الخميس 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

اسلام بلا عروبة لا يملأ “فراغ” المنطقة

الخميس 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par د. عصام نعمان

الولايات المتحدة لم تتفرغ عن المنطقة ، ولا هي في صدد ذلك . الحديث عن “فراغ قوة” متوقع بعد خروجها من العراق اواخرَ العام القادم ومن افغانستان في مدى سنتين من الآن سابق لأوانه . كذلك احتمال تخليها عن دورها في الصراع الفلسطيني –« الإسرائيلي» ، فمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية لا تسمح لها بإستقالة مبكرة.

في الساحات الثلاث ما زالت اميركا حاضرة وهي في صدد استثمار حضورها المتعدد المظاهر من اجل إعادة تشكيل الشرق الاوسط بما يلائم مصالحها . اذ هي شهدت وعانت إنهيار مشروع “الشرق الاوسط الجديد” بعد انهيار مشروع “الشرق الاوسط الكبير” ، تنخرط في هذه الآونة في جهود موصولة لإبتداع مقاربة جديدة لمواجهة التحديات الماثلة تُوقف مسار تدهور نفوذها وتستعيد بها زمام المبادرة.

غير أن ما فيه اميركا اليوم وما يمكن ان تكون عليه غداً ، يجب ان يشكّل حافزاً لقوى المقاومة العربية والإسلامية من اجل التحسب والتخطيط ، في ضوء الصراع المحتدم، لما يمكن او يجب ان تكون عليه المنطقة عندما تبزغ مرحلة “فراغ القوة” .

من المعطيات المتوافرة والاخرى المتنامية ، يمكن رسم مشهد تقريبي لقابل التطورات والتحديات.

ثمة ثلاث قوى رئيسة في المنطقة تتصارع بأشكال متعددة. انها التحالف الاميركي - الصهيوني (الولايات المتحدة واسرائيل) والتحالف الاقليمي الحركي (ايران وسوريا واستطراداً لبنان وتركيا) ، والتحالف الاقليمي التقليدي ( السعودية ومصر).

من الواضح ان التحالف الاميركي - الصهيوني متعثر ومرتبك ومتخبط في العراق وافغانستان وباكستان وفلسطين . فالولايات المتحدة قررت الخروج من العراق اواخر 2011 من دون ان تتمكن حتى الآن من اقامة حكومة موالية لها تحمي مؤخرة قواتها الآخذة بالإنسحاب ومجمل استثماراتها النفطية والإقتصادية التي زرعتها منذ احتلالها البلاد . الامر نفسه تقريباً ينطبق على وضعها في افغانستان حيث الحرب تزداد تعقيداً وتكلفةً من دون تحقيق اختراق آمن يؤدي الى مفاوضات وبالتالي الى اقامة حكومة ائتلافية مع “طالبان” تتقاسم واياها السلطة والمصالح . في باكستان، يزداد نزيف الدماء مقروناً بإزدياد تعقيدات الوضع ، اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً ، ما حمل واشنطن على مضاعفة مساعداتها بمليارات الدولارات . اما في فلسطين فإن الحراك الديبلوماسي وصل الى جمود لافت من دون ان تلوح في الافق بوادر تحريك وشيك . لعل حكومة نتنياهو تنتظر نتائج الانتخابات الاميركية النصفية لتبني في ضوئها مع ادارة اوباما على الشيء مقتضاه.

