الخميس 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

الآثار تقوض المشروع الصهيوني

الخميس 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par أحمد الدبش

كانت أسفار «العهد القديم» حتى وقت قريب جداً، تتمتع بمركز الصدارة في أي بحث أو دراسة في تاريخ الشرق الأدنى القديم عموماً، والتاريخ الفلسطيني خصوصاً. وأصبح العالم أمام نظريات اعتبرت مسلمات حول تاريخ فلسطين ومنطقة الشرق العربي، فاختُلق تاريخ جديد لـ «إسرائيل» وللمنطقة بأسرها. وقد سار في هذا الطريق غالبية الباحثين والمؤرخين الأوروبيين، وتبعهم في ذلك المؤرخون العرب من أصحاب وحراس الفكر الآسن في جامعاتنا ومراكز أبحاثنا.

فمنذ القرون الأولى للمسيحية حتى صعود الإمبراطوريات الأوروبية العظمى، كان ثمة نوع من انبهار بالأرض المقدسة (فلسطين) ـ مع الرغبة في استكشافها ـ لم يغب قط عن المحور الأساسي للفكر الديني الأوروبي.

وفي وقت مبكر يعود إلى القرن الثاني الميلادي بدأ الحجاج المسيحيون الأوائل القادمون من مختلف أجزاء الإمبراطورية الرومانية يصلون فلسطين ليعاودوا تعقب خطوات يسوع وحوارييه. وفي أثناء طوافهم في أرجاء البلاد بمجموعات صغيرة كان هؤلاء يتوقفون للصلاة والتأمل في الأماكن التي كان سكانها المحليون يرشدونهم إليها على أنها مواقع نشاط يسوع وآلامه. ولكن الحج المسيحي بدأ، مع حلول القرن الثاني، يأخذ بالضرورة طابع التنقيب الأثري لأن المشهد كان قد بات شديد الاختلاف عما ورد في العهد القديم والجديد.

كانت النتيجة نوعاً جديداً من الحج معادياً لأهل البلاد ومسوغاً لاستعمارها وتحويلها إلى أرض التوراة، وبذلك أُعدّ [مسرح الأثريات] بأسلوب يعكس الهوس الديني بالتوراة فأعيد تجسيد فلسطين الكتابية المألوفة عبر الاستخدام التجسيدي التقمصي لاسيما أنَّها مقدسة بنظر التراث الديني اليهودي ـ المسيحي. وبعبارة أخرى، كانت فلسطين تتعرض لعملية نقل وتحويل زمانية تفضي إلى جعل الماضي التوراتي حقيقة، إلا أن التوجه المنظم والهادف والمرتبط بالدوائر الاستعمارية والتوجهات اليهودية راح يتشكل في القرون السابقة الأخيرة وخاصة بعد انتهاء الحروب الصليبية والتقلبات التي حدثت في أوروبا.

وشهد القرن التاسع عشر أكبر الحملات الاستشراقية الآثارية، فقد صار من الواضح أن الحكومات الغربية، وعلى رأسها الملوك في بريطانيا وفرنسا وهولندا وروسيا، هي التي تبنت تلك الحملات ومولتها، حيث أخذت بشكل ما طابعاً رسمياً منظماً. ولما بدا واضحاً أن اليهود راحوا يتحركون لإنشاء جمعيات صهيونية اجتمعت جهودهم مع جهود التوجه الصهيوني المسيحي لتشكيل تحركات واسعة نحو فلسطين.

وقد أخذت تقنيات هذه الجغرافيا الكتابية الحديثة شكلها مع الأعمال الاستكشافية التي قام بها في عام 1838م كل من «أدوارد روبنسون وإيلي سميث»، فخلال رحلة من السويس إلى بيروت دامت ثلاثة أشهر، اهتدى «روبنسون وسميث» إلى العشرات من المواقع الكتابية التي كانت مغلفة ومتناثرة في أرجاء المسرح القديم للبلاد، وقد وصفا التحولات اللغوية التي أفضت، باعتقادهما، إلى قلب أسماء الأماكن العبرية القديمة إلى أسماء عربية حديثة.

فقد زور «روبنسون» عشرات المواقع القديمة بمساعدة «سميث» الذي وضع أثناء عمله مبشراً قائمة بالأسماء العربية لقري فلسطين. فقرية (عناتا)، لم تكن فيما يبدو، إلا (عنتوت) الكتابية، مسقط رأس النبي إرميا؛ و(جباع) كانت هي (جبعة) إحدى مدن بنيامين؛ و(مخماس) بدت مناسبة تماماً لساحة معركة شاؤل في (مخماس)؛ و(بيتن) كانت (بيت إيل) محطة توقف إبراهيم وموقع حلم يعقوب الشهير؛ وممَّا لا شك فيه أن (الجب) كانت هي (جبعون) الكتابية حيث قام يوشع بتجميد الشمس في مكانها.

وكانت هذه الجولة التجريبية، حسب كلام «روبنسون» فيما بعد : «قد قادتنا عبر مشاهد مرتبطة بالعديد من الأسماء والأحداث والأفعال التاريخية مثل إبراهيم ويعقوب، وسليمان وشاؤل، ويونان، وداود، وصموئيل؛ فقد تمكنا من تحديد الأماكن التي عاشوا ونشطوا فيها، واستطعنا أن نتعقب ما يمكن اعتباره خطواتهم ذاتها» [*(1)*].

وبكلمات «روبنسون» شكلت دراسة الجغرافيا التاريخية لفلسطين «محاولة أولي لكشف النقاب عن كنوز الجغرافيا الكتابية.. التي طالما ظلت هاجعة دون استكشاف قروناً من الزمن، حتى باتت مغطاة بغبار تلك القرون وركامها، فأصبح وجودها بالذات من الأمور المنسية» [*(2)*].

