الخميس 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

المسألة الأمريكية

الخميس 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 par جميل مطر

كانت الإمبراطورية العثمانية في مرحلة من مراحل صعودها طرفاً في معادلة ميزان القوى الدولية . كانت لاعباً رئيساً في وسط أوروبا وشرقها، وفي أقاليم الجزيرة العربية وشمال الخليج والمشرق والبحر الأحمر ومعظم شمال إفريقيا . ولم تبدأ قوتها وبالتالي مكانتها في الانحسار إلا في أواخر القرن الثامن عشر . حدث هذا عندما اجتمعت عناصر كثيرة، أغلبها سلبي . كان واضحاً، على سبيل المثال، أن الإمبراطورية تحولت في سياستها العسكرية من الاعتماد على مبادئ التوسع والغزو إلى التزام عقائد الدفاع وحماية الخطوط الخلفية للإمبراطورية، وكان معروفاً أن الأحوال الاقتصادية في شتى البقاع الخاضعة للسلطة وبخاصة في الأناضول تدهورت لأسباب كثيرة ليس أقلها شأناً الاعتماد على أجانب في إدارة شؤون الولايات ومواقع العمل اليدوي والفساد التي استشرى في كافة قطاعات الحكم، والوجود المتزايد للاستعمار الغربي في آسيا والممرات الدولية وفي داخل المنطقة العربية الإسلامية .

من ناحية أخرى، كان بدء التدهور إشارة واضحة لكافة القوى الاستعمارية لتتسابق على ممتلكات وأقاليم تخضع لنفوذ السلطة وللحصول على امتيازات .

كان حلماً وتحقق . وما كان يمكن أن يستمر حلماً بعد أن تحقق . وقد يكون الإصرار على الاحتفاظ بالحلم السبب الذي جعل العثمانيين في القرن التاسع عشر أصحاب مزاج يغلب عليه الاكتئاب، ويسيطر عليه القلق على المستقبل واليأس من إمكانية النجاح في مواجهة موجات التغيير التي كانت تكتسح أوروبا الغربية .

أكاد، مزوداً ببعض الخيال، أتصور حال الإمبراطورية الأمريكية وقد صار كحال الإمبراطورية العثمانية في أواخر عقودها . وأكاد مدفوعاً بالحرص والواقعية، أؤكد أن أمريكا في أزمة خطيرة ومفتوحة على احتمالات شتى . وقد يبدو للكثيرين من متابعي الجدل الدائر في أمريكا أن الرئيس أوباما مسؤول عنها، ولعله بالفعل مسؤول ولكن يجب علينا في كل الأحوال، أو على الأقل على أمثالنا من الذين لم يتوقعوا نجاحاً مذهلاً لرئيس أسمر في البيت الأبيض، أن نعترف بأنه لم يتسبب في صنع أزمة بقدر ما كان وصوله إلى السلطة دليلاً على وجود أزمة عويصة في الولايات المتحدة .

أفهم النقد الموجه إلى أوباما لأنه قدّم وعوداً كانت أكبر من قدراته ولم تأخذ في اعتبارها ظروفاً دولية وإقليمية عديدة . لم تكن خطة حكيمة الالتزام برعاية صحية شاملة وعمالة للجميع وحياة كريمة لكبار السن مع الاستمرار في نهج التوسع الإمبراطوري في الخارج في وقت تئن أمريكا فيه من ضربات أزمة اقتصادية هي الأعظم منذ ثمانين عاماً .

أفهم أيضاً انتقاد الكثيرين، وعلى رأسهم بول كروجمان الاقتصادي الليبرالي الشهير للرئيس أوباما لتمسكه بإصرار بأسلوب السير بحذر في أي اتجاه ونحو أي هدف . البطء والتردد والتروي سلوكيات تفيد في أوقات رخاء مستقر وسلام خارجي، ولكن كلها سلوكيات تضر أبلغ ضرر في حالة مجتمع تمسك بخناقه مشكلات عديدة ويشن حرباً “شبه عالمية” في أفغانستان والعراق، وحروباً شتى في إفريقيا .

أفهم كذلك غضب قطاعات في النخبة على ما أعدته سلوك تعالٍ وتكبر من جانب أوباما في التعامل مع خصومه في الداخل، ورأينا غضباً مماثلاً وللسبب نفسه من سياسيين أوروبيين .

أخطأ أوباما، ولعله معذور، حين ترك أغلبية الناس في أمريكا وخارجها يحلمون بالتغيير، ربما تصور أوباما أن مجرد الوعد بتغيير سياسات الرئيس بوش هو أقصى ما يحلم به الناس، بينما الحقيقة كانت أن الأمريكيين وشعوباً أخرى منها العرب، انتظروا تغييراً أعمق وأشمل . لذلك وقعت خيبة الأمل العظمى لدى الأمريكيين، ولدى شعوب أوروبا، ولدى العرب بشكل خاص .

لم يكن خافياً أن أوباما في مرحلة من المراحل كان يعتقد أنه سيحدث تغييراً في العالم وليس فقط في أمريكا . ولم يكن خافياً على مراقب كثير التجوال أن العالم كان بدوره ينتظر أن يغيره أوباما . وعندما خاب الأمل تجلى بأقصى درجة من الوضوح حجم “المسألة الأمريكية” .

