السبت 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2010
الوقائع الخفيّة لعملية اختراع «الشعب اليهودي» :

تفنيد الأسطورة يوسع الضوء على اكاذيب الحركة الصهيونية

السبت 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par انطوان شلحت

أدّى هذا الكتاب، «اختراع الشعب اليهودي»، لمؤلفه البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة «تل أبيب»، منذ صدوره لأول مرة باللغة العبرية في العام 2008، ولا يزال يؤدي، إلى مناقشات عاصفة في «إسرائيل» وخارجها، نظراً لكونه «أحد أكثر الكتب إثارة وتحدياً، مما لم تألفه الأبحاث «الإسرائيلية» منذ فترة طويلة بشأن موضوعة الشعب اليهودي المشحونة»، على حدّ تعبير مؤرخ «إسرائيلي» آخر (توم سيغف ـ صحيفة «هآرتس»، 27 شباط /فبراير 2008).

وسيلاحظ القراء أن المؤلف يحاول، على امتداد صفحات الكتاب كلها، أن يجيب بأناة الباحث وعبر تمحيص دقيق عن أسئلة متفرعة من السؤال الرئيسي المتعلق بحيثيات ووقائع اختراع الشعب اليهودي، من قبيل ما يلي :

- متى وُجد الشعب اليهودي؟ هل كان ذلك بالتزامن مع نزول التوراة في سيناء، أم مع احتلال أرض كنعان، أم بجرّة قلم بضعة مؤرخين يهود من القرن التاسع عشر تصدوا - في ظل سيرورة تبلور الحركات القومية في أوروبا - لمهمة اختراع هذا الشعب، على غرار باحثين من ذلك الوقت أبناء ثقافات أخرى انصرفوا إلى دراسة الماضي، واختلقوا شعوبًا مغايرة في سبيل إيجاد أمم مستقبلية وتثبيتها؟

- في أي فترة زمنية جرى نقل كتاب التناخ من خزانة الكتب الثيولوجية - الدينية إلى خزانة الكتب التاريخية - القومية؟

- هل تمّ تهجير سكان «ملكوت يهودا» بالتزامن مع دمار الهيكل الثاني في سنة 70 ميلادية، أم أن ذلك كان مجرّد أسطورة مسيحية تسربت رويداً رويداً إلى الإرث اليهودي وجرى استنساخها بقوة داخل الفكرة الصهيونية؟ وإذا لم يتم تهجير هؤلاء السكان، فما الذي حلّ بمصيرهم؟

- هل اعتنقت مملكة الخزر الغامضة الديانة اليهودية فعلاً؟ وكيف تكوّنت الجاليات اليهودية في أقطار أوروبا الشرقية؟

- هل اليهود هم «شعب عرقي» ذو جينات خصوصية؟ أم أن من المعقول الافتراض، أكثر، بأن ما دجّج الحديث عن «الجينات اليهودية» بيولوجياً هو انعدام ذاكرة شعبية واحدة أو تاريخ مشترك موثوق فيه ويتحلى بالصدقية ويكون كافياً بصورة بليغة لإرساء دعائم هوية يهودية جمعية على المستوى القومي؟

- ما الذي يختبئ وراء مصطلح «دولة الشعب اليهودي»؟ ولماذا لم يتحوّل هذا الكيان، حتى الآن، إلى «جمهورية إسرائيلية»؟