وبذلك أعدت (مسرح الأثريات) بأسلوب يعكس عقلية الرحالة، فتقاريرهم عن فلسطين، مثلاً، كانت توظف بصورة مطردة أسماء ودلالات كتابية لضمان جعل القراء يعترفون بالمواقع الأثرية. وبالتالي فإن موقع (تل الحصن) الكائن في وادي الأردن الشمالي، الذي كانت جامعة بنسلفانيا تضطلع بمهمة التنقيب فيه، بات يطلق عليه اسم (بيت ـ شءان) الذي هو المكان الذي ظهر فيه الملك شاؤل للمرة الأخيرة. وبات (تل الغول)، الواقع على بعد ميلين إلى الشمال من القدس، والذي كانت تنقب فيه «المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية» بات يوصف على أنه (جبعة شاؤل). أما (تل المتسلم) الذي كان خاضعاً لإشراف جامعة شيكاغو، فقد جرى الكشف عنه على أنه (هرمجدون) الشهير الذي «اختاره كاتب سفر الرؤيا.. ساحة للمعركة الكبرى الأخيرة»، وما لبثت (عسقلان)، الواقعة إلى الشمال من غزة، والتي قامت «مدرسة الآثار البريطانية» بالكشف عنها، أن أصبحت «تلك المدينة الكتابية الدفينة» التي تم العثور فيها على «البلاط العظيم لهيرود» [*(3)*].

وفي الثاني من أيار عام 1865م عُقد اجتماع عام وحاشد شكل أرضية التأسيس الرسمي لصندوق استكشاف فلسطين (Palestine Exploration Fund)، وإلى جانب كل من رئيس أساقفة يورك، الذي سمي رئيساً، و«جورج غروف» الذي عُين أمين سر شرف، جلس على المنصة بعد أبرز شخصيات المجتمع الفكتورياني. وما لبثت جهود منظمي الصندوق أن فازت بالدعم الرسمي من جانب دوق أرغَيْل. ومن عالم المال جاء «مورتون بيتو»، أحد عمالقة السكك الحديدية، و«والتر موريسون» أحد الصناعيين من أصحاب الملايين. أما من رجال العلم فكان كل من «السير وُلتر سُكُت» رئيس جمعية العمارة الملكية. و«السير رودريك مورتشيسون» رئيس الجمعية الجغرافية الملكية. ومن كنيسة إنجلترا جاء، إضافة إلى رئيس أساثقة يورك وعميد وستمنستر، أساقفة كل من أكسفورد ولندن وإيلي، مع عميدي كاتدرائية سانت بول وكنيسة المسيح. وحتى «جيمس فرغسُن وجورج ولْيَمْز» كانا قد نسيا خلافاتهما السابقة والتحقا بركب الآخرين في جمعية تركز هدفها على التقصي العلمي لـ «آثار فلسطين وجغرافيتها وجيولوجيتها وتاريخها الطبيعي».

وبعد صلاة افتتاحية ترأسها أسقف لندن، قام «وليم طمسن» رئيس أساقفة يورك بصفته رئيس هذه الجمعية ليوجز أهداف الجمعية الجديدة بخطوطها العريضة، وكشف بوضوح عن التوجهات المستقبلية للعمل، إذ قال في الاجتماع الحاشد : «إن هذا البلد فلسطين عائد لكم ولي؛ إنه لنا أساساً. فقد مُنحت فلسطين إلى أبي إسرائيل بالعبارات التالية : هيا امْشِ في الأرض طولاً وعرضاً، لأنني سأعطيك إياها!! ونحن عازمون على المشي عبر فلسطين، بالطول والعرض، لأن تلك الأرض مُنحت لنا. إنها الأرض التي تأتي أنباء خلاصنا منها. إنها الأرض التي نتوجه إليها بوصفها منبعاً لجميع آمالنا؛ إنها الأرض التي نتطلع إليها بوطنية صادقة تضاهي حماسنا الوطني لدى النظر إلى إنجلترا القديمة العزيزة هذه».

وفي ختام تعليقاته، أعلن رئيس الأساقفة أن الملكة «فيكتوريا» بالذات كانت قد تفضلت بالموافقة على أن تكون الراعية (ولية النعمة) الرسمية لصندوق استكشاف فلسطين. وشكل تبرعها لخزينة الجمعية بمبلغ مئة وخمسين جنيهاً، أكثر من أي تبرع آخر، رمزاً لموافقة المجتمع البريطاني واهتمامه بما اعتبر مشروعاً قومياً» [*(4)*].

أما الهدف من إنشاء هذا الصندوق فهو البحث وفق منهج دقيق ووثيق(!!) في آثار فلسطين وذلك من أجل إيضاح التوراة. وعلى حد تعبير بيان تأسيس الصندوق، فإن أهدافه تتركز في : «التحري الدقيق والمنهجي لآثار الأرض المقدسة وطبوغرافيتها وجيولوجيتها وعاداتها وتقاليدها، من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس» [*(5)*].

وكان أول أعمال هذا الصندوق المسح الجغرافي لفلسطين الذي جاء على شكل 26 خريطة مفصلة تفصيلاً دقيقاً، بمقياس يقرب من 1 إلى 60.000، كما وصل تصنيف الأماكن إلى 46 تصنيفاً : (مثلاً : مدينة، قرية، خربة، بير، مزار، تل، نبع، قلعة، نهر .. إلخ)، وصدرت مع الخرائط 10 مجلدات تشمل الجيولوجيا والنبات والحيوان والطير والمياه والآثار والطوبوغرافيا وملاحظات عن المعنى التاريخي لقرى فلسطين. قام فريق مساحين بمسح (6000 ميل مربع) من فلسطين، واستمر العمل من سنة (1871 ـ 1875 ) وانتهى بنشر المجلدات والخرائط عام 1888 [*(6)*].

ولعل أهم ما ميز هذا التحرك الارتباط الوثيق بين السياسة البريطانية والحركة الصهيونية. وتمهيداً لتحقيق الطموحات الصهيونية تصدى لحالة الاستشراق كبار الضباط الإنجليز الصهاينة المرتبطين باليهودية ارتباطاً وثيقاً.

