الثلاثاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

“ثقافة الصيانة”

الثلاثاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 par مصطفى الفقي

كتبنا من قبل عن غياب “ثقافة الصدق” على نحوٍ أدى إلى شيوع الكذب والنفاق والخداع في المعاملات اليومية والعلاقات الإنسانية بصورةٍ تدعو إلى القول إن لدينا أزمة أخلاقية حقيقية، كما كتبنا عن غياب “ثقافة التجويد”، ما أدى إلى غياب الإتقان والرغبة في تحقيق الكمال مع شيوع “الفهلوة” وتراجع نوعية العمل الجيد، ما يعني أن لدينا أزمة إنتاجية وخدمية واضحة هبطت بمستوى الأداء وكفاءة الفرد وقيمة العائد . وها نحن اليوم نكتب عن “ثقافة الصيانة” التي تمثل الزاوية الثالثة في مثلث رأسه “الصدق” وضلعاه “التجويد” و”الصيانة” حتى نتمكن من الوقوف في مصاف الدول الناهضة خصوصاً أن رصيدنا التاريخي الطويل يدعونا إلى ذلك، كما أن دورنا الحضاري العظيم ومسيرته المشهودة يحتمان علينا ضرورة الخروج من الأوضاع التي تراكمت والأفكار التي تكونت والقيم التي سادت . وقد يقول قائل: لماذا يزج الكاتب بكلمة “الثقافة” عندما يشير إلى أسباب التخلف ودوافع النهضة؟ والتفسير هنا لا يحتاج إلى جهد كبير، فالثقافة هي سلوك يومي وأسلوب في التفكير ونمط في التعامل، وليست فقط هي التحليق في سماوات الحضارة وفضاء الفكر وعالم المذاهب والمعتقدات، وأنا ممن يؤمنون بأن العامل الثقافي أصبح هو العامل الحاكم والمتغير المستقل في عالم اليوم بدءاً من العلاقات الدولية التي يؤدي فيها العنصر الثقافي دوراً رئيساً وصولاً إلى تطور عادات الشعوب وتقاليد حياتها وأساليب معيشتها التي يؤدي فيها العامل الثقافي أيضاً الدور الأساس على نحو غير مسبوق، بل إننا إذا نظرنا حولنا فسوف نجد أن القضية الثقافية تطل علينا من كل اتجاه، والمسافة بين هذا وذاك هي ثقافية بالدرجة الأولى، إذ إن مكوناتها هي اختلاف العقيدة وتباين الفكر وتفاوت الرؤية، كذلك فإن الفارق بين الشعوب المتحضرة وغيرها من الشعوب التي لم يتحقق لها ذلك القدر من الإصلاح والتقدم هو فارق ثقافي بالدرجة الأولى حتى إن قضايا حقوق الإنسان المعاصرة بكل ما يحيط بها من صخب وضجيج هي قضايا محكومة باختلاف الثقافات وتفاوت أنماط السلوك، فالمسافة التي تفصل بين القيم الإنسانية العصرية في جانب والموروثات المتخلفة لدى بعض الشعوب في جانب آخر هي الفيصل في التعريف المعاصر “لمسألة التخلف”، والآن دعنا نطرق أبواب “ثقافة الصيانة” باعتبارها مشكلة مصرية نشعر بها في العقود الأخيرة ولنا عليها الملاحظات التالية:

أولاً: إن قضية “الصيانة” ليست قضية ترفية بل إن ضرورتها تزداد لدى الشعوب الأكثر حاجة والأقل ثروة لأن “الصيانة” هي السبيل لحماية المنشأة أو المصنع أو المؤسسة، لذلك فإن الأفقر يجب أن يصون ما لديه أكثر لأن موارده المحدودة لا تسمح له باقتناء الجديد، ولكنها تدعوه دائماً إلى مواصلة التجديد، فالصيانة مسألة ضرورية لمن لا يملكون الكثير، وهي ضرورة أيضاً بالنسبة إليهم خصوصاً أن قانون الزمن وعوامل التعرية وتقلبات المناخ وتواتر الاستعمال كلها عوامل تؤدي إلى تقادم الثابت والمنقول وتلزم أصحابها إعطاء الصيانة الدورية والمنتظمة ما تستحقه من أولوية واهتمام .