التحالف الاقليمي الحركي يبدو في حراك مستمر ومتصاعد . زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الاخيرة الى لبنان اكسبت التحالف زخماً وصدقية في حين انها اضعفت القوى المحلية الموالية لاميركا لدرجة حملت ادارة اوباما على ايفاد مساعد وزيرة الخارجية جفري فيلتمان على عجل من اجل شد أزر الحلفاء وكبح جماح الاعداء . الى ذلك ، يبدو ان ركني التحالف ، ايران وسوريا ، توصلتا الى صيغة توافقية لإخراج الوضع العراقي من عنق الزجاجة ، محورها تجديد ولاية نوري المالكي في رئاسة الحكومة على اساس تأليف وزارة ائتلافية جامعة يكون للقوى القومية المتعاطفة مع سوريا حصة وازنة فيها . واذ تبدو الولايات المتحدة مضطرة الى الموافقة على الصيغة الجديدة ، فإن السعودية ما زالت تعارضها آملة التوصل الى صيغة أفضل . فوق ذلك ، تحاول دمشق استدراج الجناحين الفلسطينيين المتنافسين ، “حمـاس” و“فتح” ، الى توليف مصالحة بينهما تُخرج قضية فلسطين مرحلياً من وصاية التحالف الاقليمي التقليدي (مصر والسعودية) المتعاون مع التحالف الاميركي - الصهيوني.

التحالف الاقليمي التقليدي في وضع سياسي شديد الارتباك حتى حدود الشلل. فمصر تفتقر الى رصيد سياسي كافٍ لممارسة دورمؤثر على الصعيد العربي بسبب مشاركتها ، مداورةً ، في الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة . والسعودية تعتبر الخطر الاول الذي يواجهها مرحلياً ينبع من ايران، لا مـن اسرائيل . الى ذلك ، فقدت السعودية نفوذها لدى الكثير من القوى الاسلامية السلفيـة التي انتقلت ، تدريجاًً ، الى معسكر العداء للولايات المتحدة . اما القوى الاسلامية المحافظة على ولائها للرياض فهي محدودة الفعالية ولا تملك الرصيد والسمعة لتشكيل نموذجٍ سياسي منافسٍ للقوى الاسلامية الحركية. ومع ذلك تبقى السعودية الممول والداعم الرئيس للقوى التقليدية الموالية للغرب الاطلسي في المنطقة.

في ضوء المعطيات المتوافرة والمتنامية ، ما عساه يكون مشهد المنطقة التقريبي في المستقبل المنظور ، وما العوامل التي من شأنها تظهير صورة المشهد او تظليلها؟

ثمة واقع سياسي – اجتماعي يكتنف دول المنطقة افرزته الحروب التي شنها التحالف الاميركي - الصهيوني على مدى السنين الستين الماضية . انه حال تفكك الشعب، او بالاحرى الاجتماع السياسي ، في كلٍ من دول المنطقة الى عناصره الاولى (المتحدات الإبتدائية) القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية والعصبيات المحليـة الضيفة . فالعراق جرى تفجيره بفعل الاحتلال الاميركي الى جناحين عربي وكردي تمور في كل منهما عصبيات قبلية وطائفية ومذهبية شديدة الوطأة .

لبنان المطبوع اصلاً بتعددية متجذرة إنشطر اجتماعياً الى جناحين : واحد متشرّب ثقافة الغرب ومتماهٍ مع قيمه وطريقة حياة مجتمعاته وسياساته في المنطقة بصورة عامة ، وآخر وطني ، عروبي ، منفتح على الاسلام الحركي ، معادٍ للغرب الاطلسي ومقاوم لاسرائيل . وتعصف بأطراف الجناحين عصبيات مذهبية تخترق نسيج المجتمع وآليات السلطة الى درجة بات الوضع معها مشحوناً بتوترات وتشنجات مستعصية .

السودان المتكوّن اصلاً من شمال عربي مسلم متوزع بين طائفتين رئيستين ، وغرب (دارفور) قبلي متعدد ، وجنوب مسيحي ووثني الى جانب فئات وطوائف اخرى ، بات اليوم امام مفترق مصيري يؤشر الى مزيد من الإنقسام والتشظي .

فلسطين المبتلاة باستعمار سرطاني توسعي ، يزداد الكيان الصهيوني المتجذر فيها عنصريةً وتطرفاً وتهديداً لاقلية عربية هي ما تبقّى من شعبها العربي المشرّد في اربع جهات الارض . ويزداد الوضع سؤا وتعقيداً بإنقسام منظمة التحرير الى جناح تسووي مساوم وجناح رديكالي مقاوم ما ادى الى قيام حكومتين متناحرتين ، واحدة في رام الله واخرى في غزة .

