الثلاثاء 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

روسيا بين عالمين .. موسكو تدرك أن الشراكة مع واشنطن وهم (2-3)

الثلاثاء 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

مؤلفة كتاب «روسيا بين عالمين» هي هيلين كارير دينكوس مؤرخة فرنسية، ولدت في روسيا، وهي عضو منذ 1991 في الأكاديمية الفرنسية، والتي تشغل فيها منصب الأمينة الأبدية، ونشرت الكثير من المؤلفات، من بينها مجد الأمم، والمصاب الروسي، ونيقولاي الثاني، وكاثرين الثانية، والكسندر الثاني.

تجْدُر الإشارة، في البداية، إلى أن العالم بأسره، عدا الاتحاد السوفييتي، يَعتبر سقوط السلطات الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية النقطة النهائية لانهيار النظم الشمولية الحمراء، مُزيحة المصيبة الكبيرة للروس إلى مصاف حدث ثانوي، على الهامش، لقطيعة القرن العشرين الكبرى. وقام المجتمع الدولي باستقبال دول ما بعد الشيوعية بالأحضان، في حين أن الريبة لا تزال تحكم علاقاته مع روسيا. والشك المهيمن يتمثل في الأسئلة التالية : هل خرجت روسيا، بالفعل، من الشيوعية؟ ما هو هذا البلد (روسيا) الغريب الذي اختفى اسمه لفائدة الاتحاد السوفييتي إلى درجة إرباك مواطنيه؟ أين يمكن أن نضع روسيا الجديدة، هذه، التي قامت، بشكل إرادي، بتصفية إمبراطوريتها، مقارنة مع أوروبا؟ ومقارنة مع روسيا التي كانت خلال قرون؟ كما أن الروس بدورهم ما فتئوا يطرحون تساؤلات حول تاريخهم وهويتهم. هل هم أوروبيون؟ أم هم، بالأحرى آسيويون، بسبب تاريخ طويل من الغزو؟ أم هم مزيج من الأوروبيين والأسيويين؟

ما يطالب به بوتين، من أجل روسيا المنبثقة من فوضى العام 2000، هو الاعتراف بموقعها كقوة. وهذا الاعتراف تريده روسيا، بشكل خاص، من القوة التي ترى فيها ندّها- الآخر : أي الولايات المتحدة الأمريكية. ويدهش المرء حين يقرأ تصريحات للرئيس بوتين عن حلف الناتو. فقد حاول سنة 2000 الاقتراب من الحلف، بل وقال مرة ردًا على سؤال لصحفي يسأله إن كانت تحدوه رغبة في الانضمام لحلف الأطلسي بالقول : «ولِمَ لا؟» وأعقبتها لقاءات تقارب مع الرئيس بوش صيف 2000، كما أن ألمانيا لعبت دوراً كبيراً في التقارب بين روسيا والغرب. وقد قطع الطرفان أشواطا طويلة، متناسين الكثير من مصادر المتاعب، من تجسس. ولكن جاءت تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 وغيرت الكثير من المعادلات. وكانت هذه الضربة غير المسبوقة التي تلقتها الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها فرصة مناسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين كي يكون أول رئيس أجنبي يتصل بالرئيس الأمريكي بوش الابن الذي كان لا يزال تحت وقع الصدمة لـ «يقدم دعم روسيا على كل الأصعدة، السياسي والدبلوماسي والاستراتيجي».

تعدد الكاتبة إلى أي مدى كان الروس على استعداد لمساعدة عدوّهم السابق : «تنسيق استخباراتي مشترك حول المنظمات «الإرهابية»، فتح المجال الجوي الروسي أمام الطائرات الأمريكية في طريقها إلى أفغانستان، تقديم أسلحة إلى الأفغان الذين يحاربون الطالبان»، ولا تتوقف التنازلات والعروض الروسية إلى هنا، بل يقوم الروس بفتح قواعد أمريكية في أوزبكستان وقيرغيزيا وقاموا بإغلاق قواعدهم في كوبا وفيتنام، دليلا على انتهاء الحرب الباردة.

