسرائيل” أن السياسة الخارجية المصرية الراهنة تقوم على ثلاثة أركان، يكاد صانع السياسة المصرية يضفي عليها صفة القداسة . وقع الإعلان عن الأركان الثلاثة في عقد السبعينات في خضم أو أعقاب أحداث خطيرة كانت مصر سبباً لها وساحة . بمعنى آخر ورث القادة السياسيون الحاليون هذه الأركان ضمن ما ورثوه عن الخطاب السياسي الذي ساد في مرحلة السبعينات ولم يغيروا فيها شيئاً . أما الأركان فهي:

أولاً: أن معظم أو 99% من أوراق اللعبة في أيدي الأمريكيين . كان الظن وقتها أن المقصود باللعبة هو قضية الشرق الأوسط إلى أن ثبت بمرور الوقت أن بعض إن لم يكن معظم توجهات مصر الخارجية هي أيضاً ضمن هذه اللعبة . أعود لأذكر بمرحلة سنوات الإعداد لحرب 1973 . ولم تكن مصر قبل هذه المرحلة قد أغلقت الأبواب كافة في وجه تطوير العلاقات مع أمريكا، بل حاولت مراراً وكانت أبرز المحاولات المفاوضات في عهد روجرز والمباحثات السرية مع كيسنجر . خلال تلك المحاولات كانت الشروط الأمريكية قاسية وكان من بين ما اشترطت واشنطن التوقف عن مقاومة الاحتلال “الإسرائيلي” والامتناع عن شراء السلاح السوفييتي والتوقف عن الاستعانة بمستشارين سوفييت .

نشبت الحرب وقدمت أمريكا دعماً عسكرياً قوياً ل”إسرائيل” واستمر كيسنجر يفرض الشروط، ويقدم وعوداً مهدت لاتفاقية صلح تعهدت بتقديم عون مادي طويل الأمد وقدمت مصر تعهدات ما تزال سارية وسلمت بأن أمريكا سيبقى من حقها أن تحتفظ بكافة أوراق اللعبة في الشرق الأوسط وفي بعض خياراتنا الداخلية والخارجية . .

تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك الحين . سقط نظام القطبين وكاد يتحقق حلم “أمريكا القطب الأوحد” . ولكن لم يتحقق . اختفى القطب السوفييتي وفي أعقاب اختفائه بدأ انحدار القطب الأمريكي وصعود قوى أخرى كثيرة . وتقلص نصيب أمريكا من أوراق اللعب في أقاليم عديدة باستثناء الشرق الأوسط، حيث رفضت أمريكا الاعتراف لأي قوة أخرى صاعدة بحق في المشاركة في تسيير الإقليم . ورفضت “إسرائيل” أن تفوض قوة أخرى لتلعب في الإقليم . وللحق كانت كل من “إسرائيل” ومصر وفيتين لالتزاماتهما لأمريكا، إذ قاومتا بوسائل متعددة ومتباينة محاولات دول أجنبية النفاذ إلى دائرة الصراع العربي “الإسرائيلي” .

تغيرت أمور كثيرة، وبقيت سياسة مصر الخارجية محكومة بقيد الارتباط بالخطوط الرئيسة للسياسة الأمريكية . لم يؤثر في هذا القيد أن العالم تغير ولم تعد توازنات القوة كما كانت عليه في عصر القطبين . ولا يخفى أن العدد الأكبر من الدول صار يتعامل مع الولايات المتحدة منذ التسعينات على أساس أن حلم أمريكا أن تصبح القطب الأوحد لم يتحقق . نحن وعدد من الدول العربية رفضنا التعامل مع أمريكا والعالم على هذا الأساس فاحتفظنا بنظام القطب الواحد حصرياً للشرق الأوسط، وأخضعنا جانباً كبيراً من حركتنا الدولية لإرادة هذا القطب الذي تخيلناه أوحد . صحيح أن الولايات المتحدة مازالت الأقوى، ولكنها ليست الأقوى على الإطلاق أو الأقوى بلا قيود أو حدود . ولما كان تمسكنا بأن نعاملها كقطب أوحد قد أضر بمكانة مصر الدولية والإقليمية كان يجب النظر في تغيير هذا الفهم القاصر للعالم ووضع أسس سياسة خارجية تستعيد لمصر بعض مكانتها وسمعتها كدولة تدير سياستها باستقلالية .