وقد اتضح أن معظم الذين اهتموا بدراسة فلسطين وزاروها هم ضباط ملكيون بريطانيون، أمثال الكابتن «تشارلز» و «راين» و«كلود رينيه كوندر» والملازم «كتشنر» وغيرهم. وقد جاؤوا إلى فلسطين برعاية ملكية بريطانية خاصة وبسماح من السلطات العثمانية التي كانت فلسطين آنذاك جزءاً من الدولة العثمانية.

وما بين عامي 1848 ـ 1910م جاء إلى فلسطين عالم الجغرافيا الاستشراقي «كوندر»، وقد ظهر له عدة كتابات عن طبوغرافية غرب فلسطين وكتاب (المرشد إلى التوراة)، وفي كتبه حاول تعيين مواقع الأسماء الوارد ذكرها في التوراة ورسم حدود أسباط بني إسرائيل، وقام بقراءة النقوش الأثرية وفك رموزها. وعلى ضوء ما قام به رسمت خرائط لفلسطين ساعدت الجنرال أللنبي حين زحف على فلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى. وتشير كتابات المستشرق الجغرافي «كوندر» إلى أنه كان من غلاة الصهيونية المسيحية، وقد نشر كتاباً عنونه بـ (يهوذا المكابي وحرب الاستقلال اليهودي)، ثم أصدر كتاباً بعنوان (مدخل إلى جغرافية الكتاب المقدس)، وفي عام 1892 ألقى محاضرة بعنوان (فلسطين الشرقية) على أعضاء الخيمة الغربية التابعة لأحباء صهيون التي سارعت إلى نشرها. وقد اعتز الصهاينة اليهود بما قدمه «كوندر» من خدمات للحركة الصهيونية خاصة تلك الخرائط الطبوغرافية المتعلقة بفلسطين [*(7)*].

مع انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، كان ثمة اهتمام جديد بوضع خريطة فلسطين يتنامى في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً. وانطلقت، مرة أخرى، المشاركة الأمريكية في استكشاف الأرض المقدسة. ففي وقت مبكر يعود إلى صيف عام 1869م كانت جماعة من الشخصيات الشيكاغوية المرموقة قد أسست الفرع الأمريكي الأول لصندوق استكشاف فلسطين، ولكنها ما لبثت أن اكتشفت أنها لا تستطيع أن تكتفي بمجرد تقديم الدعم المالي لمنظمة بريطانية. ففي العام التالي أقيمت جمعية أمريكية مستقلة لاستكشاف فلسطين في نيويورك، أعلن منظموها عن اعتزامهم التنافس، نداً لند، مع صندوق استكشاف فلسطين البريطاني. وبعد دعوة المكتتبين وإصدار نشرة دورية، قام الأمريكيون في تموز من عام 1871م بالإعلان عن خطتهم المتمثلة بإيفاد بعثة وضع خرائط خاصة بهم إلى فلسطين. وتقدمت الجمعية الأمريكية الوليدة لتعلن شرق الأردن مجالاً لعملها [*(8)*].

ترافق هذا التطور مع حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام وقد ركزت الجهود الغربية آنذاك على النشاطات الواسعة من رحلات وبعثات وجمعيات توراتية عدة وأخرى جاءت بقصد التنصير. وتنافست الدول العظمى آنذاك كبريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا على إيجاد موطئ قدم تبشيري في ارض فلسطين. وكان لا بد من أن يرافق ذلك توجه استشراقي واسع ومتخصص بأرض فلسطين.

ومن أهم المستشرقين الذين قاموا برحلات ودراسات تراثية وأثرية في فلسطين الفرنسي «لويس فيليسيان كاينار دوسولسي» (1807 ـ 1880). والذي يصفه «بروسبر مَريمي» بـ «خليط عجيب يجمع بين ضابط المدفعية ممن جهة وباحث أكاديمي من جهة ثانية». لقد زار «دوسولسي» مختلف المواقع الكلاسيكية في كل من اليونان وإيطاليا وآسيا الصغرى، وفي عام 1850 وفّرتْ لـ «دو سولسي» فرصة فريدة للتوجه إلى فلسطين. غير أن الرحلة الطويلة إلى فلسطين لم تتمخض، على ما يبدو، عن النتيجة المرجوة. والشبان الفرنسيون هؤلاء وصلوا إلى القدس في الثالث والعشرين من كانون الأول عام 1850 حيث استقبلهم القنصل الفرنسي «بوتا» بحرارة، ثم استقروا في أحد فنادق المدينة القليلة ذات الطراز الأوروبي. وفي هذه الأثناء نجح «دو سولسي»، و«إدوارد دلسر»، ابن مدير الشرطة الفرنسية السابق، وهو أحد الودائع في الحصول على كمية من الحشيش للاستهلاك الشخصي في احتفالات العيد في المدينة المقدسة. وعلى الأثر تلقى «دو سولسي» والشباب أمراً صارماً بمغادرة مأواهم المريح، والعمل على تدبير أمورهم بأنفسهم. ولكن «دوسولسي»، بدلاً من البحث عن مأوى آخرِ في المدينة، أعلن أمام أتباعه المترنحين السكارى أنهم سينطلقون فوراً إلى البحر الميت للشروع بالعمل العلمي المهم للبعثة لاستكشافية. وعلى مدار واحد وعشرين يوماً قاد «دو سولسي» صحبه، دونما رحمة، حول الطرف الجنوبي للبحر الميت، واقتنع أخيراً بأنه قد حدّدَ المواقع الصحيحة لسدوم وعمورة، ثم عاد «دو سولسي» إلى القدس للغوص في تقصي التفاصيل الدقيقة للآثار القديمة هناك. وبعد معاينة نمط البناء الحجري للجدار الداعم للحرم الشريف، وإعلان أقسام معينة، دون الاستناد إلى معايير واضحة، على أنها سليمانية أكثر منها هيرودية، انجذب «دو سولسي» إلى خرابة خارج أسوار المدينة، معروفة تقليدياً على أنها قبور السلاطين. وبعد أن أصدر أمراً لصحبه بإزاحة بعض الأنقاض من مدخل سرداب الدفن القديم، تسلل «دو سولسي» نفسه زاحفاً، ونجح في سحب الغطاء المكسور لتابوت من الحجر الكلسي أثار بهجته الشديدة، إذ تعرف عليه أنه تابوت الملك داود. غادر «دو سولسي» وفريقه القدس، وتوجهوا شمالاً عبر سامريا نحو بيروت، حيث استقلوا باخرة لتعيدهم إلى فرنسا. لقد كتب «دو سولسي» يقول : «حتى حين كنت أتعقب خطوات البحاثة المتبحر الدكتور رُبنسن، تمكنت من إدراك الكثير من المعلومات الجديدة والمهمة». فالرجل (دو سولسي) لم يكتف إذاً بإقرار حقيقة [حسب قناعته هو] أن لمواقع التقليدية في الأرض المقدسة كانت قابلة للبرهنة العلمية، بل وكان قد جمع أعمالاً أثرية ملموسة كإثباتات وأدلة.