قائمة التنازلات الروسية، زمن بوتين، للأمريكيين مثيرة وثقيلة. وهنا تتساءل الكاتبة : «فما الذي ربحه بوتين؟ وبأي قدر استطاع التأثير على العلاقات الروسية - الأمريكية؟»، وتجيب : «إن ما كان يريده بوتين واضحٌ : وهو أن تحصل روسيا، التي كانت عرضة للتجاهل والاحتقار، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1992، على وضعية الشريك»، وترى الكاتبة أن الروس نجحوا مؤقتاً في هذا. مؤقتاً، فقط. «حصل بوتين من الأمريكيين على الاعتراف بقوة محتملة لروسيا» لماذا؟ «لأنه يبدو أن مصالح الأمريكيين تلاقت مع مصالح الروس». أما غير هذا فلا شيء تحقق، وهو ما حدا بأحد الساسة الروس وهو أندرانيك ميغرانيان، من داعمي سياسة بيريسترويكا غورباتشوف، إلى التكهن بـ «نهاية روسيا».

لم يدم الغزل الروسي الأمريكي، أو بالأحرى، التغزل الروسي (الأحادي الجانب) بالأمريكيين، وقتاً طويلاً. فقد جاءت حرب أمريكا على العراق في مارس/آذار 2003، وفرضت واقعاً جديداً، من دون استشارة ولا مكان لروسيا فيه، وهو ما وصفه بطريقة معبرة، إيفغيني بريماكوف، بمقولة : «العالم من دون روسيا». وأدان سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى صنع العالم على صورتها، من خلال اللجوء إلى استعمال أحادي الجانب للقوة. واستشهد بمقولة خطيرة للسياسة الأمريكية تلفظت بها كوندوليزا رايس : «إن التعددية القطبية هي نظرية المواجهة والتنافس، وهي في أسوأ أحوالها، تنافس القِيَم».

ويسترسل إيفغيني بريماكوف في انتقاد الانقلاب الأمريكي : «على الرغم من الاتفاق الظاهر الذي ولد من كارثة 11 سبتمبر/أيلول 2001 بين موسكو وواشنطن حول تصوّر جديد للعالم، متعدد القطبية، ويعترف بثقل دول وأقاليم، فإن النظرة الأحادية القطبية هي التي انتصرت في ذهنية المسؤولين الأمريكيين : يجب قولبة العالَم حسب رؤاهم وبمبادرة منهم».

ولم تتوقف التحديات التي جابهتها روسيا، والتي كشفت أن الشراكة بين أمريكا وروسيا مجرد وَهْم داسه الأمريكيون غير ما مرة. وجاءت «ثورة الورود» في جورجيا لتكشف دور الأمريكيين في الاقتراب من الباحة الخلفية للروس. إذ استطاع ميخائيل ساكاشفيللي، أن يطيح بالرئيس شيفرنادزه، ويتولى حكم جورجيا، وهو يعلن نهاراً جهاراً ولاءه للغرب وعداءه للروس. وقد رأى ميخائيل ساكشفيللي في «ثورة الورود» تحدياً ثلاثياً للروس. في البداية من خلال برنامج الطاقم الجديد الذي يريده «مثاليا» في موضوع الديمقراطية واقتصاد السوق، وهو يريده مثالاً مناقضاً للمثال الروسي. ثانياً، هدف الوحدة الترابية للبلد ضد الرغبة الروسية في تمزيق البلد من خلال مساندة أقليات أبخازية ومن أوسيتيا. وثالثا «ثورة الورود» تتجه، بصفة واضحة، ومن دون مواربة، إلى الولايات المتحدة وإلى حلف الناتو.

