الأحد 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

لعبة الأمم في المنطقة العربية

الأحد 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par الياس سحاب

ما زلت أذكر أنني كنت في بداية حياتي الصحافية والثقافية، عندما صدمني تعبير “لعبة الأمم” صدمة شديدة، في عنوان كتاب عميل الاستخبارات الأمريكية المركزية مايلز كوبلانيد: كيف يكون التاريخ السياسي والدبلوماسي للأمم نوعاً من اللعب بمصير هذه الأمم؟ لكنني سرعان ما تذكرت، وأنا أطالع صفحات الكتاب، صدمة اتفاقية سايكس- بيكو التي طالعتني تفاصيلها في دروس العلوم السياسية الجامعية، والتي لم تكن سوى افتتاح للقرن العشرين باللعب الاستعماري الأوروبي بمصائر أمم المنطقة العربية، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية .

غير أن الصدمات من كثرة ما توالت بعد ذلك، علمتني أن الانحطاط الأخلاقي الذي يرافق الأعمال السياسية والعسكرية، عندما تكون تغييراً لمصائر الشعوب، هي نوع من اللعب كمكون أساسي في السياسة الدولية، وليس كخروج أخلاقي عن طبيعتها .

آخر ألعاب الأمم التي أتيحت لنا معايشتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مشهد وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، وهي تقوم برحلاتها الدبلوماسية المكوكية على وقع نيران العدوان “الإسرائيلي” المدمر على لبنان في العام 2006 .

كانت لعبة الأمم تلك قد بدأت في الشرق الأقصى، في أفغانستان، تمهيداً لتغيير الخرائط السياسية الاستراتيجية في ذروة عهد المحافظين الجدد في أمريكا، وصولاً ذكياً في نهاية المطاف إلى “الشرق الأوسط”، في خطة استكملت بعد ذلك في العراق (في عملية غزو ثبت بعد ذلك أن غرضها الأصلي تم تمويهه بالادعاء الكاذب بوجود أسلحة دمار شامل هناك)، وكان العدوان على لبنان حلقة ثالثة في لعبة الأمم الكبرى تلك استكمالاً للحلقات السابقة، واستكمالاً أيضاً لإحاطة “إسرائيل” (الحليف الاستراتيجي الأول والأهم لأمريكا) بطوق الأمان الذي بدأ تكوينه سياسياً في معاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة، وكان لا بد من استكماله بالقوة العسكرية، بعد ظهور بؤر للمقاومة وأخرى للممانعة .

لذلك، كانت كوندوليزا رايس شديدة الصراحة والصدق عندما كانت لا تنفك في رحلاتها المكوكية في العام ،2006 تحاول تهدئة الخواطر القلقة من حرب لبنان: لا تقلقوا، إنه المخاض المؤلم لولادة الشرق الأوسط الجديد، أي لنستكمل في الشرق الأوسط إنجاز ما بدأناه في الشرق الأقصى .

غير أن الرياح سارت يومها بما لا تشتهي السفن الأمريكية و”الإسرائيلية”، لكن مثل هذه التحولات لا تكون دائماً لعبة من العاب الأمم، بل تعترضها في بعض الأحيان، أو في كثير من الأحيان، تحركات لبؤر سياسية هنا وهناك، تكون قد اتخذت قراراً بأنه لا يجوز أن يكون تحديد المصير النهائي للأمم على شكل لعبة من ألعاب الأمم، تمارسها القوى الكبرى كما يحلو لها، وما على القوى الإقليمية أو الصغرى، في مثل هذه الحالات، سوى التفرج وانتظار ما كتبه لها القدر، قدر القوى الكبرى .

مثل هذه التحولات تبقى مؤلمة، خاصة عندما يقع الصدام فيها بين لعبة الأمم من جهة، وبين إرادات الشعوب من جهة أخرى، فكل مرحلة من المراحل المتعددة التي تمر بها مثل هذه التحولات، تعبر عنها قوى سياسية معينة . لذلك، لا بد عند الانتقال من مرحلة إلى أخرى في الصراع، من صعود قوى سياسية معينة، وهبوط قوى سياسية أخرى . ومثل هذا الحراك في الصعود والهبوط، يكون في كل الأحوال مؤلماً وفادح الثمن، ويشهد حالات من التململ، وربما حالات من الصدام .

بالنسبة للعبة الأمريكية الأخيرة، التي بدأت في أفغانستان، وانتقلت إلى العراق، وحاولت استكمال حلقتها الثالثة في لبنان، فإن مصير هذه اللعبة في أواخر العقد الأول من القرن الجديد، بدأ بصدور إشارات تبشر بفشل أمريكي كامل، بدليل البحث عن مقومات الانسحاب من أفغانستان والعراق .

لكن من المؤكد أن دولة في حجم الولايات المتحدة وقوة نفوذها المنتشرة عبر الكرة الأرضية، لا تستسلم بسهولة لمثل هذه الخسائر في ألعابها السياسية الكبرى بمصائر الأمم، الأمر الذي يفرض حذراً شديداً من تحركات فرعية، تقوم بها الولايات المتحدة كقنابل دخانية تلقيها هنا وهناك، تغطية لعميلة الانسحاب التي أصبح الحديث عنها علناً في أفغانستان كما في العراق .

من هذه التشنجات الفرعية، إطلاق مسار مفاوضات مستحيلة ومخزية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، ومنها ذلك التهافت الغريب على التمسك بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، مع أن تاريخ الولايات المتحدة لم يعلمنا أبداً هذا التمسك الأمريكي بأهداب القرارات الدولية منذ القرارين 181 و194 وما تبعهما من قرارات حتى يومنا هذا .

إنها مرحلة حساسة من فشل كبير في إحدى ألعاب الأمم الكبرى، تقتضي الصبر والصمود، لكنها تقتضي قبل كل ذلك التمسك بأهداب الكرامة الوطنية، في كل قطر تشمله لعبة الأمم تلك .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2165866

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165866 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010