ومع أن المؤلف يخلص، في نهاية الكتاب، إلى استنتاج فحواه ضرورة الدفع قدماً بفكرة جعل «إسرائيل» (دولة جميع مواطنيها)، وذلك في إطار «مقاربة الدولتين» باعتبارها حلاً مرغوباً للصراع «الإسرائيلي» - العربي عموماً، إلا أن الاستنتاجات التي يتوصل إليها في معرض تفنيد أسطورة اختراع أو اختلاق الشعب اليهودي توسع دائرة الضوء كثيراً من حول أراجيف رواية الحركة الصهيونية، بشأن تلك الأسطورة، من جهة وبشأن مشروع استعمار فلسطين وما ترتب عليه من آثار كارثية مدمرّة بالنسبة لسكانها الفلسطينيين الأصليين، من جهة أخرى موازية. وهو يؤكد، في هذا الصدد، أن الرواية التاريخية القائلة إن «الشعب اليهودي» قائم منذ نزول التوراة في سيناء، وإن «الإسرائيليات» و«الإسرائيليين» من ذوي الأصل اليهودي هم ذراري ذلك الشعب، الذي «خرج» من مصر واحتل أرض «إسرائيل» واستوطن فيها لكونها «الأرض الموعودة» من طرف الرب، وأقام من ثمّ مملكتي داود وسليمان وبعد ذلك انقسم على نفسه وأنشأ «ملكوت يهودا» و«ملكوت إسرائيل»، وأن هذا الشعب تشرّد نحو ألفي عام في الدياسبورا (الشتات) بعد دمار الهيكل الثاني، ولكنه على الرغم من ذلك لم يذب في الشعوب الأخرى (الأغيار أو الغوييم) التي عاش بين ظهرانيها، هي رواية غير موثوق فيها على الإطلاق، بل إنها انتفت كلياً ولم يكن لها أي أنصار أو أي مريدين حتى نهاية القرن التاسع عشر. وفقط في ذلك الوقت نضجت الظروف، التي أوجدت فرصة ذهبية نادرة استفاق فيها هذا الشعب الشائخ من غفوته الطويلة وأضحى في إمكانه أن يعدّ العدّة كي يستعيد صباه ويجدّد عودته إلى «وطنه» القديم - الجديد. ولا يزال الكثير من «الإسرائيليين» يعتقدون أنه لولا مذابح النازية في القرن العشرين لكان ملايين اليهود سيهاجرون إلى «إسرائيل» بملء إرادتهم، لأن ذلك كان بمثابة حلم داعب مخيلتهم على مدى آلاف الأعوام. بكلمات أخرى فإن ساند يرى أن الحركة الصهيونية هي التي قامت، على ركام أبحاث مفبركة، بالاستفادة القصوى من فكرة «الشعب اليهودي الواحد» بهدف اختلاق قومية جديدة، وكذلك بهدف شحنها بغايات استعمار فلسطين.

وقد تمثلت النتيجة البدهية لذلك كله في أن هذا «الوطن»- فلسطين - عائد إلى الشعب اليهودي وإليه فقط، لا إلى أولئك «القلائل»- الفلسطينيين - الذين أتوا إليه بطريق الصدفة ولا تاريخ قومياً لهم، وفقاً لمزاعم تلك الحركة. وبناء عليه فإن حروبه لاحتلال الوطن وحمايته من كيد الأعداء هي حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السكان المحليين الأصليين فإنها إجرامية، وتبرّر ما ارتكب ويُرتكب بحقهم من آثام وشرور، مهما تبلغ فظاعتها.

