السبت 4 كانون الأول (ديسمبر) 2010

“ويكيليكس” وحساب الأرباح والخسائر

السبت 4 كانون الأول (ديسمبر) 2010 par د. عصام نعمان

كلا، لا يشكّل كشف “الأسرار” من موقع “ويكيليكس” فضيحةَ العصر لسبب بسيط هو أن معظمها معروف كلياً أو جزئياً من قَبل، وأن قليلاً جداً منها هو من العيار الثقيل .

كثير من “أسرار” ويكيليكس كان معروفاً من طرف الذين يهمهم أمر الاطلاع على مختلف الموضوعات التي جرى كشفها في معظم بلدان العالم . ثمة صحف ومجلات ومواقع إلكترونية ذات صفة مهنية عامة أو متخصصة كانت وما زالت حريصة على كشف مختلف أنواع الأسرار السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولاسيما ما يتعلق منها بخصوصيات المشاهير من السياسيين وأهل الفن وعلية القوم في كل زمان ومكان .

صحيح أن بعض الأسرار كان جديداً وذا طعم ورائحة لافتين، لكنه لم يشكّل، رغم جدته وطرافته، “صرعة” إعلامية . السبب؟ لأن ما تواتر عن سلوكية هذه الحكومة أو تلك، أو هذا المسؤول أو ذاك، كان كافياً لتمكين كثيرين من المعنيين في مختلف البلدان من التكهن والاستدلال والتوقع بما لا يبعد كثيراً عن الحقيقة .

مع ذلك فإن الكشف عن هذه الالآف المؤلفة من الوثائق يبقى حدثاً مدوّياً ينطوي بالضرورة على أرباح للبعض وخسائر للبعض الآخر . في خانة الأرباح والرابحين يمكن تسجيل النتائج الآتية:

ثمة حقيقة ما عاد بالإمكان تفاديها أو تغطيتها . إنها صعوبة طمس الحقائق أو حماية سريتها في عصر تكنولوجيا المعلوماتية المتقدمة والانترنت . كل شيء بات معرضاً للانكشاف أو للكشف، عاجلاً أو آجلاً، قصداً أو بغير قصد، بفعل أفراد أو جماعات . لا أسرار بعد اليوم بل أخبار تذاع أو تنشر أو توثّق بصور أو بمشهديات بالغة التأثير . هذا “الإنجاز” هو لمصلحة البشرية جمعاء، خصوصاً للذين لا يملكون سلطة أو مالاً أو أدوات إعلام ومعلوماتية مؤثرة . ذلك أنه يوفر للجميع مستوى أعلى من الشفافية .

انكشاف الحقائق وارتفاع منسوب الشفافية والصدق يؤديان إلى ترفيع مستوى الحوكمة والحكم الصالح وبالتالي الديمقراطية . فلا ديمقراطية صحيحة مع الخداع والكذب والتحايل على الواقع . غير أن انعكاس الشفافية إيجاباً على الديمقراطية والعمل الديمقراطي يبقى مشروطاً بمدى عمق وعي الأفراد والجماعات في مختلف المجتمعات . فالحقائق والمعارف والمعلومات كثيراً ما تكون متوافرة ومتاحة لكن إدراكها لا يحصل ولا يفعل بسبب قصور الوعي .

إلى ذلك، فإن أهل السلطة سيصبحون أكثر تعرضاً للمراقبة والرقابة . صحيح أنهم سيثابرون على اختراع وتطوير آليات التحايل والتغطية والإفلات من المسؤولية، لكن آفاق نجاحهم في هذه المجالات ستصبح ضيقة بإطراد . وعليه، فإن مقولة “من راقب الناس مات همّا” ستخبو لمصلحة متعة بازغة هي “من راقب الناس ازداد حيوية وشغفاً وإثارة”!

على صعيد الخسائر والخاسرين، يمكن تسجيل النتائج الآتية:

التغيّر والتحوّل قاعدة كونية راسخة . لا سبيل إلى تخليد الوضع القائم . بذرة تغيّره وتحوّله منه وفيه . قديماً قال الشاعر العربي:

لكل شيء آفة من جنسه

حتى الحديد سطا عليه المبرد

“الجاسوس” المعتقل بتهمة تسريب المعلومات إلى موقع “ويكيليكس” برادلي مانينغ (23 سنة) جندي خدم في الجيش الأمريكي أثناء الحرب في العراق . بصرف النظر عن دوافعه، فهو ابن النظام establishment وإن كان قد تمرّد عليه . في كل وضع أو نظام أو مجتمع بذرة نقيضة له . أهل النظام، إذاً، معرضون لمفاعيل التغيّر والتحوّل مهما طال زمن سلطتهم وتحكمّهم . غير أن ثمن مفارقة لافتة بالنسبة للولايات المتحدة . فهي أقل المتضررين من كشف “أسرار” ويكيليكس . لماذا؟

لعل الجواب عند وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس . رداً على سؤال قال: “هل الأمر محرج؟ نعم . هل هو حساس؟ نعم . لكن التداعيات على السياسة الخارجية محدودة جداً . فالحكومات تتعامل مع الولايات المتحدة لأن ذلك من مصلحتها، وليس لأنها تقدرنا، ليس لأنها تثق بنا، ليس لأنها تعتقد أنه يمكن حفظ أسرارها . هناك حكومات تتعامل معنا لأنها تخشانا، وحكومات أخرى لأنها تحترمنا، وغالبيتها لأنها تحتاج إلينا . نحن دائماً أمة لا غنى عنها” .

ثمة عنهجية في هذا التصريح، لكنه بالإجمال صحيح ما عدا الزعم بأن الحكومات تتعامل مع أمريكا لأن ذلك في مصلحتها . بعضها له مصلحة دونما شك، لكن بعضها الآخر، وهو كثير، مرغم على التعامل معها بحكم احتلال الارض، أو احتلال الإرادة، أو بحكم انحراف المسؤولين .

الخاسر الأكبر من كشف الأسرار هم بعض المسؤولين . الوثائق المنشورة عززت صورتهم المهزوزة لدى غالبية مواطنيهم . هؤلاء لم يفاجأوا بما جرى كشفه من حقائق أو طرائف . معظمها معروف لديهم، لكن ها هو “شاهد من أهلها” يؤكد ويجزم، خصوصاً أن المسؤولين الأمريكيين لم يكذّبوا أو ينفوا شيئاً بل وضّحوا وبرروا ما هو بحاجة إلى توضيح أو تبرير .

غير أن الخسارة الكبرى هي من نصيب البشرية جمعاء، لاسيما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية . إنها عدم ثقة الناس في السياسة والسياسيين . ما عاد الناس يثقون في السياسيين، ولا في أن التغيير من خلال السياسة يمكن أن يتجه إلى الأحسن . فالأسرار التي جرى كشفها معروف معظمها من طرف شعوبنا من زمان، ومع ذلك فإنها لم تفعل شيئاً حيال المسؤولين عن ارتكاب ما هو مضرّ بها وبالمصلحة العامة .

القصور في الوعي من جهة وعدم الثقة في السياسة والسياسيين من جهة أخرى رسّخا الأوضاع الفاسدة على مدى عقود وأجيال لدرجة أصبح معها الفساد والإنحطاط طريقة حياة .

ومع ذلك، فإن موقع “ويكيليكس” ألقى حجراً كبيراً في بركة راكدة، وإن دوائر متسعة أخذت تظهر على سطح مياهها الآسنة، ولا بد من ردة فعل غير عادية ستظهر هنا أو هناك أو هنالك بعد يوم أو شهر أو سنة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2165546

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165546 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010