ثانياً: إن “ثقافة الصيانة” وفلسفة أبعادها لا تبدو حاضرة في جدول أعمالنا اليومي فها هي المباني المتهالكة والمرافق المتهاوية تشير بقوة إلى الإهمال الجسيم في عنصر “الصيانة”، ولعل “مرفق السكة الحديدية” في مصر هو شاهد عصري متحرك يشير بقوة إلى أسباب الإدانة لمن قاموا عليه عبر السنين، فلو أن يد الإصلاح وثقافة الصيانة امتدت إليه بشكل دوري منتظم ما آل وضعه إلى ما هو عليه الآن! وسوف ينبري صوت من الناس قائلاً إنها قضية إمكانات ومن أين لنا بالموارد؟ وواقع الأمر أن هذا الطرح السلبي يدين أصحابه أكثر، لأن الصيانة المستمرة والاهتمام الدائم بالإصلاح والتجديد المستمر هي مقومات مباشرة للتوفير والحرص على المال العام، فإذا كان لديك مبنى تحرص عليه وتهتم به فسوف يتواصل رونقه وبهاؤه بينما يؤدي الإهمال إلى ظهور المباني المتهالكة والواجهات الكالحة، ويكفي أن أسوق هنا مثالاً وهو أنك لا تدخل دورة مياه عامة أو في إحدى الهيئات الحكومية وتجد فيها صنبوراً سليماً، كما لا تجد عربة قطار كل مصابيحها تعمل أو نوافذها صالحة، إنها أمور بسيطة قد تبدو تافهة ولكنها تعكس أزمة ضمير حقيقية وثقافة صيانة غائبة .

ثالثاً: إن النظافة التي دعت إليها الديانات وحضت عليها الشرائع وطالبت بها الإرشادات الصحية الوقائية المعاصرة تبدو بعيدة المنال، ولقد عشت شخصياً في بلاد أكثر فقراً، وفي ظروف أكثر تعقيداً ولكنني وجدت الفقير هناك نظيفاً ووجدت للمبنى المتواضع هيبته واحترامه بسبب الحرص على النظافة واتباع أساليب تؤمن بأن النظافة هي جزء من الصيانة وعامل مؤثر في الوقاية والحماية والارتقاء، لذلك فإنني أسجل هنا أن ضعف الوازع العام الذي يطالب بالنظافة ويتعايش مع تراكم القمامة هو أمر أدى إلى مزيد من التدهور وغياب مظاهر الجمال وشيوع ملامح القبح وانتشار الإهمال .

رابعاً: إن الأخذ بمعايير الصيانة العصرية هو مؤشر يجب عدم الاستخفاف به أو التخلي عنه خصوصاً في الدول القديمة ذات الآثار العريقة التي تراكمت على أرضها ثقافات وحضارات ونحن منها، إذ إنه يتعين عليها أن تكون أشد حرصاً على صيانة ما لديها وترميم تراثها وصيانة ثروتها الحضارية، ومع تسليمنا بالجهد المبذول في هذا الميدان، فإنني مازلت أرى بعض المباني الأثرية والكنوز الرائعة مطمورة وراء تلال الأتربة، بل ربما القمامة أيضاً، وأقول لحظتها (ويحك يا وطني أمن فرط ما أعطاك الله تستهين بالتراث وتقبل استخدام الأثر العظيم في غير ما أعد له؟!)

خامساً: إن “ثقافة الصيانة” تعني احترام حقوق الأجيال القادمة والحفاظ على ثروتها القومية وتسليمها باحترام من جيل إلى جيل، وذلك سلوك حضاري بعيد عن الأنانية المرحلية قريب من الإيمان بالمستقبل، فضلاً عن أنه يمثل روح العصر وفلسفة الدولة الحديثة التي لا تتوقف يدها العاملة عن تجديد طرقها وتنظيف شوارعها وترميم منشآتها وإصلاح مؤسساتها، فالمنقولات كالكائن الحي تحتاج إلى رعاية مستمرة وصيانة دائمة .

هذه بعض الأفكار التي تدور حول فلسفة “الصيانة” وهي تشبه “ثقافة التجديد” أيضاً، لأن كل شيء يبلى والخلود لله وحده، لذلك فالأمر يحتاج منا دائماً إلى أن ننظر حولنا وأن نعترف بأخطائنا وأن نسلم بأن غياب الصيانة يمثل واحداً من مشكلاتنا الحادة، بل إنني أريد ألا يضحك القارئ إذا قلت إنني أحياناً أمد يدي بالإصلاح في ما لا أملك لأنني لا أطيق القبح وأدرك أن بعض التصرفات الصغيرة والمبادرات العاجلة يمكن أن تصلح ما ينبغي إصلاحه، وأن نقوداً قليلة اليوم قد توفر عشرة أضعافها بعد حين . إنني أؤمن بأن السبيل الوحيد للإصلاح إنما يدور حول الإيمان بثقافة الصيانة والتبشير بها أمام الأجيال القادمة، فإذا شب الصغير على تعويض النقص وإصلاح الخطأ وتجديد ما يحيط به فإنه سوف يمتلك في المستقبل عيناً فاحصة ترفض القبح وتعشق الأفضل وتتطلع إلى أقرب درجات الكمال إمكانية وتحقيقاً ودواماً .

. . ألم أقل لكم إن “الصدق” و”التجويد” و”الصيانة” ثالوث أخلاقي يصل بنا إلى الحق والخير والجمال .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 54 / 2165671

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2165671 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010