غير أنّ بيت القصيد في ما يؤكده ساند هو ما يلي : إن الأكوام السالفة في تلك الذاكرة المشتركة لم تتراكم في دولة «إسرائيل» بصورة تلقائية، وإنما حدث ذلك كله بفعل فاعل محدّد منذ نهاية القرن التاسع عشر، كومة في إثر كومة، وبواسطة إعادة كتابة الماضي (اليهودي)، على يد كتّاب أكفاء عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية - مسيحية واستعانوا بخيالهم المجنح كي يختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ «الشعب اليهودي». وفي ضوء ذلك فإن عملية «التذكر» العامة لم تكن موجودة قبل ذلك التاريخ. غير أن الأنكى من هذا، في عرفه، هو أنه على الرغم من كونها عملية مخترعة، يعوزها الصدق وتفتقر إلى القرائن العلمية القاطعة، فإنها لم تتغير قيد أنملة منذ بدء تدوينها، وقد ساهمت في هذا، على وجه الخصوص، الدراسات الأكاديمية عن الماضي اليهودي، والتي دأبت على إنتاجها الجامعات اليهودية في فلسطين ومن ثم في «إسرائيل»، وكذلك معاهد الدراسات اليهودية التي انتشرت في أنحاء العالم الغربي المختلفة، علاوة على عوامل أخرى. وكانت الإجنسيا اليهودية، التي ضمت مدرسين وأدباء وشعراء وكتاب مقالات، قد سبقت المؤسسة الأكاديمية في فهم الصبغة «الصحيحة» للماضي اليهودي ولقيمته في الصياغة الأيديولوجية للحاضر. فمع توسع الاستيطان في أوائل القرن العشرين وإقامة المدارس العبرية الأولى، أضحى التناخ كتاباً تربوياً- قومياً يدرس في حصص تعليم مستقلة، وليس كجزء أساسي من تعليم اللغة والأدب، والمدرسون المهاجرون، وأولئك الذين أصبحوا مدرسين بعد قدومهم إلى فلسطين، لم ينتظروا النخب الجامعية والرسمية كي يدركوا الفائدة الكامنة في تحويل كتاب التناخ إلى نص نموذجي في تدريس ومعرفة الماضي الجمعي، وكي يدركوا الوظيفة المزدوجة التي يمكن للكتاب المقدس أن يؤديها في نحت وتصميم الهوية القومية، والمتمثلة أولاً في إيجاد نقطة انطلاق «إثنية» لوجود طوائف دينية مشتتة ومتنوعة في أرجاء العالم، وثانياً في خلق القناعة الذاتية بحق السيادة على البلد (فلسطين).

بناء على ذلك فإن ما يمكن قوله هو : على الرغم من أن عملية «اختراع الشعب اليهودي» كانت جزءاً من عملية اختراع شعوب وأمم أوسع وأشمل شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر، إلا إن التمسك بالمتخيّل القومي لدى «إسرائيل» والحركة الصهيونية كان ولا يزال أشدّ هوساً واستحواذاً مما لدى أمم وشعوب معاصرة أخرى. وثمة فارق نوعي آخر، وهو أن عمليات اختراع الأمم والقوميات في أوروبا، التي بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر، تمت على مقاس جماعات كانت، في معظم الحالات، مقيمة في بقع جغرافية متقاربة وتحلت كل منها بخصائص إثنية مشتركة أو متشابهة (مثل اللغة في حالات كثيرة، لكن ليس فقط)، في حين أن اليهود كانوا مفتقرين إلى هذه الخصائص كلياً في البلدان المختلفة التي عاشوا فيها. ولعل الجماعة اليهودية الوحيدة، التي تحلت بسمات إثنية مشتركة على مرّ التاريخ كله، هي تلك الجماعة التي يطلق عليها ساند اسم «شعب الييديش»، إلا أنها على الرغم من ذلك لم تتطلع إلى الاستقلال «القومي»، وتمثّل أقصى ما طالبت به في الحكم الذاتي الثقافي في إطار روسيا القيصرية. وفي الوقت الذي تعيّن على القوميات الأوروبية، برسم ما ذُكر، أن تخترع وعياً قومياً وتاريخاً قومياً ورموزاً قومية، على غرار علم ونشيد قومي وطوابع بريد ولباس وأبطال قوميين ولغة جديدة أحياناً، فإن ما تعين على اليهود اختراعه هو الشعب نفسه، وفي نهاية المطاف فإن المؤرخين الصهيونيين وجدوا «ضالتهم» في «الشعب الإسرائيلي» في فلسطين فحولوه إلى شعب يهودي، وحولوا «دولة إسرائيل» من ثمّ إلى «دولة اليهود» أو «دولة الشعب اليهودي».

وفي هذا الخضم كافة، يقوم المؤلف بتفكيك الأركان كلها التي قامت عليها عملية اختراع هذا الشعب، ولا سيما ركنين أساسيين منها ربما يعتبران الأكثر وقعاً وإفكاً، وبالتالي فإن محصلة تفكيكهما تتراءى في الكتاب على الوجه الآتي :

أولاً : نفي ما يسمى بـ «الشتات اليهودي»، والذي تقف وراءه فكرة قيام الرومان بطرد اليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل.