لم يصبر الرئيس بوتين، الحالم بعلاقات «شراكة» مع الأمريكيين، طويلاً، على الضربة الجورجية حتى جاءته ضربة أخرى، أكبر هذه المرة، من أوكرانيا. وأخيراً يكتشف بوتين، دونما شك، أن «الأمر يتعلق، من تيبليسي وكييف، بمشروع كبير لزعزعة روسيا وإضعافها، تشترك فيه دول أجنبية ومنظمات غير حكومية»، ثم جاءت ثورة أخرى من قيرغيزستان. طعنة أخرى في خاصرة الروس. وقد كشف بوتين في نهاية المطاف أنه خُدِع. اكتشف أن يده الممدودة للأمريكيين عشية تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، لم تُقابَل إلا بالتمدّد الأمريكي في آسيا الوسطى، ليس فقط من خلال احتلال القواعد، كما هو متفق عليه مع الروس، ولكن من خلال تطوير مشروع مرور طرق إمداد طاقوية تروم عزل روسيا.

[**وقت الحساب*]

بعد مرور ثلاث سنوات على بداية الدفء على العلاقات الروسية الأمريكية، جاء وقت الحساب بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فعلى المستوى الداخلي، استطاع تحقيق الفوز في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية بنسبة تفوق 71 في المائة. وعلى المستويات الأخرى، يُذكّر الغربيين والأمريكيين بأن روسيا تمتلك أبعاداً لا يمكن نسيانها : «بُعد إمبراطوريتها السابقة، والبعد الذي يتحكم في فضائها الآسيوي والأوروبي في آن، وأخيرا بُعْدُ القرابة مع حضارات أخرى، ومن بينها الإسلام». إن ما يريده بوتين، بالفعل، هو «إعادة التفكير في الحالة الحقيقية للعالم»، ولكن من دون نسيان التركيز على البعد الأوروبي لروسيا. ليس الرئيس بوتين وحده في هذه الرؤية، بل إن «معظم الروس يرون ضرورة تحديد للبلد من خلال الاعتراف بحضارته، التي هي حضارة أوروبية، ولكن مع ضرورة البحث عن حلول تتيح الاستفادة من الوضعية الجغرافية الاستثنائية لروسيا من أجل منحها وضعية قوة شاملة، لا تستطيع تحقيقها فقط من خلال وسائلها الواقعية».

وترى الكاتبة ان ما يميز هذه الرابطة، وأحد مظاهر ضعفها الكبير، هو معارضاتها. وأيضاً قابليتها للاستجابة للإغراءات الأمريكية التي لا تتوقف. وهنا اكتشف بوتين الغلطة الكبيرة التي ارتكبها من خلال منح الأمريكيين قواعد عسكرية بُعيْد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 : «اكتشف بوتين أن الأمريكيين استفادوا كثيراً من التسهيلات التي منحت لهم في آسيا الوسطى، أي من خلال استخدام القواعد العسكرية في ماناس بقيرغيزيا وخارشي- خاناباد في أوزبكستان. فإذا كانت الولايات المتحدة من قبل لمْ تُول كبير أهمية لهذه المنطقة، فقد تغير موقفها الآن، وأصبح لها موضع قَدَم وبدأت تكتشف الأهمية الاستراتيجية والثروة الطاقوية»، كم كانت دهشة بوتين قوية وقاسية حين اكتشف أن هدفه من فتح قواعد آسيا الوسطى للجيش الأمريكي، لم يتحقق قط. كان بوتين يصبو إلى «اعتراف أمريكي بالدور الروسي الظاهر في «الأجنبي القريب»».

أي أن تعترف أمريكا بـ «الأجنبي القريب» كمنطقة نفوذ روسية، «وهو ما لم تشأ الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعله، وهو ما دلت عليه الأحداث التي جرت فيما بعد. وتلخص الكاتبة الموقف الأمريكي، المليء بالجفاء»، بالقول : «رغم الضربة المأساوية التي تلقتها الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر/أيلول، فهي لا تزال تعتبر نفسَها القوة العالمية الأعظم».

