الأربعاء 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

من هيرتزل الى نتنياهو

الأربعاء 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par علي جرادات

إن كان من شأن إغفال التمايز النسبي القائم بين ألوان الطيف الحزبي «الإسرائيلي»، أن يفضي إلى نظرة سياسية تجريدية ضارة، فإن من شأن إغفال الخطوط الأيدولوجية والسياسية العامة الجامعة بين ألوان هذا الطيف الحزبي، أن يقود إلى نظرة سياسية تجريبية لا تقل ضرراً، ما يعني ضرورة الجمع الجدلي بين هذا وذاك. وللتدليل بالملموس، فإن مطالبة العرب والفلسطينيين بالإعتراف بـ «إسرائيل» كـ «دولة لليهود»، لم تأتِ بها حكومة نتنياهو ليبرمان، بل كان أولمرت أول من قذفه في وجه المفاوض الفلسطيني علناً ورسمياً، وذلك عشية لقاء «أنابوليس» أواخر العام 2007، ما يشير إلى أن حكومة نتنياهو لم تفعل سوى تحويل هذا المطلب إلى اساسٍ ناظم لإستراتيجيتها التفاوضية.

عليه، يتضح أن أزمة إنسداد أفق المفاوضات الفلسطينية مع «الإسرائيليين»، هي أزمة أعمق وأبعد وأكثر تعقيداً، ولا يمكن تجاوزها عبر تبدلات التركيبة الحزبية للحكومات «الإسرائيلية». وهذا ما يجب أخذه بعين الإعتبار في معرض البحث عن البدائل، فلسطينياً وعربياً، بحسبان أن مطلب الإعتراف بـ «إسرائيل» كـ «دولة لليهود»، هو مطلب لكامل سائد الخارطة الحزبية «الإسرائيلية»، ما يشي بضخامة ما يصبو اليه قادة «إسرائيل»، على إختلافاتهم الحزبية، مِن إبتزازات، خاصة مع ما يرونه في صالحهم مِن ميزان قوى دولي وإقليمي ومحلي، علماً أن تمسكهم بالطابع اليهودي لدولتهم، هو ليس أمراً جديداً، إذ منذ البدايات الأولى للصراع، وفي ترجمة عملية لتعاليم هيرتزل، استمات القادة «الإسرائيليون»، وما زالوا يستميتون، مِن أجل تكريس «يهودية دولة إسرائيل»، ما فرض لجوءهم إلى ممارسة سياسة التطهير العرقي بصورة منهجية ومخططة.

فمنذ الإعلان عن قرار التقسيم الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، تم الإفراج عن الخطة «دالت» لوضعها موضع التنفيذ، بعد إقرارها - نهائياً - من قبل قيادة الهاغانا في 10 آذار (مارس) 1948، وكانت تقضي، كما اعترف «يادين» في مقابلة مع صحيفة «حداشوت» في كانون الأول (ديسمبر) 1985، بـ «تدمير القرى العربية المجاورة للمستعمرات اليهودية، وطرد سكانها....» أما «بن غوريون» فقد أصدر، كما هو مدون في يومياته، أمراً في 19 كانون الأول (ديسمبر) 1947 يقضي بأن «كل هجوم يجب أن يكون ضربة قاضية تؤدي الى تدمير البيوت وطرد سكانها».... واستجابة لهذا الأمر، وبعد أقل من أسبوعين، دعا «يغال آلون» قائد «البالماخ» - بلوغوت ماحتس (كتائب السحق)، في الأمر اليومي الذي أصدره الى حرب شاملة تحقق الإبادة الجماعية والتدمير الاقتصادي، إذ «من الصعب (كما ينص الأمر) تمييز الأعداء من غير الأعداء، ومن المستحيل تفادي إصابة الأطفال»...

والجدير ذكره أن جميع المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، (عام 1948)، إما أنها قد وقعت قبل قرار الدول العربية بدخول الحرب ( في 16 أيار/مايو 1948)، أو أنها وقعت في مناطق وقرى بعيدة عن ساحات القتال، يؤكد ذلك، ما جاء على لسان «مناحيم بيغن» في كتابه «الثورة» بالقول : «في الأشهر التي سبقت الغزو العربي، وبينما كانت الدول العربية تستعد للهجوم، أكملنا نحن هجماتنا على الأحياء والمناطق العربية، وفي الأيام الأولى من سنة 1948، كنا نشرح لرجالنا، أن هذه الأعمال لا تكفي. إن هجمات مثل تلك التي تقوم بها القوى اليهودية، لها أهميتها النفسية الكبرى». (من دراسة غير منشورة للباحث أحمد أبو شاويش).