ثانياً : دحض الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشيرياً، بل بقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته. وكانت الدلالة الرئيسية المتوخاة لهذا الادعاء تتمثل في أن «الشتات اليهودي» الذي رحل إلى مناطق متعددة من العالم وكُتب له البقاء يعود من ناحية جذوره العرقية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطُردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي.

وفي إطار ذلك فإنه يؤكد، من جملة أشياء أخرى، أن طرد «الشعب اليهودي» من وطنه لم يحدث أبداً من ناحية عملية، لكن رواية الطرد والتشريد كانت ضرورية من أجل بناء ذاكرة للمدى البعيد وضع في صلبها شعب عرقي متخيل ومنفي باعتباره استمراراً مباشراً للشعب التوراتي القديم. ويمضي قائلاً : «شرعت بالتفتيش عن كتب تبحث في طرد اليهود من البلد، وكذلك عن سبب أو عن حدث مؤسس في التاريخ اليهودي، كالمحرقة النازية تقريباً، لكنني فوجئت حين تبين لي أنه لا وجود لكتب أو أدبيات توثق مثل هذا الحدث. والسبب بسيط وهو أنه لم يقم أحد على الإطلاق بطرد شعب البلد، فالرومانيون لم يطردوا شعوباً (عقب فتوحاتهم)، وما كان في إمكانهم القيام بذلك حتى لو رغبوا فيه، إذ لم تتوفر لديهم في حينه قطارات أو شاحنات يمكن بواسطتها ترحيل أو نفي شعوب أو مجموعات سكانية بأكملها» (عوفري إيلاني، «شلومو ساند : أنا خزري فخور»، مقابلة مع صحيفة «هآرتس»، 17 آذار/ مارس 2008).

إن كتاب ساند، طبقاً لذلك، يعد تحدياً مهماً للمؤسسة الأكاديمية «الإسرائيلية» واليهودية أيضاً، لا للمزاعم الصهيونية التضليلية فقط المتعلقة بـ «الوطن» وسواه من قضايا خلافية. وهو يعيب على هذه المؤسسة برمتها أن أياً من «رموزها» لم يكن شريكاً في السجال الذي دار في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين في شأن ما عرف باسم «تيار المؤرخين الجدد»، والذي أنتج أبحاثاً مهمة شكلت جنباً إلى جنب أبحاثاً نقدية أخرى في علم الاجتماع وعلم الآثار، الأرضية الخصبة لكتابه، بحسب اعترافه. كما أنه يحاول أن يقدّم تفسيراً خاصاً لأفول نجم «تيار المؤرخين الجدد» خلال الأعوام القليلة الفائتة ولا سيما في إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول (سبتمبر) 2000، أو بالأحرى لعدم قدرة هذا التيار، مع أنه كان الأكثر مدعاة للتعاطف في منظومة العلاقات بين «إسرائيل» والفلسطينيين، على أن يترك بصمات تحويلية في الوعي «الإسرائيلي» العام. إن فحوى تفسيره هو أن استغراق دراسات «المؤرخين الجدد» في تحليل النتائج المترتبة على حرب العام 1948، سواء بالنسبة إلى المجتمع «الإسرائيلي» أو بالنسبة إلى المجتمع الفلسطيني، لم ينطوِ على ما من شأنه أن يزلزل قناعات قارّة تعود إلى سنوات أقدم كثيراً من وقائع تلك الحرب وما أسفرت عنه، وهي القناعات التي شكلت «سوراً واقياً» للوعي «الإسرائيلي» العام، بقدر ما شكلت متكأً لأسئلة تبدو، في الظاهر، أكثر صميمية على غرار : ما هو وزن النكبة الفلسطينية في 1948 قياساً بالمحرقة النازية (الهولوكوست)؟ وكيف بالإمكان أن نقارن مشكلة اللجوء الفلسطينية مع تشرّد شعب في المنفى القسري لمدة ألفي عام؟ وهذان السؤالان وأسئلة مماثلة كثيرة أخرى زيّنت، ولا تنفكّ تزيّن، طريق الهروب إلى الأمام من نتائج حرب 1948 في الذهنية «الإسرائيلية» وممارساتها العامة.

