الأربعاء 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

روسيا بين عالمين .. موسكو تقترب من بكين لحماية نفسها (3-3)

الأربعاء 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

مؤلفة كتاب «روسيا بين عالمين» هي هيلين كارير دينكوس مؤرخة فرنسية، ولدت في روسيا، وهي عضو منذ 1991 في الأكاديمية الفرنسية، والتي تشغل فيها منصب الأمينة الأبدية، ونشرت الكثير من المؤلفات، من بينها مجد الأمم، والمصاب الروسي، ونيقولاي الثاني، وكاثرين الثانية، والكسندر الثاني.

تجْدُر الإشارة، في البداية، إلى أن العالم بأسره، عدا الاتحاد السوفييتي، يَعتبر سقوط السلطات الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية النقطة النهائية لانهيار النظم الشمولية الحمراء، مُزيحة المصيبة الكبيرة للروس إلى مصاف حدث ثانوي، على الهامش، لقطيعة القرن العشرين الكبرى. وقام المجتمع الدولي باستقبال دول ما بعد الشيوعية بالأحضان، في حين أن الريبة لا تزال تحكم علاقاته مع روسيا. والشك المهيمن يتمثل في الأسئلة التالية : هل خرجت روسيا، بالفعل، من الشيوعية؟ ما هو هذا البلد (روسيا) الغريب الذي اختفى اسمه لفائدة الاتحاد السوفييتي إلى درجة إرباك مواطنيه؟ أين يمكن أن نضع روسيا الجديدة، هذه، التي قامت، بشكل إرادي، بتصفية إمبراطوريتها، مقارنة مع أوروبا؟ ومقارنة مع روسيا التي كانت خلال قرون؟ كما أن الروس بدورهم ما فتئوا يطرحون تساؤلات حول تاريخهم وهويتهم. هل هم أوروبيون؟ أم هم، بالأحرى آسيويون، بسبب تاريخ طويل من الغزو؟ أم هم مزيج من الأوروبيين والأسيويين؟

كي يصل الروس إلى أهدافهم، استخدموا البراغماتية إلى درجة كبيرة، فغضوا الطرف عن الاختلافات الديموغرافية مع الولايات المتحدة وعن النتائج التي يمكن أن تترتب عنها في أقصى الشرق الروسي، بل وفي سيبيريا.

وتكشف الكاتبة أن الرغبة الروسية الحقيقية من إحضار العامل الصيني هو احتواء الطموح الصيني الذي تشكل قوته الاقتصادية والسياسية الصاعدة تحدياً لروسيا التي هي ضحية لصعوبات مستدامة في الفترة الانتقالية. وتتساءل أيضاً حول ما إذا كان المشروع الروسي يروم أيضاً احتواء مشاريع الصين في التوسع المزعوم باتجاه الشرق الأقصى. ويصبح كل الأمر، أو ما تصفه الكاتبة بالقصة الغرامية الصينية الروسية : «ليس إلا استخداماً روسياً للورقة الصينية وتحييداً للطموحات الصينية».

تسخر الكاتبة من كثير من المحللين الروس وغيرهم ممن يرون ذكاء كبيراً روسياً في جذب الصين، وكأن الصين غبية وتُجر إلى الأمر جراً، أو كأنها ستكون مَدينَةً بشيء للروس. «لقد كان الصينيون على وعي بضعف الروس، بتعابير القوة الدولية . كما أن الصينيين كانوا أقوياء بفضل نمو اقتصادهم، وبفضل قوة بشرية هائلة بحيث لم يعودوا في حاجة إلى شيء لفرص انسجام أمام الأمريكان. وعلى كل حال فإن روسيا ليست الشريك الوحيد الذي تمتلكه الصين للقيام بهذا الدور : في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والمتنافسون على الشراكة يندفعون من حول الصين، تجذبهم قوتها الصاعدة». ومَكمن الضعف لدى الروس يتجلى في كون الشراكة بين الصين وروسيا أكثر نفعا للروس منها للصين، ويفسر الأمر كونُ الصين تمتلك شركاء أكثر مما يمتلك الروس.