قرر الروس العودة إلى آسيا الوسطى التي كانوا قد أهملوها لبعض الوقت، وبدأوا يحسون أن أمنهم القومي مرتبط بها، والأمثلة كثيرة، من بينها طاجكستان، التي تعتبرها الطالبان قاعدة خلفية لها، وساهمت في الحرب الأهلية الطاحنة التي عرفتها، كما أن الروس قرروا فعل كل شيء من أجل إفشال أي سياسة أوروبية مشتركة للطاقة. ولعل من أسباب عودة الروس بقوة إلى ما يعتبرونه مجالهم الحيوي، أو منطقة نفوذهم، هي معاهدة الأمن الجماعي والرابطة الاقتصادية الأورو-آسيوية، التي يرونها متطابقة مع مصالح روسيا في القرن الحادي والعشرين. كما أن منظمة شنغهاي التي تأسست سنة 1996، والتي تجمع من حول روسيا والصين، دولا مثل كازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان تعتبر المثال الأوضح لآسيا الوسطى كما تريدها روسيا. ولكن مصطلح «الأجنبي القريب»، عند الروس، كما ترى الكاتبة، ليس حكرا على دول آسيا الوسطى، بل ويضم أوكرانيا وروسيا البيضاء، والتي كان الراحل يلتسين يرغب في ربطها في اتحاد يتأسس على رابطة الثقافة أو ما كان يسميه : «الحضارة السلافية».

تمنح الكاتبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوة كبيرة في المناورة، فبعد أن كانت كثير من الدول الآسيوية من الاتحاد السوفييتي السابق تترنح وتميل نحو الإغراءات الأمريكية، استطاع تعديل الكفة. وذلك «باستخدام الاعتدال في الدبلوماسية، وهو ما يتأقلم مع مختلف الفاعلين في المنطقة أفضل مما كان في السياسة الروسية السابقة. ما أتاح استرجاع أراض على حساب الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد نجحت في عمليات كبيرة من الإغواء في المنطقة في 2003- 2005».

[**أوروبا وروسيا*]

ليست الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من يثير القلق والمتاعب للروس، بل إن الاتحاد الأوروبي، أيضاً، وهو مستهلك كبير للطاقة (الغاز)، أدرك أهمية المنطقة من أجل مستقبله. ولكن روسيا، لا تُغلق عينيها، على ما يدور من حولها. خصوصاً وأنها «متعلقة، كثيراً، بالحفاظ على «الأجنبي القريب» تحت تأثيرها، ولها وسائل عديدة لممارسة هذا التأثير ومن بينها : التوسع الاقتصادي ومراقبة الإمدادات الطاقوية وطرق نقل الطاقة»، ولكن من يراقب جيداً الفرق بين التجمعات الاقتصادية والسياسية الكبرى، ما بين الاتحاد الأوروبي، مثلا، وبين «الأجنبي القريب»، يكتشف أن هذا الأخير لا يتمتع بالصلابة والتماسك التي كانت تريده روسيا. ومن هنا تتساءل المؤلفة : هل لا يزال لـ «الأجنبي القريب» موجوداً؟ وهل يؤكد الفضاء ما بعد السوفييتي وجهود روسيا كي يعترف لها فيه بحق التأثير والحد من تأثير الولايات المتحدة وحتى تأثير الاتحاد الأوروبي أن روسيا لا تزال قوة إمبراطورية أو أنها تمارس في «الأجنبي القريب» مشروع بناء إمبراطوري؟