في ذات السياق، فقد ذكر يوسف ويتز (مدير الصندوق القومي اليهودي) في مذكراته، أنه منذ آب 1948 تم الاتفاق أن تشن «إسرائيل» حملة إعلامية لإقناع الرأي العام العالمي «بأنه لم يعد لدى الفلسطينيين مكان يعودون إليه، وليس أمامهم سوى فرصة واحدة لإنقاذ ممتلكاتهم، وهي بيعها والاستفادة مِن ثمنها، كي يستقروا في مكان آخر». وكذا، فقد ذكر بن غوريون في مذكراته، أن آبا ايبان نصحه في يوم 14-7-1948، بأن لا يلهث وراء السلام، وأنه تكفي اتفاقات الهدنة، معللاً ذلك بالقول : «لأننا إذا ركضنا وراء السلام فإن العرب سيطالبوننا بالثمن، والثمن هو تحديد الحدود أو عودة اللاجئين أو الاثنين معاً». (من كتاب الأرض في ذاكرة الفلسطينيين للكاتب عبد الفتاح القلقيلي).

وعلى ذات الطريق، وبكل ثمن ووسيلة، حاربت كل حكومات «إسرائيل» المتعاقبة. وبالتالي، فإن مطلب أولمرت، ومن بعده نتنياهو، هو مجرد محاولة لتجديد شباب الأسس والفرضيات الأساسية لأيدولوجيا الحركة الصهيونية، والعمل على إبتزازَ الفلسطينيين والعرب وبقية العالم، ومطالبتهم بتبني الرؤية الصهيونية وروايتها، عبر تجريعهم مرارات الإعتراف بـ «مقدساتها» العنصرية الإبتلاعية الإقتلاعية، ما يشير ألى أن صون الطابع «اليهودي لدولة إسرائيل»، والحفاظ عليه في وجه العامل الديموغرافي الفلسطيني، لم يعد مجرد هدف «إسرائيلي» ثابت، يحدد المخططات «الإسرائيلية» الإستراتيجية، بل أصبح هاجساً يومياً يسكن القيادات الحالية لدولة «إسرائيل»، تماما كما سكن مؤسسيها الأوائل.

وبالتالي، فإنه، ليس غريباً البتة، بل مِن الطبيعي جداً، أن يتركز اتجاه ضربة السياسة «الإسرائيلية»، التي يمثلها نتنياهو هذه الأيام، على محاولات نيل الإعتراف بـ «إسرائيل» «دولة لليهود»، أي على محاولات إنجاز خطوات نوعية على طريق الشطب الرسمي لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم وفقاً للقرار الدولي 194، ناهيك عن محاولة تجريد مَن تبقى من الفلسطينيين على أرضه خلف الخط الأخضر، مِن حقهم في الوجود على أرضهم، بكونهم سكان الأرض الأصليين، بما ينطوي على تسويغ أية إجراءات عنصرية ضدهم.

والنوايا «الإسرائيلية» تجاه فلسطينيي 1948، هي نوايا قديمة ومعلنة. وللتدليل لا الحصر، يجدر التذكير بما قاله عام 1987 شموئيل توليدانو، الذي عمل مستشارا للشؤون العربية لرئاسة الوزراء «الإسرائيلية» مدة سبعة عشر عاماً، يومها قال توليدانو هذا بالحرف : «هؤلاء العرب الذين عاشوا بين ظهرانينا مدة أربعين عاماً، لم يعودوا حطابين وسقاة، بل أصبحوا عرباً وفلسطينيين أيضاً». هكذا بلا خجل أو وجل أو رتوش، وكأن الفلسطينيين ليسوا أصحاب البلاد الأصليين. والأبلغ هو ما كان أعلنه باراك مرة بالقول : «دولة «إسرائيل» إما أن تبقى دولة يهودية، وإما أن تصبح كومة نووية».

إن إختلال ميزان القوى، فضلاً عن الإنقسام الفلسطيني، والتفكك والعجز الرسمي العربي، يشكل أرضية خصبة لتنامي الضغوط «الإسرائيلية» على الفلسطينيين، ومحاولات تطويعهم لما لم يقبلوا به طيلة عقود. إن تمادي «الإسرائيليين»، إنما ينذر بإضاعة كل فرصة ممكنة لتسوية الصراع، ويشي بإعادة هذا الصراع الى المربع الأول، ويدفعه خطوات كبيرة ونوعية الى المجهول. لكن هذا بقدر ما يخبيء للفلسطينيين مِن ويلات وتضحيات، فإنه، يفرض عليهم النهوض ثانية في خط تشبثهم التحرري بحق العودة والإستقلال الناجز والحرية التامة، فالمناخات التيئيسية ومظاهر فقدان الأمل والإلتباس التي تُضخ في الوعي الفلسطيني، على سوئها، تبقى عاجزة عن المساس بجوهر الهوية الوطنية التحررية وأهدافها العادلة، يغذي هذا الجوهر تراكمات المسيرة النضالية وجمرات التضحية التي لم تنطفيء والتيارات العريضة القابلة للإشتعال، الأمر الذي سيلد المبادرات الشعبية والطليعية، كردٍ على العنجهية «الإسرائيلية»، التي تدير ظهر الفلسطينيين الى الحائط، الأمر الذي سيقودهم، كما قادهم، وفقاً لتجربتهم الطويلة، الى تجديد طاقاتهم، والمضي قدماً على طريق استعادة حقوقهم الوطنية المشروعة المغتصبة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2165450

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165450 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010