ثانياً: ورث النظام الحاكم كذلك شعاراً تحول مع الوقت والممارسة فصار ركناً من أركان السياسة الخارجية المصرية . أما الشعار فكان “حرب 1973 آخر الحروب” . الخطأ والخطر ليسا في الشعار بقدر ما هما في استغلاله أو سوء استخدامه . ففي الوقت الذي يحق فيه ل”إسرائيل” في ظل هذا الشعار أن تتدخل بكل حرية وبكل أساليب التدخل حتى العسكرية في مناطق تقع ضمن دائرة الأمن القومي المصري مثل العراق ولبنان وغزة وسوريا ومثل السودان وإثيوبيا ودول حوض النيل، لا يحق لمصر، في ظل الشعار نفسه، أن تتحالف مع دول غير حليفة ل”إسرائيل” . بل أكاد أصدق ما يتردد على ألسنة معلقين أجانب من أن السنوات الأخيرة منذ رفعت مصر و”إسرائيل” هذا الشعار شهدت حلول النفوذ “الإسرائيلي” محل النفوذ المصري حيثما انحسر .

وبسبب كثرة ترديد هذا الشعار تكونت قناعة لدى إعلاميين ومسؤولين عديدين بأنه لا يجوز أن يصدر من مصر ما يوحي بنية للتقارب مع إيران أو إصلاح العلاقة مع سوريا تفادياً لإثارة شكوك “إسرائيل” في التزامنا الشعار . . وفي وقت من الأوقات ساد الإحساس بتوجس بعض الإعلاميين من الإشادة بإنجازات حكومة أردوجان في تركيا وبخاصة موقفها من العدوان “الإسرائيلي” على غزة وقافلة الحرية . وقد علق صحفي أجنبي على ظاهرة التوجس الإعلامي والدبلوماسي المصري بأنه يكاد يعكس حالة خوف مصري شديد من “إسرائيل” الشريك في السلام لم تكن قائمة قبل حرب 1973 وخلالها .

لا أجد وصفاً لحال السياسة الخارجية “الإسرائيلية” تجاه بعض الدول العربية ومصر بخاصة أكثر انطباقاً من الوصف الذي يطلق على الاحتلال “الإسرائيلي” للأراضي الفلسطينية . يصفون الاحتلال بأنه احتلال خمسة نجوم . “إسرائيل” تدخل المدن الفلسطينية وتخرج منها وقتما تختار وفي حماية الأمن الفلسطيني ورضاء السلطة الفلسطينية . و”إسرائيل” تتدخل في الشؤون العربية وتعتدي عسكرياً وتؤلب الإعلام العالمي على العرب والمسلمين ولا تجد من ينهرها أو يؤلب عليها شعبه بل على العكس تقيم حكومات عربية معها علاقات خاصة، وتراعي حساسياتها وتتفهم قلقها الأمني وتستجيب لطلباتها وتقف معها ضد كافة أشكال المقاومة: هي فعلاً علاقات خمسة نجوم تتمنى دول عديدة ناهضة مثل الصين والبرازيل أن تنعم بمثلها مع مصر وغيرها من الدول العربية .

ثالثاً: ورثنا كذلك أفكار “الاستثنائية المصرية” . ورثنا عبارتي شعب عمره سبعة آلاف سنة وحضارتنا فوق الحضارات . توهمنا أن حضارة السبعة آلاف سنة يمكن أن تلعب دور القوة الرادعة في مواجهة الغير والرصيد الأعظم في سياستنا الخارجية . ورثنا الوهم بأن تاريخنا يحمينا من أعدائنا ويعوض خسائر الجغرافيا في النقص المتتالي في الأرض الزراعية وتدهور البيئة والعجز في المياه وصعوبات التعامل مع سيناء أرضاً وشعباً واتفاق سلام، ورثنا من سياسة مصر الخارجية في عقد السبعينات أن لا نفع يرجى من العرب ولن نبذل فيهم أو معهم جهداً دبلوماسياً أو اقتصادياً في إفريقيا باعتبار أن مستقبل مصر وأمنها مرهونان لشمال متقدم وليس لجنوب متخلف . لا يعني التفكير في ضرورة إعادة النظر في تطبيقات هذه الموروثات رفض شعار أن لا حرب بعد حرب ،1973 ولا يعني التفكير في أهمية تطوير سياستنا الخارجية كما طورت دول عديدة في الشرق والغرب سياساتها الدعوة إلى شن حرب ضد “إسرائيل” . المطلوب الآن استعادة ثقة العرب والأفارقة وشعوب الدول الصاعدة في قدرتنا على تطوير موروثاتنا السياسية والانضمام إلى ركب الناهضين .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2166076

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2166076 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010