إذا كانت من الصعوبة، كما نرى، إثبات وجود نزوع نحو الإمبراطورية، فإن هذا لا يمنع من القول إن روسيا تستخدم كل ما في أيديها من أوراق لتعزيز وجودها وقوة تأثيرها في «الأجنبي القريب». ولعل الكنيسة الأرثوذوكسية لها دور كبير، أو أن القيادة الروسية منحتها دوراً كبيراً تلعبه للتقريب بين شعوب الدول الأرثوذوكسية. «الكنيسة الأرثوذوكسية تؤمن حضورا روحيا وثقافيا لروسيا في «الأجنبي القريب». (...) الرئيس الروسي ورئيس الوزراء، المتعلقان، معا، بالكنيسة، على وعي بالدور الذي يمكن للكنيسة أن تلعبه وسط روس الشتات الذين فقدوا البوصلة بعد أن وجدوا أنفسهم مُقتَلَعين من أصولهم الروسية. وهذا الدور الهام للكنيسة يفسّر، على الأرجح، الامتيازات التي تتمتع بها الكنيسة، وبشكل خاص إعادة الأملاك (التي صُودِرت في الفترة السوفييتية)».

وتنتقل بنا الكاتبة إلى استعراض مشكل ظرفي تعرض هذا التجمع، «الأجنبي القريب»، وهي الأزمة الاقتصادية سنة 2008، «التي لا يمكن الاستهانة بنتائجها، وهي تتعلق باليد العاملة الآسيوية، التي تأتي بشكل أساسي من طاجكستان وقرغيزستان، التي لا تجد عملا في دُوَلها، فتأتي للعمل في أوراش البناء الروسية. فقد ارتبطت العنصرية بشكل من تصفية الحسابات (واضطرت طاجكستان إلى استعادة ما يقرب من 300 جثة لرعاياها، سنويا) وهو ما جرّ هجرة معاكسة : عودة العمال المقيمين في روسيا إلى بلدانهم. وهذه الهجرات، التي تسببت في خسارات مالية بسبب نقص التحويلات، خلقت مُناخا كبيرا من العداء لروسيا».

الانصهار البشري والثقافي الذي كان يتأسس عليه الاتحاد السوفييتي من أجل خلق رابطة من الشعوب، إن لم تكن جديدة ومتحدة، بشكل كامل، فعلى الأقل، قادرة على اقتسام مصير واحد، تلقت ضربة وانحسارا منذ سنة 1992.

في مثل هذه الظروف القاسية والصعبة، ترى الكاتبة أن «الأجنبي القريب» لا يمكن أن يكون اتحادا بالمفهوم الحقيقي للكلمة. «إنه (الأجنبي القريب) يقترب من أن يكون مجرد فضاء أجنبي بسيط، وكي يتسنى لروسيا أن تظل فيه، عليها أن تستخدم وسائل كلاسيكية للسياسة الخارجية».

تواصل الكاتبة عرضها وترى انه لا يبدو، للمراقب للحالة الروسية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن يعرف ما تريد أن تفعله سياستها الخارجية. نوع من التخبط ومن التجريبية، ولا يمكن للروسي العادي أن ينسى أن بلاده كانت خلال فترة طويلة إمبراطورية تتربع على قارتين، بل وأحياناً، تتربع على ثلاث قارات (حتى تسليم ألاسكا للولايات المتحدة سنة 1867)، وإذا كانت متعددة الإثنيات والديانات والثقافات.