أما العالم «أرنست رينان» فقد وجه انتقاداً إلى سلفه «دو سولسي»، تضمن سخرية لاذعة من بعض نظرياته الأثرية الأكثر سذاجة. ومن فكرة أن الحرم الشريف قد غطى فعلاً أجزاء مهمة من بقايا هيكل سليمان، أو أن (قبور السلاطين) تضمنت فعلاً بقايا عواهل عبرانيين [*(9)*].

ولقد لعب الاستشراق الألماني دوراً مهماً وبارزاً في التركيز على فلسطين، واكتشاف آثارها ومقارنة تلك الآثار بما ورد في التوراة، ومن أشهر المستشرقين الألمان في هذا المجال المدعو «كارستن نيبور» و«أولريش زيتسن» و«لودفيغ موركهارت».

ولعلها من أخطر حركات الاستشراق الغربية عموماً لأن الجامعات الألمانية لا تدرس إلا علم الآثار التوراتي، الذي يتطلب دراسة اللغة العبرية لمدة عشر سنوات. ومن إفرازات حركة الاستشراق أن عدداً من المستشرقين المهتمين بدارسة أرض فلسطين اتجهوا نحو دراسة التراث الشعبي الفلسطيني ليربطوه ببعض مقولات التوراة والقصص الشعبي اليهودي، ومن هؤلاء المستشرقة الفنلندية «هيلما جرانكفست». فهذه المستشرقة التي جاءت إلى فلسطين في أوائل القرن العشرين جمعت آلاف البطاقات والأوراق المدون فيها كل ما يتعلق بالتراث الشعبي الفلسطيني من لباس وأغانٍ وعادات وتقاليد، وقد عاشت مع الفلاحين في منطقة بيت لحم وقرية أرطاس تحديداً حياتهم، فكانت تذهب مع الحصادين وتدون أغانيهم وعاداتهم وتقاليدهم.

واللافت للنظر أن هذه المستشرقة دونت هذا التراث بالنطق الفلسطيني وبالحرف الفنلندي، وقد صرحت بأنها جاءت إلى فلسطين لكي تدرس العلاقة بين التوراة والتراث الفلسطيني، وبعد أن مكثت عشر سنوات في فلسطين خرجت بقناعة أن لا علاقة بين التوراة وهذا التراث، وأن المزاعم اليهودية ما هي إلا أباطيل يجب دحضها. وما زالت آلاف النسخ والبطاقات والأوراق التي دونتها المستشرقة موجودة في هلسنكي عاصمة فنلندا [*(10)*].

في عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن، بدأ عود الصهيونية يشتد، بعد وعد بلفور وتقسيمات «سايكس ـ بيكو» والانتداب البريطاني على فلسطين، فاستفادت من هذا التحول أيما إفادة، وشرع الباحثون الصهاينة يجهدون لتأكيد الحق اليهودي في فلسطين من خلال أبحاثهم الأركيولوجية ومن خلال الحفر والتنقيب الذي أجروه في فلسطين وجوارها، ساعين إلى تأويل كل المعلومات المستجدة لمصلحة أفكارهم التوراتية، وكان من أبرز الباحثين في آثار فلسطين من دعاة علم الآثار التوراتي، عالم الآثار الأمريكي «وليام فوكسويل أولبرايت» الذي ترأس «المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية» في القدس من عام 1919 إلى عام 1936، والذي سميّت المدرسة فيما بعد باسمه، وقد سار على نهجه «بنيامين مازار» مؤسس الفرع «الإسرائيلي» لعلم الآثار التوراتي، وكلاهما قام بإجراء عمليات تنقيب واسعة في المدن الفلسطينية (مجدو)، و(عسقلان)، و(نابلس)، و(أريحا)، و(الخليل)، و(القدس)، و(بيسان). وقد اتضح الآن أن «أولبرايت»، ومعاونوه وتلاميذه، تعاملوا تعسفياً مع كثير من الاكتشافات الأثرية على أساس أنها توراتية، دون بذل الكثير من الجهد لمعرفة حقيقة هذه الآثار وتاريخها.

وبذلك ما فتئت «إسرائيل» تفتش عن شرعيتها في التاريخ القديم، مبررة وجودها على أساس من الحق التاريخي والديني في فلسطين. ولتأكيد هذه الحقوق التاريخية والدينية، قام الأثريون والباحثون بالتنقيب في كل مكان ورد اسمه في التوراة و«التوراة في يد والمجرفة في يد»، فظهرت إلى الوجود مدارس فكرية واضحة المعالم تختص بدراسات آثار العهد القديم، وتنطلق من الافتراض بصحة العهد القديم، ومن ثم الاعتماد عليه مصدراً تاريخياً لتاريخ الأرض المقدسة (فلسطين)، وتاريخ وجود «دولة إسرائيلية» في تلك الأرض.