كثير من القضايا الخلافية بين البلدين، وحتى إذا كانت المظاهر تشي بانسجام أو بتحسن كبير، فثمة مشاكل وتنافسات لا تظهر للعلن، ولكنها تسمم العلاقات وتجعل التطبيع أمراً بعيد المنال. ومن بينها المسألة التايوانية. فالصين تريد استرجاع هذه الجزيرة المتمردة (تايوان). ولكن الروس قلقون من الوحدة الصينية. ويرى الكثير من المختصين الروس أن الصين في حالة استرجاع تايوان ستكون مدفوعة، بشكل طبيعي، إلى محاولة ابتلاع أقصى الشرق الروسي. ويفتح الأمر مجموعة من التساؤلات المستقبلية : «إن وزن الصين القادم وطموحاتها الإقليمية، على افتراض التوحد مع تايوان، وعلى افتراض عدم وجود ردة فعل أمريكية، يمكن أن تثير قلق الروس. الصين التي هي شريك للروس، اليوم، ألا يمكن أن تصبح، غداً، منافساً رهيباً». وعلى الرغم من المشاكل الحاضرة وقلق المستقبل فثمة عنصر جديد أتى لتحسين العلاقات الصينية الروسية، وهو تطوير التعاون في إطار آسيا الوسطى، في مجموعة شنغهاي. ويكتشف المرء أن الشراكة هنا يمكن أن تكون واعِدَة.

لا ينظر الغرب بكثير من الاهتمام إلى هذه المجموعة، ويرى فيها : «تجمعاً بائساً للمصالح المحلية». ولكن الكاتبة ترى أن هذه المجموعة، وإن لم تساهم في قلب التوازنات الكبرى في المنطقة، فإنها : «تغطّي العلاقات بين الدول، وبشكل خاص، بين روسيا والصين، وتمنح لآسيا الوسطى مكاناً مهمّاً في التصورات الجيو سياسية للبلدين».

صحيح أن هذه المجموعة ليست تحالفاً يمكن مقارنته بحلف الناتو . ولكنه على الرغم من ذلك، فهو «يمنح للرئيس بوتين فائدة أخرى. فمن حيث وحدته يتعارض مع رابطة الدول المستقلة، التي تظل منقسمة بشكل دائم بسبب التذمر والحذر من الروس . تقدّم مجموعة شنغهاي نفسها باعتبارها مُكملة لرابطة الدول المستقلة التي يصعب إدارتها والتي لا تتقدم في اتجاه التناسق والوحدة». ومما يجعل هذه المجموعة أكثر حيوية، وجود الصين بين أحضانها، وهو ما يجعل الدول المشاركة لا تخشى أي نزوع إمبريالي روسي . صحيح أن روسيا قوة كبرى، ولكنها ليست الوحيدة، وربما ستنضم، إليها، الهند قريباً.

إذنْ فالدول المُشارِكة في هذا التكتل، جميعاً، تجد فائدة في وجودها. إذ إن إدماج أوزبكستان وتركمانستان يعني تمثيل مجموع الدول. كما أن استقبال دولتي الهند وإيران يمنحها بُعْداً جديدًا. وبفضل الثنائي الروسي الصيني استطاعت دول آسيا الوسطى الأعضاء في التكتل أن تتخلص من أي بُعد هيمنيّ، واستطاعت أن تناور بين الصين والروس، بل وأكثر وأبعد من هذا، وكما رأيناه مع قصة القواعد العسكرية، فقد أدمجت الولايات المتحدة في مناوراتها ودافعت عن مصالحها من خلال اللعب على تنافُس الدول العظمى.

لا يمكن التهوين من أهمية هذا التكتل، مقارنة مع التكتلات الأخرى. وهو ما تذهب إليه الكاتبة، حين تقول : «إذا لم نكن قادرين على حكم مسبق على مستقبل منظمة شنغهاي، وإذا لم يكن من الممكن أن نصفه بالندّ لحلف الناتو في آسيا، فإنه من الواضح استنتاج أن هذا التجمع، استطاع في سنوات قليلة، أن يفرض نفسَهُ في المنطقة وخارجها، وأصبح بنية مقبولة من قبل أعضائها، وازدادت أهميته الجيو سياسية، باطراد».