تصف الكاتبة الوضعية الروسية الجديدة، بعد انهيار الإمبراطورية : «ولا يمكن للروسي الباحث عن هوية بلاده سوى أن يعي هذا التعقيد الذي يطبع المجموع الإمبراطوري. ولكن بعد سنة 1992، أصبحت مسألة الهوية الروسية تُطرح بعبارات جديدة وحادّة. كما أن روسيا الحالية لم تحتفظْ من الإمبراطورية الضائعة، ومن القوة المتبخّرة، إلا بعنصرين قويين، في المقام الأول، قارة تنتمي إلى عالَمَيْن يصعب فهم الصراع بينهما : فروسيا لا تزال، في الواقع، تجمع بين أوروبا وآسيا في دولة واحدة، وعلى الرغم من خسارة الأراضي، فإنها تتمدد دائما من قلب أوروبا إلى المحيط الهادي إلى الشرق الإسلامي. وفي المقام الثاني تشابك شعوب تمثل حضارات كبرى وديانات كبرى، المسيحية ولكن أيضا الإسلام واليهودية والبوذية، ويجب أن نضيف إليها، وليس الأمر نافلة، ديانة سكان سيبيريا وآسيا الوسطى. ليس للإمبراطورية من وجود، ولكن الدولة- القارة الروسية، في ملتقى طرق الشرق والغرب، لا تزال موجودة».

نقاشات كثيرة تدور في الأوساط الروسية، بين الأنتلجنسيا وصناع القرار السياسيين، عن طبيعة الدولة الروسية، عن الأصل الأوروبي والرافد الآسيوي. ولكن العلاقات الملتبسة، والباردة، أحيانا، مع الغرب، ونقصد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وكأنها تعطي الانطباع بأنهما لا يريدان علاقات وثيقة مع روسيا. ولكن «بوتين على وعي بأنه يتوجب عليه، في المقام الأول، إعادة بناء الدولة، ورفع مستوى الاقتصاد وإرساء النظام على الأطراف وامتلاك قوة مسلحة مؤكدة. ولم يعد من الممكن أبدا تخيل سياسة خارجية جريئة من دون حلّ للقضايا المستعجلة. يعرف بوتين هذه المسألة».

وتكشف الكاتبة أن الرئيس فلاديمير بوتين، «حتى في قمة اندفاعه نحو الغرب سنة 2001 (بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول)، لم يتخلّ أبدا عن خياره الآسيوي، وعلى الخصوص، الخيار الصيني «موقف التعاون المتتبع مع الولايات المتحدة سنة 2001 لم يضعْ حدّا للنقاش حول ضرورة أو إمكانية إعادة توجيه آسيوي للسياسة الروسية؛ ولم يُبْعِد، كذلك، أنصاره، مثل بريماكوف، من الحاشية المُقربَة من بوتين . الورقة الآسيوية وضعت، فقط، على جَنَب، وظل الخيار الصيني مفتوحا. وقد بدأ الميل باتجاهه ابتداء من سنة 2003».

تنقل الكاتبة ما كتبه بوبو لو، وهو واحد من أهم العارفين بعالم العلاقات الروسية - الصينية : «الشراكة الاستراتيجية بين هذين البلدين هو تركيبٌ من التناقضات والالتباسات حيث لا تكون الحقيقة متوافقةً، إلا قليلاً، مع المَظاهر»، وليس بوتين أول من أراد إدراج الصين في الاستراتيجية الروسية. فبوريس يلتسين، حاول إرساء مشروع ثلاثي : الولايات المتحدة – روسيا - الصين. «كي لا يتقدم الروس ضعافا أمام الأمريكان، ولكن أقوياء بتحالفهم مع الصينيين». الهدف الذي حرّك الصينيين من وراء خلق استراتيجية مع الصين هو خلق توزيعة دولية جديدة حيث تجد الولايات المتحدة الأمريكية، بدل أن تتفاوض مع روسيا من موقع القوي، تشارك في مثلث يُساوي بين ثقلي البلدين. «وهذه الرواية الأصلية كان الهدف منها الحصول من واشنطن على الاعتراف بوضعية القوة الكبرى. وفي هذه المناورة، لا تمثل الصين بديلا في العلاقة عن الولايات المتحدة بل مجرد ثقل مضاد من أجل تغيير التوازن في العلاقة الروسية - الأمريكية».

- [**تأليف : هيلين كارير دينكوس│ترجمة وعرض : بشير البكر│المصدر : صحيفة «الخليج» الاماراتية.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165282

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع إصدارات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165282 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010