وفي السنوات العشرون الماضية أو ما يقاربها، ألقيت ظلال من الشك العميق على إمكانية كتابة تاريخ لـ «إسرائيل» استناداً إلى روايات التوراة، ووصل بعض المؤرخين إلى حد التشكيك من حيث المبدأ، بإمكانية كتابة تاريخ من هذا النوع. فالبحث عن تاريخ «إسرائيل» ما زال غامضاً كما كان دوماً. وأي محاولة للتوفيق بين البينات التوراتية وغير التوراتية إثباتاً لتاريخانية «إسرائيل»، سرعان ما دخلت مرحلة الانهيار، التي ما زالت متواصلة حتى اليوم.

فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته، بدأ جيل جديد من علماء الآثار باستخدام وتطوير أسلوب مستحدث في التنقيب هو أسلوب المسح الميداني الكامل لمناطق جغرافية معينة (Regional Survey)، بدلاً من الحفر في مواقع متباعدة ومنعزلة عن بعضها. وقد قامت «جامعة تل أبيب» بتجهيز فرق تنقيب متنوعة مزودة بعلماء من شتي الاختصاصات لمساعدة علم الآثار، قام أفرادها سيراً على الأقدام بمسح كل متر من مناطق الهضاب الفلسطينية، وعملت خلال العشرين سنة الماضية على جمع معلومات غزيرة أحدثت ثورة في علم آثار فلسطين. وكلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم ويتم الربط بينها وتحليلها تبين للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الرواية التوراتية عن أصول «إسرائيل» في كنعان / فلسطين، وعن نشوء ما يدعى بالمملكة الموحدة ومملكتي «السامرة ويهوذا». وهذا ما دفع واحداً من ألمع علماء الآثار في «إسرائيل» وهو «إ. فنكلشتاين» (Israel Finkelstien) إلى الدعوة لتحرير علم الآثار «الإسرائيلي» من سطوة النص التوراتي. ففي ندوة عقدتها جامعة بن غوريون عام 1998م وموضوعها أصول «إسرائيل»؛ قال «فنكلشتاين» بأن المصدر التوراتي الذي تحكّم بماضي البحث في أصول «إسرائيل» قد تراجعت أهميته في الوقت الحاضر، ولم يعد من المصادر الرئيسية المباشرة. فأسفار التوراة التي دونت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها، تحمل طابعاً لاهوتياً يجعلها منحازة، الأمر الذي يجعل من البحث عن بذور تاريخية في المرويات التوراتية عملية بالغة الصعوبة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأصل. من هنا يرى «فنكلشتاين» ضرورة استقراء الوقائع الأركيولوجية استقراء موضوعياً وحراً، بمعزل عن الرواية التوراتية [*(11)*].

ومن أبرز رواد هذا الاتجاه البروفيسور «طمسن» ـ أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في ميلووكي بالولايات المتحدة الأمريكية -، الذي حورب بسبب آرائه المعارضة للتوراتيين التقليديين، فقد طرد من منصبه في العام 1992، لأنه دعا في كتابه الذي صدر في العام نفسه، وعنوانه «التاريخ القديم للشعب «الإسرائيلي»» إلى «نقض تاريخية التوراة» أي عدم الاعتماد على التوراة كتاباً لتاريخ المنطقة والحضارات، وإلى اعتماد الحفريات الأركيولوجية (الأثرية) وثروة الآثار الكتابية القديمة كمصادر لإعادة كتابة تاريخ المنطق، قائلاً : «إن أي محاولة لكتابة تاريخ فلسطين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، أو بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، على الضوء التام لمصادر الكتاب المقدس، لتبدو على الفور محاولة فاشلة وميئوس منها، بل يمكن اعتبارها محاولة هزلية بالكامل، وتبعث على الضحك والفكاهة. إن قصص العهد القديم ما هي إلا مأثورات وحكايات كتبت أثناء القرن الثاني قبل الميلاد. وإنه مضيعة للوقت أن يحاول أي إنسان أن يثبت مثل هذه الأحداث التوراتية من خلال علم الآثار القديمة، فالعهد القديم ليس له أي قيمة كمصدر تاريخي» [*(12)*].

وقد قام العلاّمة «كيث وايتلام»، أستاذ العلوم الكتابية في قسم الدراسات اللاهوتية بجامعة سترلنغ بالمملكة المتحدة، بمراجعة المؤلفات التي تعاملت مع تاريخ فلسطين القديم، وأدرك في حينه مدى توغل الخطاب الاستشراقي في الكتابات عن تاريخ فلسطين. وأشار إلى أن هناك عملية طمس متعمد ومبرمج من قبل الحركة الصهيونية لكثير من الدلالات التاريخية للمكتشفات الأثرية في فلسطين ومحاولة تفسيرها بطريقة مغلوطة في أغلب الأحيان.فتوصل في كتابه «تلفيق «إسرائيل» التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني» إلى «أن صورة ماضي «إسرائيل»، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية، أي تلفيق للتاريخ» [*(13)*].