المهم أن روسيا وجدت نفسها في هذه اللعبة الكبرى الآسيوية التي ترتسم ليس مجرد أوراسيا وليست مجرد تغيّر للإمبراطورية القديمة. إن انتقال آسيا الوسطى، وهي منطقة ذات أهمية ثانوية، إلى المسرح الرئيسي للجيو سياسة المعاصرة، ساهمت كثيراً في هذه التغيّرات.

وجد الرئيس فلاديمير بوتين الدولة الروسية الجديدة في عزلة، بعد خروجها من الإمبراطورية السوفييتية، فطفق يميناً وشمالاً يبحث عن شركاء وحلفاء. و«دفع إلى الأمام سياسة «الأسْيَتة» في سياسته الخارجية وقرر تعزيز توسيع دائرة الدول التي يمكن التعامل معها. أي زيادة عدد المُحاوَرين بحثا عن عنصر قادر للتوازن مع الثنائي الذي أنشأه مع الصين. هذا هو الذي حرّكه في مسعاه. وقد كانت اليابان، خلال بعض الوقت، هدفاً لسياسته». «إن الانفتاح الروسي على اليابان ليس جديدا في السياسة الروسية الخارجية. فقد حاول الأمر، من قبله، الرئيس يلتسين، مقترحاً إعادة جزيرتين صغيرتين (شيكوتان وهابوماي) من أربع جزر متنازع عليها بين البلدين من أجل تحقيق السلام. وقد فشل الأمر لأن اليابانيين رأوا الاقتراح الروسي غير كافٍ، في حين أن بوريس يلتسين تعرض لمعارضة من الداخل فانكفأ. لأن العسكريين الروس رفضوا بشدة كل تخلّ للروس عن السيادة على جزر كوريل، لسبب لا يقبل الدحض، وهو أن خسارتها ستجمد الأسطول الروسي الموجود في فلاديفوستوك، لأنه من هذه القاعدة لا يمكن الوصول إلى المحيط الهادئ عبر المرور فقط عبر الأراضي الروسية».

إذن كانت الصين خشبة الخلاص للروس، بعد الرفض الياباني للتطبيع مع روسيا، وكانت وحدها من شاء «الإنصات إلى المقترحات الروسية».

الثابت في السياسة لا وجود حقيقياً له، وحدها المتغيرات في عالم السياسة هي التي تسير العلاقات بين الدول. فقد حاول بوتين من أجل فرض مكانة روسيا في العالم، خلق مثلث تعاون روسي صيني ياباني. ولكن اليابانيين أفشلوه لأنهم يريدون قبل كل شيء استعادة ما يعتبرونه جزراً محتلة من قبل الروس. فتمخضت فكرة بوتين عن تحالف ثلاثي روسي صيني هندي. ولكن هذه الفكرة التي دافع عنها بريماكوف، من قبل، تسير في اتجاه آخر غير اتجاه بريماكوف نفسه. لأن بوتين يرى فيها «وسيلة لمضاعفة التأثير الروسي في آسيا، وشكلياً، من أجل خلق ثقل موازن للسياسة الروسية المُركزَة على العلاقات مع الصين والشديدة التبعية لها. إن المثلث الذي يريد بوتين تشييده يتأسس على خطة مضاعفة وسائل الحركة الممنوحة للسياسة الروسية أكثر مما يستجيب لإرادة المَواجَهة».

إذا كانت روسيا قوة أوراسية، فإنه ليس من حقها الادعاء أنها قوة آسيوية، ولا تشكل جزءاً من آسيا الشرقية. ومع ذلك فلا يمكن تركها على الهامش، إذا أرادت أن تكون فاعلاً سياسياً بِبُعد عالمي. ويبدو أن الصينيين لا يعارضون هذا الدور وهذا الولوج الروسي، خصوصاً أن هؤلاء الأخيرين تخلوا عن كل نزوع هيمنة وإمبريالية.