ومع أن ساند يبدي تشاؤمه الكبير إزاء إمكان أن يمارس كتابه التأثير المشتهى على الوعي اليهودي العام، في ظل ما آل إليه الواقع «الإسرائيلي» المحايث لأعوام العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلا إنه يعرب عن الأمل في أن يستنفر محتواه ومنهجه أفراداً آخرين كي يأخذوا على كواهلهم الاستمرار في ما يسميه «مجازفة المساءلة الأكثر راديكالية للماضي اليهودي، بما يساهم في زعزعة الهوية المختلقة - التي تمسك بتلابيب السواد الأعظم من «الإسرائيليين» اليهود».

في واقع الأمر فإن المساهمة الأساسية لهذا الكتاب المهم تبقى كامنة في نبش الماضي وفي إيضاح صيرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على الاعتقاد الملفق بالأصل الواحد للشعب اليهودي العرقي. وهو يُعدّ الإيضاح المحدّث، من حيث تناوله الطروحات المتداولة في هذا الشأن حتى الفترة الراهنة، بما في ذلك ضمن مجال الدراسات البيولوجية والوراثية. ففي هذا المجال تحديداً يرى ساند أن مصطلحات مثل «عنصر» و«دم» بدأت بالتلاشي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث صار العلماء يرون أن فكرة العنصر ترجع إلى أسطورة اجتماعية لا إلى واقع علمي. بيد أن الرفض العام لهذه المصطلحات، لم يمنع العلماء «الإسرائيليين» من الاستمرار في الاعتقاد بالأصل الواحد للشعب اليهودي. ومع أن مصطلح «العنصر اليهودي» اختفى من البلاغة الجامعية الشائعة، إلا أن «حقلاً علمياً جديداً» برز بدلاً منه تحت اسم «البحث عن أصل الجماعات اليهودية». وفي اللغة الصحافية الشعبوية أُطلق على هذا الحقل اسم «البحث عن الجينات اليهودية»، والذي تمثلت غايته في إيجاد تجانس بيولوجي بين يهود العالم كافة. فالهوية الجمعية «الإسرائيلية» كانت في حاجة إلى تمثّلات واعدة عن أصل بيولوجي مشترك، مثلما أن الصهيونية كانت في حاجة، كي تحقق مشروعها، إلى العامل الديني، الذي صارت تبحث عنه. وبناء عليه، فإن غياب الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية في «إسرائيل» لم ينجم - في نظره - عن القوة الفعلية للدين، وإنما نجم عن ضعف الفكرة القومية التي استعارت من الديانة التقليدية ومن مدوناتها معظم تمثّلاتها ورموزها، وبقيت أسيرة لها.

فضلاً عن ذلك فإن ساند يصوغ أيضاً رؤيا تتعلق بالمستقبل وتبدو مسنودة بفهم الماضي فهماً واقعياً. وما يتبين، على نحو جليّ، من رؤيته هذه هو أنه مناهض للكينونة التي تحكم «إسرائيل» على نفسها البقاء في خضمها والتي يرى أنها تنذر بأوخم العواقب. ومع أنه يعتقد أن المشروع المثالي لحل النزاع المحتدم منذ قرابة المئة عام ولحفظ الوجود المنضفر والوثيق الصلة إقليمياً بين اليهود والعرب، يتمثل في قيام دولة ديمقراطية ثنائية القومية تمتد من البحر الأبيض المتوسط وحتى نهر الأردن، إلا إنه يرى أنه لن يكون من الحكمة بمكان مطالبة الشعب اليهودي - «الإسرائيلي»، بعد كل هذا النزاع الدامي والطويل، وفي ضوء التراجيديا التي مرّ بها كثيرون من مؤسسيه المهاجرين في القرن العشرين، أن يتحول بين عشية وضحاها إلى أقلية في دولته. ولكن «إذا كان من السخف والبلاهة مطالبة اليهود «الإسرائيليين» بتصفية دولتهم»، على حدّ تعبيره، فإن من الواجب الإصرار على ضرورة أن يكفوا عن الاحتفاظ بها لأنفسهم كدولة منغلقة تمارس الإقصاء والتمييز بحق جزء كبير من مواطنيها الذين ترى فيهم غرباء غير مرغوب فيهم.

وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال توقعات المؤلف المتعلقة بإحالات الموقف الرافض لوجود «إسرائيل» كـ «دولة يهودية» مخصوصة وحصرية، والذي يزداد تصلباً في أوساط «عرب 48»، في ضوء صعوبة استشراف عوامل من شأنها فرملة هذه العملية. وهو يؤكد أن التفكير السخيف الذي يفترض أن هذا الجمهور الفلسطيني النامي والمتعاظم سيقبل إلى الأبد عملية إقصائه من مراكز القوة السياسية والثقافية، هو وهم خطر يشبه تعامي المجتمع «الإسرائيلي»، في معظمه، عن وضعية السيطرة الكولونيالية في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل اندلاع الانتفاضة الأولى. ولكن إذا كانت الانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى والثانية، اللتان اندلعتا في العام 1987 وفي العام 2000، قد شفتا عن ضعف سيطرة «إسرائيل» في مناطق نظام فصلها العنصري السافر، فإن درجة ضررهما لوجود «إسرائيل» تكاد لا تذكر إذا ما قورنت بالخطر الكامن في طاقة العداء لدى الفلسطينيين المحبطين الذين يعيشون داخلها، وفي ضوء ذلك فإن الحديث عن «سيناريو كارثي» من قبيل اندلاع تمرّد كوسوفي في منطقة الجليل ذات الأكثرية الفلسطينية، وما يمكن أن يجره من قمع «إسرائيلي» دموي، لا يعد ضرباً من خيال جامح لا أساس له، وفي حال تحقق مثل هذا السيناريو فإنه يمكن أن يشكل تحولاً حاسماً في تاريخ «الوجود «الإسرائيلي» في «الشرق الأوسط»».

على صلة بهذا، ما زال من الملائم أكثر، في قراءة ساند، وصف «إسرائيل» كـ «إثنوقراطيا». وإذا شئنا التدقيق أكثر فإنه سيكون من الأفضل تعريفها كـ «إثنوقراطيا يهودية ذات ملامح ليبرالية»، أي دولة مهمتها الرئيسية لا تنعكس في خدمة «شعب» مدني - متساو وإنما في خدمة «شعب عرقي» (إثنوس) بيولوجي ديني - وهمي تماماً من ناحية تاريخية، لكنه مليء بالحيوية ويمارس الإقصاء والتمييز في حياته السياسية. ولو أن خانة «يهودية» في الهوية تغير وجهها إلى خانة «إسرائيلية»، وتصبح مفتوحة ومتاحة لجميع مواطني الدولة، بما يتيح لكل واحد منهم إمكان التحرّك في حيّز الهويات وفقاً لإرادته الحرّة، لكان من الممكن ربما إبداء قدر أقل من التشدّد، والشروع في النظر إلى «إسرائيل» باعتبارها كياناً سياسياً يمرّ بديناميكية قد تسفر ذات يوم عن تحولها إلى دولة ديمقراطية. غير أن هذا اليوم ما زال في رأيه بعيداً جداً، في حين أن الأسباب والمبررات التي من شأنها أن تبعث على الاطمئنان إزاء المستقبل لا تزال غير كافية، إن لم تكن معدومة تماماً.

- [**هذا المقال هو مقدمة الترجمة العربية لكتاب «اختـراع الشعب اليهودي» من تأليف البروفسور شلومو ساند والتي صدرت أخيراً عن منشورات «المركز الفلسطيني للدراسات «الإسرائيلية» - مدار» في رام الله و«المكتبة الأهلية» في عمّان.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 97 / 2165784

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165784 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010