إلا أن الصفعة القاسية والضربة القاصمة التي تلقاها الباحثون عن «إسرائيل» القديمة في فلسطين هي تلك التي رماهم به عالم الآثار «الإسرائيلي» أستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في «جامعة تل أبيب» البروفيسور «زئيف هرتسوغ» في تقريره الموسوم بـ «التوراة : لا إثباتات على الأرض»، الذي نشرته جريدة (هآرتس) «الإسرائيلية» بتاريخ 18/11/1999، ورغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للعالم «الإسرائيلي»، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه، فيذكر «هرتسوغ» أنه «بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان»، ويستطرد «هرتسوغ» قائلاً : «من المعتقد أن سكان العالم كله ولا مواطني «إسرائيل» وأبناء الشعب اليهودي وحدهم سيذهلون لسماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات في ارض «إسرائيل» [فلسطين] منذ مدة من الزمن. في العشرين سنة الأخيرة يحدث انقلاب حقيقي في نظر علماء الآثار «الإسرائيليين» إلى التوراة باعتبارها مصدراً تاريخياً، وإنَّ أغلبية المنشغلين في النقاشات العلمية في مجال توراة أثار وتاريخ شعب «إسرائيل» الذين كانوا حتى الآن يبحثون في الأرض عن البراهين والدلائل للحكايات الواردة في العهد القديم، يتفقون الآن على أنَّ مراحل تكون شعب «إسرائيل» كانت مغايرة تماماً لما يوصف في التوراة. من الصعب قبول ذلك، ولكن من الواضح للعلماء والباحثين اليوم أن شعب «إسرائيل» لم يُقم في مصر ولم يَتُه في الصحراء ولم يحتل الأرض من خلال حملة عسكرية ولم يستوطنها من خلال أسباطه الاثني عشر. والأصعب من ذلك أيضاً هو هضم الحقيقة التي تتضح رويداً رويداً بأنَّ مملكة داود وسليمان الموحدة التي وصفتها التوراة على أنها دولة عظمى إقليمية، كانت في أقصى الأحوال مملكة قبلية صغيرة، إضافة إلى ذلك يتوقع عدم ارتياح كل من سيضطر إلى العيش مع المعلومة القائلة إن يهوه إله إسرائيل كان متزوجاً وإن الدين «الإسرائيلي» القديم تبنى التوحيد فقط في أواخر عهد المملكة وليس على جبل سيناء» [*(14)*].

في مقابلة مع «اسرائيل فلنكشتاين» (مدير كلية الآثار في «تل ابيب»)، جاء «ان الحفريات الاثرية سيطر عليها نص التوراة، الذي كان يعتبر مقدساً، وكان ينتظر ان تصدق الحفريات وتؤكد الروايات التوراتية. وحتى عام 1960، لم يكن اي عالم آثار يشك في التاريخية المقدسة لرحلات الآباء (اي انبياء التكوين والخروج). وكان المهم العثور على موجودات اثرية تؤكد النص. لكن منذ ذلك الحين والاثريات وسط معمعة. بعد ذلك جرّب علم الآثار معرفة وفق اية مقاييس يتطابق الشاهدان : النص والاثر. (معظم الباحثين درسوا تاريخ العبرانيين و«الاسرائيليين» استناداً الى التواتر السردي للنص : مرحلة الآباء. الوصول الى مصر، ثم الخروج وغزو بلاد الكنعان لا الارض الموعودة) ثم الاستقرار وانشاء مملكتي «إسرائيل» واليهودية. اننا اليوم نسير الطريق بالعكس. من الاكثر حداثة حتى الاقدم. لقد جاهرنا لرؤية تاريخ قدماء العبريين يعيشون في «إسرائيل» منطلقين من وجهة نظر هؤلاء الذين كتبوا هذا التاريخ القديم في مرحلة متأخرة. لقد مكنتنا الحفريات من معرفة شروط حياة الناس في تلك العصور. انطلاقاً من ذلك يمكننا ان نجرب فهم لماذا وكيف كتبوا هذا القسم او ذاك من النص التوراتي». لقد كتب النص اولاً وتقريباً قرابة نهاية مملكة يهوذا، وتحت حكم يوشيا اي في القرن السابع ق.م. واكمل اثناء النفي في بابل والعودة الى «إسرائيل» تحت حكم الثور، اي في القرن السادس. وبعدها فان قسماً كبيراً من التوراة كان اسطورياً دعائياً. وما كتب ايام يوشيا كان لدعم توسع مملكته. وليس معنى عدم مطابقة الاثريات المحيطة في مصر وآشور مع نص التوراة، ان النص مبتدع كلياً. ذلك ان التاريخ دائماً ما ينفع في الايديولوجيا. وكان على كاتب النص ان يستند الى اساطير مبنية حول ابطال سابقين انتقلت اخبارهم شفاهاً من جيل الى جيل.

«لقد اراد يوشيا ان يمدّ مجال سيطرة «اليهودية»، حيث مملكة «إسرائيل» لم تكن موجودة، وتأثير امبراطورية الآشوريين الى تراجع ومصر في انشغال داخلي. لذلك اسند طموحه وامنيته عبر تعظيم امجاد داوود وسليمان اللذين لم يكونا كما تصورهما النصوص. فالاكتشافات الاثرية الاخيرة تعلمنا ان داوود وسليمان كانا غالباً ملوكاً صغاراً على مدينة اورشيلم، التي كانت في حينه (القرن 9-10 قبل الميلاد) مدينة بائسة مشيدة على منحدر، محاطة بالقرى، والشعب كان قليلاً، وبالمجموع امياً منعزلاً وغير مستقر».

«اننا نعلم الآن، ان الاستيلاء على بلاد الكنعان لم يكن بالوصف البطولي لنص التوراة، ولكن عبر هجرة طويلة متعبة لعشائر سامية، تمت خلال قرن لانشاء ما يعرف بارض الميعاد. ان عظام الجمال التي عثر عليها الاثريون لا تتطابق مع وصف الجمال التي كانت مع قافلة ابراهيم كما جاء في النص، بل هي تعود لجمال استخدمت بعد عدة قرون، ايام الآشوريين».

« ان الاوساط المتدنية تجهل علم الآثار، ولا يهمها البحث، بقدر تصديق ما هو امامها في النص. وابحاثنا صفعت بشدة مشايخ الصهيونية الذين انشأوا «إسرائيل» والذين يريدوننا كما «ايغال يادين» ان نحمل لهم ما يؤكد النص لا العكس».