تتحدث المؤلفة عن «الخيار الآسيوي» للروس، ولكنه، مع ذلك ليس سوى خيار المضطر، وليس خيار الحر. فالغرب لم يشأ أن يمسك اليد الممدودة للروس . وتلامس الكاتبة الحقيقة حين تكتبُ واصفةً موقف العديد من المستغربين، الذين تحدثوا عن روسيا بدايات القرن العشرين (ما أشبه البارحة باليوم!) : «الخيبة الروسية (التي قادت إلى «الخيار الآسيوي») في مواجهة أوروبا، عاجزة عن فهم روسيا، تقلل من أهميتها وتهمّشها لأنها لا تتناغم مع معاييرها». وتختم الكاتبة هذا الفصل بهذه الفقرة : «ليس معنى كل هذا أن روسيا اختارت مصيراً آسيوياً. وإن روسيا (تكتيكيا) كي تعيد بناء قوتها وتستعيد كبرياءها القومي تراهن على تميز جغرافي يمنحها مدخلاً إلى القسم الأكثر دينامية من عالمنا. وبوتين، الزعيم الذي يعلن عن طبيعته ومصالحه الأورو آسيوية، أليس، قبل كل شيء، روسيّاً مسكونا بِهَوى بلده؟».

[**«الشرق الأوسط»*]

تذهب المؤلفة بعيداً في قراءتها التفكيكية لطبيعة الدولة الروسية. «إنها ليست فقط أوراسيا، بل وأيضا دولة إسلامية». «وليس في الأمر ما يُضحك، على غرار الاتهامات العنصرية والفاشية بتحوّل دول أوروبية، من قبيل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، إلى دول إسلامية». «الأمر ليس بالتافه، فقد توسعت روسيا، منذ القرن السادس عشر، على أراضٍ إسلامية». «ويُشير بوتين إلى الطابع الاستثنائي للتعايش الروسي الإسلامي. ففي الواقع يوجد في روسيا روس مسيحيون ومسلمون، وهم جميعاً سكان محليون، وقد أصبحت الحياة بينهم عادية منذ قرون عديدة. وإذن فإن روسيا التي ضمت في حدودها الأراضي التاريخية لهؤلاء وأولئك يمكن أن تحدد نفسَهَا، على السواء، أرضاً للسلافيين المسيحيين أو بلداً للأتراك المسلمين، والجميع مواطنون في دولة واحدة، هي أيضاً أرض إسلام». وإذا كان من مسؤول روسي، رفع المستوى، راهن على استثمار هذا الرافد الإسلامي في السياسة والحضارة الروسيتين، فهو، من دون شك، إيفغيني بريماكوف.

ولم يكن هذا المسؤول الكبير يتردد في تكرار أن «لروسيا دوراً يمكن أن تلعبه في «الشرق الأوسط»، وقد جعل من الانفتاح على هذه المنطقة قضية شخصية له. وفي سنة 1996 ارتاد، وخلال عدة مرات، معظم الدول العربية في المنطقة مصر، سوريا، لبنان، الأردن. وقبل مؤتمر مدريد 2 ذهب إلى «إسرائيل» وحاول إقناع «الإسرائيليين» والفلسطينيين قبول «قواعد سير» قادرة على تحقيق النجاح في المؤتمر».

وفي مذكراته التي ظهرت قبل سنوات قليلة يعود بريماكوف لتحليل فشل السياسة الروسية، في تحقيق شيء كبير في فلسطين والعراق، فيعزو الأمر إلى السياسة الداخلية الروسية، التي ضربتها الأزمة الاقتصادية بقوة سنة 1998، ويرى أنه من أجل لعب دور قوي يجب على البلد أن ينهض ويستعيد وسائل الحركة. وتعقب الكاتبة على الأمر : «هو التناقض الأبدي لـ «قوة عظمى فقيرة». لكن هذا لم يمنع أنه، رغم الأزمة المالية، وعلى الرغم من كل العقبات، فإن بريماكوف، وكان حينها وزيرا للشؤون الخارجية، منذ سنة 1996، استطاع أن يكون المهندس العنيد لعودة بلاده إلى المسرح الشرق الأوسطي».

