الخميس 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

ما قيمة أمريكا؟

الخميس 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 par جميل مطر

تجاوزت الولايات المتحدة حدود وأصول التحالف القائم بينها ودول الاعتدال العربي، تجاوزتها حين تجاسرت وعرضت على نتنياهو، والفلسطينيين والعرب من ورائه، اقتراحاً بلغت وقاحته حد الاستهانة بذكاء حلفاء أمريكا من مسؤولي المنطقة . أخطأت الحكومة الأمريكية حين تقدمت بهذا العرض، وأخطأت حين أعلنته، وأخطأت حين بدت، إعلاماً ودبلوماسية ورأياً عاماً، مستهينة بخطورة صدام أشد عنفاً أكاد أجزم أنها باتت تتوقع وقوعه بين يوم وآخر عواصم عديدة في الشرق والغرب . لست وحدي من يعتقد أن صورة أمريكا عند العرب ما كانت في أي يوم مضى أسوأ مما هي الآن . لا أبالغ، ولست منفعلاً، ولكن حساباتي انتهت إلى أن مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تدنت إلى مستوى لم تتدن إليه من قبل . تدنت عند “الإسرائيليين” الذين اكتشفوا حقيقة معدن أمريكا وقوتها حين سلطوا عليها نفوذ الأقلية اليهودية في أمريكا فدانت لهم وخضعت، وتدنت بين العرب والمسلمين الذين وجدوا أنفسهم منساقين تحت وهم الاعتدال والتحالف مع أمريكا إلى بذل الغالي والرخيص . صارت دولهم في المؤخرة، وحكوماتهم مهانة ومستفزة، ومجتمعاتهم مهددة بالتفتيت والتشهير وفي أحسن الأحوال التجاهل .

يبدو، للوهلة الأولى، أن مسؤولية التردي المتسارع في مكانة الولايات المتحدة تقع بالدرجة الأولى على عاتق الرئيس باراك أوباما . أوباما لا شك يتحمل جانباً من المسؤولية، باعتباره العنصر المعجّل أو الكاشف لحالة الضعف التي تنتاب أمريكا . يحتمل، كما يقول سايمون سيرفاتي من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، أن تكون عفويته ورومانسيته تدخلتا خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في رسم صورة للعالم تختلف في نواح أساسية عن الواقع الذي لامسه أو انخرط فيه عندما تولى الرئاسة، إلا أن هذا الاحتمال لا يعفيه في رأينا، من مسؤولية الفشل في التعامل مع هذا الواقع . لعله تصور مثلاً أن قضية الشرق الأوسط، وبخاصة ما يخص الصراع العربي “الإسرائيلي”، قابلة للتسوية بمجرد أن يقرر كرئيس لأمريكا تغيير النهج الذي سار عليه سلفه جورج دبليو بوش . لم يقدر تقديراً حسناً أن القوة الأعظم في تسيير السياسة الخارجية الأمريكية في هذا الموضوع تكمن في التجمعات الصهيونية في الولايات المتحدة، وبخاصة بعد أن فرضت على ممارسات السياسة في الولايات المتحدة مفهومها الخاص للولاء المزدوج، وحرمت غيرها من أن يكون له مفهومه الخاص .

أما كيف فقد أوباما بعد ذلك مكانته وشعبيته لدى التيارات التي تحمست له عند وصوله إلى الحكم، فبعض الأسباب يحتاج إلى سنوات لفهمه وتقدير أسبابه . وعلى ضوء هذه المرحلة المبكرة جداً أستطيع المجازفة بالقول إن أوباما فقد المكانة والشعبية لأنه أثبت بأكثر من دليل أنه غير مؤهل لحماية معتقدات ما وعد ومن صدقها ضد الهجمة الشرسة في حال صحت الاتهامات، وكان حقاً مؤمناً بها، أو في حال أنه بالفعل لم يؤمن بها في أي يوم، ولم تكن بالنسبة له سوى بنود في برنامج انتخابي أدت الغرض منها وسقطت مع أول مواجهة مع الواقع السياسي الأمريكي .

قرأت لمن يقول إن حالة أمريكا الراهنة أقرب ما تكون إلى حالة الاتحاد السوفييتي في زمن ضعفه . يقول إن الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، وقت انكشاف الضعف، كان مثل أمريكا الآن عاجزاً عن وقف الانكماش في مكانته الدولية والإقليمية قبل أن تبدأ التقلصات في هياكله الداخلية .

ليس هذا هو المكان المناسب لسرد تفاصيل مسلسل الفشل في السياسة الداخلية الأمريكية وعنوانه الأعظم البطالة وعناوينه الفرعية استمرار تعقد الأزمة المالية والانقلاب اليميني على الديمقراطيين من خلال الانتخابات الأخيرة وتدهور ثقة الناخب الأمريكي في مؤسسات الدولة وحال الغضب السائد في المجتمع وتوتر المزاج الشعبي . ولن أسرد تفاصيل مسلسل الفشل في السياسة الخارجية، فهي أكثر من أن يحتويها مقال محدود المساحة، ومع ذلك تبقى عناوين الفشل في السياسة الخارجية صاخبة الصوت وزاعقة الأضواء والألوان .