اما «فيكتور سيجلمان»، وان كان اكثر جرأة من «فلنكشتاين»، الا انه صهيوني بامتياز شديد. اذ كما حمل الشعب الفلسطيني وزر التفسير الصهيوني الغربي للتوراة يريد تحميله ايضاً وزر سقوط الوهم التوراتي وتجلياته في النفي والاقتلاع. يقول : «بالنسبة للفلسطيني، فان شرعية وجود دولة «إسرائيل» هو المطروح، وليس فقط الاراضي التي احتلت عام 1967. فبعد المؤرخين الجدد، جاء دور الاثريين الجدد في «إسرائيل»، الذين وضعوا النص التوراتي محل الشك خصوصاً حول تاريخية الآباء والانبياء وحول معبد سليمان. وعليه ان الايديولوجيا الصهيونية التي اسس اليهود دولتهم على ارض الاجداد بناء عليها لم تعد بالحسبان. ان علماء الآثار لم يعثروا على اي اثر لخراب معبد، ولا مملكة متألقة لسليمان ولا اي شيء آخر. والنص التوراتي الذي ليست له قاعدة مادية حقيقية، ليس سوى اختراع ادبي. لكن ذلك لا يبدل ابداً ارتباط الشعب اليهودي بهذه البقعة المسماة «ارض اسرائيل»، وبالعربية فلسطين».

« سواء كان الاجداد حقيقة ام خيالاً، فان قوة الاسطورة الوطنية ليست في حاجة الى اثبات كي تنمّي ديناميكية الانبعاث الوطني للشعب. ان شرعية «إسرائيل» دولية من الامم المتحدة، مثل شرعية دولة فلسطين المقبلة. فاستخدام علم الآثار لاثبات غياب الرابط التاريخي بين اليهود وبلاد اجدادهم، بهدف تلبية تطلعات الشعب الفلسطيني، مسألة لا طائل منها وخطيرة» [*(15)*].

إن الباحث «غاربيني» على حق عندما يتساءل : «أين النقوش العبرية من عصر الحديد؟ إن أياً من الملوك الأربعين الذين تسلسلوا منذ شاول إلى صدقيا، لم يترك لنا أثراً يذكر فيه اسمه! أين وثائق العصر الفارسي؟ إن المدونات الكتابية والبقايا الأثرية بقيت في الحد الأدنى وصولاً إلى زمان لا بأس به من العصر الهيلينستي» [*(16)*].

ونتساءل هنا : لماذا اندفع البريطانيون وأمريكا والغرب عموماً إلى تشجيع النشاط الأثري في فلسطين ونتائجه الخاطئة؟!

ويجيب على هذا التساؤل «لورنس دفدسن» في بحثه الموسوم ـ الآثاريات الكتابية والصحافة، صياغة التصورات الأمريكية لفلسطين في العقد الأول من الانتداب ـ قائلاً : «ربما اندفع البريطانيون إلى تشجيع النشاط الأثري لأن من شأن النتائج أن تشيع القرائن الكتابية الرابطة للمنطقة بتراث الغرب اليهودي ـ المسيحي. فقد كانت فلسطين تُعتبر بلداً ذا علاقة دينية ـ صوفية ـ غيبية مع الغرب بوصفها مهد التراث اليهودي ـ المسيحي ـ ومسقط رأس يسوع و(الأرض الموعودة) للشعب اليهودي. وكان من شأن تأكيد ذلك عن طريق علم الآثار الكتابي أن يعني ترسيخ المزاعم الغربية القائمة على المطالبة بالمنطقة».

«فقيام نظام الانتداب الذي أخضع المنطقة للحكم البريطاني (أي المسيحي) كما جعلها وطناً قومياً لليهود، كان يعني وضع تلك المزاعم والمطالب موضع التطبيق العملي. وبالتالي فإن من الممكن اعتبار علم الآثار الكتابي أداة لعقلنة الإمبريالية».

«أما بالنسبة للأمريكيين، فقد كان من شأن علم الآثار الكتابي أن يعيد إنعاش الانبهار القديم قدم الزمن بالأراضي المقدسة. فمنذ أيام بعيدة، تعود إلى زمن البيوريتانيين، دأب الأمريكيون على إيجاد نوع من الرابطة المفهومية بين «أرضهم الموعودة» وفلسطين الكتابية. وعلى امتداد القرن التاسع عشر حرصت أمريكا البروتستانتية على رعاية العديد من البعثات التبشرية في الأراضي المقدسة. فإعادة فلسطين إلى السيطرة المسيحية اعتبرت خطوة على طريق إنقاذ الأرض وخلاصها، وبالتالي فقد صور الأمريكيون، والأوروبيون فرض الاستعمار الغربي على فلسطين على أنه نور إيجابي يحظى بمباركة الرب.

وبالفعل فقد أدى ذلك، إلى تأكيد عظمة المجتمع الغربي الذي كان هو الأخر يُنظر إليه بوصفه مجتمعاً باركه الرب. وفي عملية بسط السيطرة على المنطقة، كان التسليم بضرورة تجاهل الشعب العربي المحلي وإذلاله أمراً في غاية البساطة. فقد سبق للأمريكيين أن عقلنوا مثل هذه الأمور من قبل. وكان من شأن علم الآثار الكتابي أن يضطلع بدور معين في هذه العملية أيضاً» [*(17)*].

لقد تم إخضاع اللقى الآثارية في المشرق العربي، وبالتالي تاريخ بلادنا فلسطين، لمصلحة الخطابين السياسي والكتابي وهدفهما بعدما ثبت لنا أن «أصول التنقيبات الآثارية الحديثة، منذ دخول نابليون إلى مصر، على أنها مكيدة دولية، استخدمت القوى الغربية من خلالها الماضي الكتابي والكنوز الأثرية التي في المنطقة من أجل سعيها لتحقيق المكاسب السياسية، ولإضفاء الشرعية على مصالحها الإمبريالية» [*(18)*].

وهكذا فإن إنتاج تواريخ بني إسرائيل كان جزءاً مهماً من الدعاوى الإمبريالية في المنطقة منذ القرن التاسع عشر وصاعداً، ويوفر تسويغاً عقائدياً لجملة القيم الغربية.