على النقيض من بوريس يلتسين، تميز بوتين، منذ البداية، بانفتاح على المسلمين، بل «وعبّر عن رغبته في الاعتراف بوضعية الدولة الإسلامية لروسيا». وفي سنة 2003 كان أول رئيس لدولة غير مسلمة يشارك في مؤتمر العالم الإسلامي، ويأخذ الكلمة أمام زعمائها. وفي سنة 2005 حصلت روسيا على عضوية مراقب في المؤتمر الاسلامي، بفضل الدعم الإيراني والمصري والسعودي. وبعد سنتين زار بوتين السعودية. وقد استغلت روسيا، باعتبارها دولة صديقة لا تملك طموحاً ولا مطالب إقليمية، هذا المعطى وهذا الانفتاح على العالم العربي الإسلامي كي تلعب دور الوسيط في الصراعات العديدة. وكانت تنطلق من واقعها، كبلد يتعايش فيه مسلمون ومسيحيون، كما تتعايش فيه شعوب تركية وفارسية وسلافية بشكل متناغم، وفي احترام لكل الديانات. كما أن بريماكوف الذي ظل حاضراً على المشهد السياسي الروسي لم يتوقف عن إدانة نظرية «صدام الحضارات» للأمريكي صموئيل هينتنغتون، التي أصبحت في نظره «إنجيلاً بالنسبة للأمريكيين».

انفتحت روسيا على كل الدول العربية تقريباً، فتحسنت العلاقات مع مصر، وعرفت انتعاشاً كبيراً جداً، كما عرفت الشيء ذاته العلاقات مع سوريا، والتقى الرئيس فلاديمير بوتين، مرتين، في دمشق قياديين من حركة المقاومة الإسلامية «حماس». ولم تنس روسيا دول الخليج العربي، من دائرة اهتمامها وغزلها.

[**العلاقات مع إيران*]

خلافاً للبرودة التي تعرفها العلاقات الروسية الإيرانية، هذه الأيام، من القضية النووية الإيرانية بعد إلغاء الروس بيع إيران المنظومة الصاروخية، فإن العلاقات ما بين الطرفين إيجابية ووثيقة. «تولي روسيا، على المستوى السياسي، لإيران أهمية كبيرة . وقد تمت دعوتُها للمشاركة في مجموعة شنغهاي، بصفة مراقب، بإلحاح من روسيا، وتلقت إيران دعماً كبيراً في هذه التجمع، في الوقت الذي كان الرئيس الإيراني يعرف متاعب في بلده، إثر الانتخابات الرئاسية، وكانت الانتقادات تمتد إلى مناطق كثيرة في العالَم».

تتساءل الكاتبة عن طبيعة هذه العلاقات. «ما هي الحمولة الحقيقية لعلاقات موسكو بطهران؟ هل تمثل محوراً جيو سياسياً مستقبلياً، يندرج بقوة في الاستراتيجية الآسيوية لروسيا؟ أم أنه عنصرٌ من استراتيجية كبيرة الحجم يكون الرهان الأكبر فيها على العلاقات الروسية الأمريكية، والذي يمكن أن يكون عُملة تبادل؟ أم أنها تُشكّل مساهمة في القوة الروسية التي هي في طور إعادة البناء؟». وترى الكاتبة أنه في حال استحالة تقديم جواب على هذه الأسئلة، فإنه يجب، على الأقل، أن نُوافق على أنه توجد، من قبل الروس، استمرارية نادرة في تشييد هذه العلاقة المفضلة مع إيران. كما أنها ترى أن «الفائدة الجيو سياسية لهذه الشراكة بالنسبة لروسيا من الصعب التشكيك فيها».

إن المحور الروسي الإيراني، كما ترى المؤلفة، يساهم، بداهة، في إعادة إرساء روسيا في «الشرق الأوسط»، الذي شكل توجهاً دائما في السياسة الروسية، سواء في زمن الإمبراطورية أم في زمن الاتحاد السوفييتي. ومن خلال هذه العودة الروسية إلى المنطقة، «تؤكد روسيا على استمرارية مصيرها ذاته». اعْتُبرت الحرب الروسية الجورجية، أغسطس/ آب 2008، حدثاً كبيراً في حد ذاته، من حيث الدروس المستخلصة من هذه الحرب غير المتكافئة. وكانت هذه الحرب، الحرب الأولى التي تقتحم فيها جيوش روسية بلداً آخر، منذ حرب أفغانستان سنة 1979.