ويعاني اليمن اضطراباتٍ امنية متواصلة في شماله مع طائفة الحوثيين وفي الجنوب مع قوى حراك سياسي لا ينكر غايته الانفصالية .

بإختصار ، يبدو الوضع العربي ، لا سيما في بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن ووادي النيل (بما في ذلك مصر حيث تتجدد النزاعات بين المسلمين والاقباط) في حال انقسام وفرقة وتفكك وفوضى شاملة تستثمرها القوى الخارجية للتدخل والتخريب .

هكذا تبدو الفرصة متاحة امام التحالف الاميركي - الصهيوني في ساحات اقليمية عدة لمحاولة تدويم الواقع الراهن . صحيح ان التحالف المذكور عاجز عن الإمساك بنواصي الاوضاع في مختلف الساحات الاقليمية والسيطـرة عليها ، لكنه قادر بدرجات متفاوتة على اعادة انتاج عوامل التفرقة والتجزئة واستثمارها .

في المقابل ، لا تألوا القوى الحية في دول التحالف الاقليمي الحركي ، وخصوصاً قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا وايران ، جهداً في التصدي لإسرائيل وللقوى المحلية الموالية للولايات المتحدة . ولعلها نجحت في الساحة اللبنانية بمنعها قوى 14 آذار من احتكار السلطة وسَوق البلد الى حظيرة الغرب الاطلسي والى مهادنة اسرائيل ، بل هي شاركت في السلطة بحصة وازنة مكّنتها من تحصين المقاومة ودعمها سياسياً واجتماعياً وتقريب لبنان الرسمي من سوريا خصوصاً ومن سائر اطراف التحالف الاقليمي الحركي عموماً . وفي فلسطين نجحت قوى المقاومة في الحد من هرولة قوى المساومة نحو تسوية تصفوية مذلة مع العدو الصهيوني . وفي سوريا وايران امكن احراز تقدم ملموس على صعيد التنسيق السياسي والعسكري بينهما والتكامل الاقتصادي الاقليمي مع تركيا .

هذه النجاحات النسبية ، على اهميتها ، حصلت وتحصل على الصعيد السياسي الرسمي لكنها لا تتناول ولا تعالج الحال الإنقسامية والتجزيئية على الصعيد المجتمعي والشعبي . لعل مردّ القصور والتقصير غيابُ عامل توحيدي جامع ومؤثر بصيغة دعوة او تيار او حركة فاعلة في الحياة العامة . في خمسينات وستينات القرن الماضي صعدت الحركة القومية العربية بفضل البعث وعبد الناصر وشكّلت نذيراً وبشيراً ومحركاً وقاطرة للشعوب كما للحكومات في المنطقة حتى هزيمة العام 1967 . بعدها تصاعدت الحركة الإسلامية بروحية جهادية وبدت كأنها تسلّمت راية الكفاح لتحقق ما عجزت الحركة القومية عن انجازه سحابة عقود ثلاثة .

لئن تمكّنت الحركة الإسلامية من احياء جذوة الجهاد والمقاومة ، فإنها عجزت عن معالجة الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة بل لعلها زادتها سـؤا وتعقيداً . ذلك انها اعتمدت في مقاربتها السياسية للازمات والتحديات الراهنة فكراً ونهجاً قاصرين . فكرها تجلّى في اعتماد مفهوم سلفي ماضوي شعائري ضيق للإسلام تغيب خلاله في الممارسة مُثُلُه العليا وجوانبه العقلانية ومناهجه الحركيـة والتجديدية . اما نهجها فقد تبدّى في مخاطبة المشهد القطري وبالتالي في التعاون مع القوى القطرية ذات الافق الضيق والمصالح الاقتصادية المحلية المرتبطة بوكلاء الدول والمؤسسات والشركات الاوروبية والاميركية وبالطبقة الاجتماعية المفتقرة الى اهتمامات تنموية .