من أين نبدأ؟ نبدأ من الآخر؟ نبدأ بالفشل الأمريكي في التوصل إلى اتفاقية تجارة حرة مع كوريا الجنوبية خلال زيارة أوباما لسول الأسبوع الماضي، وهو ما يعتبره ريتشارد هاس أقوى دليل . تأتي بعده الصعوبة التي واجهت وفود أمريكا، وأحدها برئاسة أوباما شخصياً، في إقناع دول آسيا بصواب السياسات النقدية الأمريكية الجديدة، أو في إقناعها بأفكار، بعضها اعتبرته دول آسيوية شديد السذاجة، هدفها مواجهة توسع الصين الاقتصادي في شتى أنحاء آسيا . نواصل مسلسل الفشل، ومن الآخر أيضاً، بقصة الصعوبات التي تواجهها حكومة واشنطن في الحصول على تصديق الكونغرس على اتفاقية “ستارت 2”، رغم إلحاح إدارة الرئيس أوباما والمؤسسة العسكرية الأمريكية التي تخشى أن تفقد بعدم التصديق على الاتفاقية فرصة الاطلاع على مستودعات السلاح النووي في روسيا . ومن الآخر أيضاً نضيف تصريحات قرضاي شديدة الانتقاد للعمليات العسكرية التي تنفذها القوات المتحالفة مطالبا بتخفيضها ومحتجا على استهتار قوات التحالف بحياة المدنيين وممتلكاتهم، في تعبير شديد الوضوح عن حال استياء بالغ في صفوف الشعب الأفغاني من استمرار الاحتلال الغربي . أم نبدأ من تطورات أقل حداثة مثل استمرار أزمة الحكم في العراق لأكثر من ثمانية أشهر رغم كثافة الضغوط الأمريكية، وعندما أوشكت الأزمة أن تتوجه نحو حل، خرجت أصوات عراقية تؤكد أن الحل يبدو مؤقتاً والأزمة مرشحة لتعقيد أشد، وأن الولايات المتحدة ما زالت تضحي بالعراق من أجل مصالح لها مع إيران وتركيا ودول إقليمية أخرى .

لم يكن هدف السطور السابقة سرد إخفاقات الرئيس باراك أوباما، فالفشل بدأ قبل وصوله إلى الحكم ولم يكن الغرض حصر إخفاقات الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً، فالمساحة كما قلت لا تسمح .

إن تلاحق حلقات الفشل في ممارسة أمريكا مهام القيادة الدولية وعجزها عن استعادة مكانة كانت متقدمة قبل أن تنحسر لا يبرر سكوتنا طويل الأمد على “تجريح” ذكاء المسؤولين الفلسطينيين والعرب والمسلمين في كل مكان حين “جرجرتهم” الولايات المتحدة منذ مؤتمر مدريد عاماً بعد عام ورئيساً بعد رئيس ومؤتمراً بعد مؤتمر ومبادرة بعد مبادرة من تيه إلى تيه، وأخيراً أضافت أمريكا إلى الجرح إهانة حين أعلنت عن عرضها السخيف والمتغطرس الذي قدمته إلى نتنياهو مقابل تجميد بعض الاستيطان لبعض الوقت .

لم تمر هذه الحلقة الجديدة من حلقات الفشل الأمريكي ببساطة، ولن تمر . ذكرتني وذكرت زملاء آخرين تكالبوا في الوقت نفسه على تذكيري، بورقة بحثية قمنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بإعدادها قبيل نشوب حرب أكتوبر ،1973 كنا قد ناقشنا في الورقة حالة العجز البادية في السلوك السياسي للاتحاد السوفييتي في ذلك الحين وركزنا على خطورة اعتمادنا في مصر على حليف يهيمن على كثير من تصرفاتنا وأدائنا في الداخل كما في الخارج، كان الهدف هو التنبيه إلى أن الاتحاد السوفييتي لأسباب تتعلق بمصالحه الدولية الأخرى وبسبب ضعفه النسبي وقتذاك في مواجهاته مع الولايات المتحدة، قد يلجأ إلى عرقلة قرار الحرب الشاملة ضد “إسرائيل” .

شئنا وقتها أن نقول لأهل الفكر والسياسة تعالوا، قبل أن نتورط في حرب وسلام معتمدين على حليف متناقص القوة والنفوذ وخاضع لاعتبارات خاصة، نجيب بصراحة وجرأة على السؤال التالي: ما قيمة الاتحاد السوفييتي؟ وجهنا النداء وكنا على حق حين أطلقنا السؤال . والآن وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود نجد أنفسنا في مصر وعديد الدول العربية والإسلامية نمر بظروف مشابهة: نعتمد على حليف متناقص القوة والنفوذ وخاضع لإرادة عدو لم يصالحنا . حليف لا يهمه إلا استنزاف مواردنا والسيطرة على خيارات تقدمنا وتحررنا وإخضاعنا معه لهيمنة “إسرائيل” . حليف لا نثق في قدرته على حماية طموحاتنا في الأمن والاستقرار الإقليمي واستعادة مكانة كانت متقدمة قبل أن يعمل و”إسرائيل” على تقليصها .

نداؤنا اليوم لأهل الفكر: تعالوا، قبل أن نزداد تورطاً، نجيب عن السؤالين: ما قيمة أمريكا؟ وما قيمتنا؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165529

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165529 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010