أمريكا ليست في حال تتطابق وحال الإمبراطورية العثمانية عندما أصيبت بأمراض الشيخوخة . وأوباما ليس الرئيس الفاشل تماماً أو غير المؤهل للمنصب والمرحلة . ومع ذلك فأمريكا ليست بعيدة جداً عن احتمالات الانحدار السريع ومسؤولية أوباما عن تسريع هذا الانحدار، أو على الأقل كشف أبعاده، وفي الخارج وعلى اتساع العالم تشترك عوامل في صنع بيئة حاضنة للانحدار الأمريكي . كثيرة هذه العوامل الخارجية ومنها:

* أولاً: تعدد متوالٍ للقوى الصاعدة وقد تأكد أن بعضها، وبخاصة الصين، يسحب في صعوده من أرصدة القوة الأمريكية، وبعضاً آخر مثل الهند تشكل في صعودها ضغوطاً على قدرة أمريكا الاستراتيجية في آسيا أكثر مما تضيف إليها، وأخرى مثل البرازيل تجر في صعودها قارة بأكملها، كانت إلى عهد قريب جزءاً من إمبراطورية أمريكية عتيدة، ومصدراً من مصادر قوتها وعنفوانها، حين كان حقاً لها أن تمنع الأوروبيين وغيرهم من الاقتراب من هذا النصف من الكرة الأرضية .

* ثانياً: لم تعد القيادة السياسية الأمريكية تتمتع بمزايا مطلقة أو نسبية كانت تحسدها عليها الدول الاستعمارية الأوروبية . كانت الجغرافيا تحرس أمريكا وتشارك في صنع تاريخها وتحمي توسعاتها الإمبريالية، كانت الجغرافيا رصيداً لأمريكا لا تتمتع بمثله دولة أخرى . وتشاء الصدف، أو عبقرية الجغرافيا، ما أدى إلى انحساز دور العامل الجغرافي، شاهدناه ينحسر في 11/9 وما بعدها وتشاهده متسرعاً منذ يوم وقعت فيه بريطانيا وفرنسا حلفهما العسكري خلافاً لمنطق التاريخ، أقصد تاريخ العامل الجغرافي . لقد تأكد للكافة ومن دون شك أن أراضي الولايات المتحدة وأجواءها لم تعد حصناً حصيناً تعتمد عليه بنية الإمبراطورية ودفاعاتها، وأنها لكي تحافظ على فلول إمبراطوريتها الشاسعة يتعين عليها أن تبحث عن حصون أخرى بديلة للموقع الجغرافي الفريد .

* ثالثاً: كانت الاستثنائية الأمريكية أقرب شيء ممكن للاستثنائية التي قامت على أكتافها الإمبراطوريات الأيديولوجية والدينية مثل الإمبراطورية العثمانية . الاستثنائية وعي خالص يختلط فيه الدين بالحلم بالعنصرية بالتطرف . كتبت سارة بالين، المرشحة دائما لمنصب الرئاسة أو نائب الرئيس في موقعها على الفيس بوك ما معناه أن الوقت حان لإنقاذ الاستثنائية الأمريكية من رئيس لم يؤمن بها .

* رابعاً: لم يعد ممكناً أن تزعم النخبة الحاكمة الأمريكية التمسك بأصولها العرقية المنتسبة لجنس أبيض وبروتستانتي العقيدة، فقد حدث لأمريكا ما حدث لإمبراطوريات عديدة تجنست بجنسيتها أقليات عرقية عديدة، ووصلت إحداها إلى مراكز القرار السياسي وإدارة شؤون الإمبراطورية . حدث بالفعل في أمريكا أن سيطرت جماعة من قادة اليهود سيطرة تكاد تكون تامة على شؤون الإمبراطورية وصاروا يديرونها لمصلحتهم في الداخل ومصلحة إسرائيل في العالم بأسره .

كان مارتن لوثر كينج يقول إن المظلومين يحمّلون من يضع فيهم أملاً مسؤولية خيبة الأمل إذا لم يتحقق الأمل . هكذا ينتقل كره المظلومين للظالم إلى كره المسؤول عن زرع الأمل . شيء من هذا يفسر ظاهرة كره الشعوب لأمريكا، رغم أنها قد لا تكون السبب في الظلم الواقع على هذه الشعوب . لقد دأبت أمريكا على تقديم نفسها لشعوب العالم كنصير لها ومدافع ضد الظلم والقمع والاستعمار والاستبداد، وعندما عجزت عن نصرتها أو الدفاع عنها أو تواطأت مع الظالمين انتقل الكره لها . أكاد أرى أوباما نفسه يحتل هذا المكان بعد أن رفع مستوى الأمل عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين عموماً ولم يفعل شيئاً يذكر بل ترك الأمور تزداد سوءاً . لا يهم في هذه الحالة أن يكون أوباما وعد ولم ينفذ أو أن أمريكا منهكة ومرتبكة، أو أنها أصيبت بداء تصلب الشرايين حسب تعبير جوناثان رابان الكاتب في جريدة “الجارديان” البريطانية، المهم هو أن الكره سيتوجه إلى من وعد ولم ينفذ، وهو في حالتنا العربية سيتوجه إلى أمريكا وليس إلى المسؤولين العرب لأنهم، والحق يقال، توقفوا تماماً منذ زمن عن تقديم الوعود أو التعهدات .

راقبوا وتابعوا جيداً تفاصيل رحلة باراك أوباما في آسيا وقمة العشرين في كوريا الجنوبية وقمة دول آسيا والباسيفيكي، ففي هذه التفاصيل ستتجلى حقيقة “المسألة الأمريكية” .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2176743

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2176743 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40