اذ أقامت الحركات الاسلامية نلازماً بين الغرب ، ثقافةً وسياسةً ، وبين المسيحية بما هي دين شعوب الغرب عموما ، فقد انعكس ذلك سلباً على المجتمعات العربية التعددية التي تحتضن اقليات مسيحية كالعراق ولبنان وفلسطين ومصر والسودان . زادت الامر تعقيداً مبادرةُ اسرائيل واوساط موالية لها في الولايات المتحدة ودول اخرى اطلسية الى استثارة عصبيات طائفية ومذهبية لاغراض سياسية ما ادى الى إلحاق بالغ الاذى بأقليات مسيحية في العراق والسودان وعلى نطاق أضيق في لبنان .

اكثر من ذلك ، أسهم نهج الحركات الاسلامية السالف الذكر ، اضافة الى دسائس اسرائيل واميركا ، في تعزيز اسباب التجافي بين المذاهب الاسلامية ، ولا سيما بين اهل السنّة واهل الشيعة ، في اقطار عربية عدة الامر الذي عمّق الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة .

بإختصار ، ليس ثمة جامع مشترك فاعل في الحياة السياسية العربية المعاصرة . فالحركة القومية العربية ضعيفة وشبه غائبة ، والحركة الاسلامية متعثرة بمذاهبها ومذهبيتها وانشغالها بشواغل قطرية ، وافتقارها الى ابعاد قومية على مستوى الامة.

هذا الواقع المأزوم والمغلق على امراضه الذاتية ، لا يمكن تحريره من اغلاله واثقاله إلاّ بإعادة إحياء واطلاق جامع مشترك بين مكوّناته الاجتماعية والسياسية بصيغة دعوة او تيار او حركة سياسية واجتماعية فاعلة . الجامع المشترك هو العروبة بما هي ثقافة وهوية وانتماء ورابطة سياسية اعلى من المكوّنات الاجتماعية وظروفها المحلية الضيقة وافعل في ممارستها وأرحب في تطلعاتها وصبواتها .

الإسلام بلا عروبة عاجز عن مخاطبة مجتمعاتنا التعددية وتعبئتها والارتقاء بها ، وهو مهدد دائما في بلادنا بالإنزلاق الى مهاوي الطائفية والمذهبية .

العروبة ثقافة وانتماء وهوية في آن . فهي ثقافة وعي الانتماء الى ما هو اعمّ واعلى حضارياً . وهي هوية الاجتماع السياسي الهادف للارتقاء الى ما هو ارحب واغنى وارقى سياسياً واقتصاديا واجتماعياً .

اذا كان خروج اميركا المرتقب من المنطقة سيؤدي الى نشؤ “فراغ قوة” ، فإن العرب بوضعهم الإنقسامي والفسيفسائي الحالي عاجزون عن ملئه . ثمة حاجة الى تزويج الإسلام بالعروبة في سياق ممارسة خيار المقاومة اليوم وبناء الدولة المدنية الديمقراطية غداً ، وذلك لتمكين القوى الحية في الامة من الإلتقاء والارتقاء بتوظيف الجامع المشترك – متحد العروبة والاسلام – في مجهود سياسي وحضاري متكامل .

وليس صحيحاً ان تطور وتكامل وارتقاء التيار او الخط القومي- الاسلامي او الاسلامي العروبي من شأنه اعاقة مسيرة التحالف والتعاون الاقليمي المنطلقة حالياً بين سوريا وايران وتركيا ، ذلك ان النظام في كلٍ من الدول الثلاث هو ، في الواقع، نظام قومي اسلامي او اسلامي قومي، وان القومية متداخلة مع الاسلام في كل منها الامر الذي جعل المتحد القومي– الاسلامي أعلى وأرقى وافعل من مكوّناتها الاجتماعية المحلية .

آن اوان الإلتقـاء والارتقـاء .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2178333

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178333 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40