لقد أصبح تطوير علم الآثار في فلسطين تعبيراً ذا أهمية عن المطامع الإقليمية للقوى الأوروبية. فاستكشاف المنطقة ورسم خرائطها، وتسجيل أوابدها القديمة، ووصف سكانها وممارساتهم، لم تكن أعمالاً بحثية نزيهة ومبرأة من الأغراض الخاصة، مع تشكيلها مساهمات مهمة على صعيد المعرفة العلمية. وموقف التفوق المتعالي، الذي طبع أسلوب كتابة التقارير، يتجلى في العديد من تقارير مشاهير الرحالة الكثيرين. فاهتمام هؤلاء بفلسطين لم يكن صادراً عن اهتمام بالمنطقة نتيجة لأهميتها الخاصة بمقدار ما كان منصباً على حقيقة أنها كانت موقع الأحداث الكتابية. هنا بالذات كانوا يأملون في الاهتداء إلى جذورهم. ومن حيث الجوهر، كثيراً ما جرى إفراغ فلسطين والتاريخ الفلسطيني من أي معنى حقيقي، إذ جرى «تجريدها» [فلسطين] من «الصفة التاريخية» كما يقول «ملمن» أو «طمسها» [إسكاتها] كما أقول أنا [وايتلام] [*(19)*].

ولن أمل من تكرار حقيقة معروفة، وهي أنه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط العهد القديم بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق.

ولكن حراس وأصحاب الفكر الأسن من بعض الأكاديميين العرب الذين يبعون التاريخ لمن يدفع أكثر، استمروا في تناول التاريخ الفلسطيني القديم من زاوية تاريخية التوراة وجغرافيتها، ولم يشككوا لحظة فيما تلقنوه، بل رددوه كببغاء في صالون المتحف، وكان نتيجة ذلك صدور طوفان من دوائر المعارف والموسوعات والكتابات التاريخية التي هودت تاريخنا الفلسطيني، وجعلت فلسطين بلداً «إسرائيلياً» خالصاً إبان العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي وفترات أخرى كثيرة غيرها، وطمست هويتنا الحضارية من أجل اختلاق «إسرائيل» القديمة.

[**مصادر :*]

[*(1)*] [**(سلبرمان) نيل، بحثاً عن إله ووطن صراع الغرب على فلسطين وآثارها (1799 ـ 1917م)، ترجمة: فاضل جتكر، ط1، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2001، ص 81.*]

[*(2)*] [**(سلبرمان) نيل، من الدمار إلى العمار أثر مفهوم توراتي في علم الآثار الشرق أوسطي، ترجمة: فاضل جتكر، ط1، دراسات قدمس (4)، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2001، ص 76.*]

[*(3)*] [**(دفدسن) لورنس، الآثاريات الكتابية والصحافة صياغة التصورات الأمريكية لفلسطين في العقد الأول من الانتداب، ترجمة: فاضل جتكر، ط1، دراسات قدمس (4)، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2001، ص (108 ـ 109).*]

[*(4)*] [**بحثاً عن إله ووطن صراع الغرب على فلسطين وآثارها (1799 ـ 1917م)، مصدر سبق ذكره، ص 146.*]

[*(5)*] [**(السواح) فراس، تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود، ط3، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، 2003، ص 25.*]

[*(6)*] [**(وايتلام) كيث، اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة: د. سحر الهنيدي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب، الكويت،1999، ص (21-20).مقدمة د. سحر الهنيدي.*]

[*(7)*] [**نشرة الإسلام وفلسطين، أيلول 2000، موقع على الانترنت.*]

[*(8)*] [**بحثاً عن إله ووطن صراع الغرب على فلسطين وآثارها (1917-1799م)، مصدر سبق ذكره، ص (187-186).*]

[*(9)*] [**بحثاً عن إله ووطن صراع الغرب على فلسطين وآثارها (1917-1799م)، مصدر سبق ذكره، ص (111-116).*]

[*(10)*] [**نشرة الإسلام وفلسطين، مصدر سبق ذكره. *]

[*(11)*] [**(السواح) فراس، أورشليم في عصر مملكة يهوذا ـ الفصل السادس في كتاب القدس أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ، تحرير: د.توماس ل.تومسون ود. سلمى الخضراء الجيوسي، ترجمة: فراس السواح، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003، ص (169-168).*]

[*(12)*] [**(طمسن) تومس، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة: صالح على سوادح، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 1995، ص 277 وما بعدها. ينتقد الباحث الجاد د. زياد منى، ترجمة عنوان الكتاب، ويرى وجوب ترجمته على نحو: التاريخ القديم لبنى إسرائيل اعتماداً على المصادر المكتوبة والآثارية.*]

[*(13)*] [**(وايتلام) كيث، تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني، ترجمة: ممدوح عدوان، ط2، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2002، ص 49.*]

[*(14)*] [**(هرتسوغ) زئيف، التوراة: لا إثباتات على الأرض، جريدة هاآرتس، إسرائيل، 1999/11/18.*]

[*(15)*] [**(ديب) فرج الله صالح، علماء الآثار في اسرائيل بين تقويض الصهيونية ونفي وجود الأنبياء، جريدة النهار، لبنان، 18 آب / أغسطس 2002.*]

[*(16)*] [**(هيلم) إتغريد، النزعة الاثينية لدي اليهود والسامريين في التاريخ والروايات التوراتية ـ الفصل العاش في كتاب القدس أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ، تحرير: د.توماس ل.تومسون ود. سلمى الخضراء الجيوسي، ترجمة: د. فراس السواح، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003، ص 295.*]

[*(17)*] [**الآثاريات الكتابية والصحافة صياغة التصورات الأمريكية لفلسطين في العقد الأول من الانتداب، مصدر سبق ذكره، ص (106-104)*]

[*(18)*] [**تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني، مصدر سبق ذكره، ص 37.*]

[*(19)*] [**(وايتلام) كيث، إعادة اكتشاف فلسطين، الفصل الأول من كتاب: الجديد في تاريخفلسطين، ترجمة فاضل جتكر، ط1، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2004، ص 23.*]


titre documents joints

أحمد الدبش│الآثار تقوض المشروع الصهيوني

28 تشرين الأول (أكتوبر) 2010
info document : PDF
252.7 كيلوبايت


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 184 / 2166006

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع نوافذ  متابعة نشاط الموقع أحمد الدبش   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2166006 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010