نحن إزاء قراءات لا متناهية تحاول فهم هذه الحرب ومن انتصر فيها، وما هي الدروس المستفادة. وأيضاً من أشعل الحرب، ومن هم المتصارعون الحقيقيون؟ ما الذي أرادته روسيا وهي تشن هذه الحرب؟ وإلى من كانت هذه الحرب موجهة؟ هل كان المستهدف هو جورجيا أم اندرجت في مشروع أكثر رحابة؟ ما الذي دفع الروس إلى الحرب؟ هل هي الرغبة في حماية كيانات انفصالية؟ ومن بين الإجابات تركز الكاتبة على رغبة بوتين والرئيس ميدفيديف، معاً، على معاقبة الرئيس الجورجي، ساكاشفيللي، الذي أظهر عجرفة تجاه روسيا وبَالغَ في عدائها. لكن، بعيداً عن الرئيس الجورجي، كان الهدف الحقيقي للحرب هو الولايات المتحدة ومجموعة الدول الأوروبية. لقد كان خطاباً مزدوجاً، وهو أنه لا يمكن لأحد أن يتجاهل حرباً تخاض في قلب أوروبا، تقودها دولة عظمى.

وإذا ما كانت روسيا تريده من هذه الحرب، التي قيل عنها إنها غير متوازنة، كان الرغبة في «أن تظهر لمُحاوريها الرئيسيين والحقيقيين أنها، في البدء، لا تقبل توسيع حلف الأطلسي إلى حدودها القوقازية. وقد كرر بوتين وميدفيديف الأمر غير مرة. لم يسمعهما أحدٌ فانتقلا من الخطاب إلى الأعمال التطبيقية، أي إلى الحرب، وسُمِعَا». «وكان التحذير أيضاً ينطبق على أوكرانيا وقد سمع الأوكرانيون الدرس أيضاً».

تقول الكاتبة إن الرئيس الروسي ورئيس وزرائه اختارا الوقت المناسب لضربتهما الصاعقة، مستغلين غرق الولايات المتحدة في الشرق ومكبلة بالانتخابات، وأوروبا منقسمة حول الموضوع. وفي نهاية الأمر، انتهت الحرب وعادت الأمور الطبيعية إلى مجاريها.

كتاب غني عن التجربة الروسية، وعن الرئيس/رئيس الوزراء (وربما الرئيس القادم) بوتين. وكيف لا وكاتبته، عضوة الأكاديمية الفرنسية، من أصول روسية، وعارفة بالدواخل والكواليس الروسية.

ويبدو، وهي المعروفة بكرهها الشديد للحقبة السوفييتية، منجذبة بشخصية فلاديمير بوتين.

وتنتهي الكاتبة برغبة ملحة وصادقة منها في فهم الأوروبيين للروس. «بدلاً من إظهار خوف دائم من روسيا، ألن يكون من الأفضل بذل جهد من أجل فهمها، من أجل فهم أن روسيا، وهي المُمزقَة ما بين عالَمَيْن، والتي تنحاز وتتماهى مع أوروبا، وتريد أن تتقاسم مصيرها؟».

تستشهد المؤلفة بما قاله إيغور يورجونس، وهو أحد المقربين من الرئيس الروسي ميدفيديف، وهو يتحدث عن الوضعية الصعبة التي تعيشها روسيا، وعن الخيارات القليلة التي يتوفر عليها الروس : «إذا لم نندمج مع الأوروبيين، تبقى لنا الصين. وهي طريق مُكلفة جدا للشعب الروسي . وليس مُؤكداً أنه من وجهة نظر الحضارة سنكون متلائمين».

إنها دعوة صريحة لعدم إضاعة روسيا، ولعدم دفعها لحرب باردة جديدة. دعوة إلى اعتبارها أكثر من مجرد جار، أي شريك قوي، ولكن أقل من عضو رسمي في الاتحاد الأوروبي وفي حلف الأطلسي.

- [**تأليف : هيلين كارير دينكوس│ترجمة وعرض : بشير البكر│المصدر : صحيفة «الخليج» الاماراتية.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2176697

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع إصدارات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2176697 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40