السبت 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

حروب صغيرة بين المتدينين والعلمانيين في «إسرائيل»

السبت 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

اتخذت دولة «إسرائيل» صبغة دينية منذ نشأتها. ففي 19 شباط 1947، كتب بن غوريون، رسالة وجهها إلى اليهود الأرثوذكس أو «أغودات»، شرح فيها كيف ينظر الصهاينة إلى العلاقة بين الدين والدولة، وذلك في مسعى لثنيهم عن الاعتراض على إنشاء دولة «إسرائيل» واحتجاجهم أمام هيئات دولية، كما حدث سابقاً.

ووفقا للرسالة، فان القادة المستقبليين لـ «إسرائيل» يتعهدون بضمان أن تكون المحاكم اليهودية معقودة حصراً للحاخامات، من اجل النظر في مسائل الأحوال الشخصية لليهود، وذلك لضمان ان يكون يوم السبت والأعياد اليهودية معترفاً بها كأيام عطلة رسمية، ولضمان احترام القوانين الغذائية في جميع مؤسسات الدولة والحفاظ على استقلالية النظام التعليمي المتشدد. ومنذ ذلك الحين، كافح العديد من المؤرخين لمعرفة أي صبغة يمنحون هذه الرسالة التي سميت «الوضع القائم».

إن الضغط الشديد الذي مارسه المتشددون، منذ البداية، يفسر، وبشكل مؤكد، لماذا لم تستطع «إسرائيل» قط أن تكتب دستوراً مدنياً، كان سيؤثر سلباً على سيادة، أي المتشددين.

في 1949، خلال الجلسة الأولى «للكنيست»، حذر ممثل «أغودات إسرائيل» النواب من انه «لا يمكن لأي دستور أن يحظى بالمصادقة أو بالاعتراف، إلا إذا كان يتناسب تماماً مع التوراة. وأي محاولة أخرى في «إسرائيل» ستشكل انتهاكاً للقانون». وأضاف «أحذركم : إن أي محاولة لوضع مشروع دستور سيؤدي حتماً إلى صراع فكري وأيديولوجي وحشي وبلا هوادة». هذا التلويح بالحرب الأهلية ليس سوى واحد من سلسلة طويلة من التهديدات.

ولم يتمكن العلمانيون من النكث بالوعد الذي قطعه بن غوريون أمام المتدينين. ففي 1953، بعد إصرارهم، تم التصويت على قانون يقضي بتوسيع نطاق اختصاص المحاكم الحاخامية لتشمل مسائل الزواج والطلاق. وما اعتبر دليلاً «مفضوحاً» على وجود «تصدع» في علمانية «إسرائيل» المعلنة، هو المكان، حيث فرض اليهود المتدينون سلطتهم على «الإسرائيليين». ففي ظل غياب الدستور الذي يكفل لكل مواطن معاملة متساوية، فان المسائل في «إسرائيل» تجري مثلما تجري في لبنان، أو في أي دولة بعيدة عن الحداثة، انشقت عن الامبراطورية العثمانية. كل مواطن يعود إلى دينه أو مذهبه أو عقيدته في الأمور التي تتعلق بحياته المدنية : الزواج والطلاق والنفقة وحضانة الأطفال، والوصايا والإرث، والجنازات...

وكما كان يحصل في ظل الامبراطورية العثمانية، لا يخضع المواطنون «الإسرائيليون» للمحاكمة في المحاكم ذاتها، سواء كانوا من المسلمين أو الدروز أو المسيحيين أو اليهود. أما العلمانيون، فهم مجبرون على اتّباع القوانين الخاصّة بديانتهم الأصلية. وعليه، يعتمد اليهود العلمانيون للغاية على الحاخامات، الأشد أرثوذكسيةً في أحيان كثيرة، الذين غالباً ما يحكمون في هذه المحاكم. هذه السلطة تخوّل الحاخامات منع الارتباط بين الناس الذين يعتبرون، من وجهة نظر القانون الديني، غير يهود، أي كل من كان أحد أبويه فقط يهودياً، أو أولئك الي اعتنقوا اليهودية على أيدي حاخامات غير أرثوذكس.

وهكذا، وضعت «مجمع حاخامات «إسرائيل»» قائمة سوداء من أربعة آلاف شخص تعتبر يهوديتهم «مشكوكاً فيها»، وبالتالي يخضع أمر عقد قرانهم لتحقيق دقيق. كما يفرض القضاة أن يتمّ الاحتفال بالزواج وفقا للطقوس الدينية التي ينص عليها القانون : التسجيل في الحاخامية، حفل «شوباه» أمام الحاخام، طقوس الحمام التقليديّ للنساء. وبالتالي، فإن على المنتمين إلى ديانات مختلفة من يهود وغير يهود والراغبين بالزواج، ببساطة أن يطيروا إلى قبرص، كما يفعل جيرانهم اللبنانيون، الممنوعون من الزيجات المختلطة.

ولا تقبل المحاكم أية مفاوضات في أمور الطلاق، وهي تميل عادة لصالح الرجال لأنهم، وفقاً للقانون الديني هم وحدهم القادرون على حل الزواج. في 2003، رفضت المحكمة الحاخامية في حيفا منح الطلاق لامرأة أجبرها زوجها على التصويت مثله لصالح حزب «الليكود». وقد نصحت المحكمة الزوجة بالتصويت مثل زوجها لتجنب أي نزاع عائليّ.

هذا النوع من الأحكام، بالإمكان نقضها في المحكمة العليا، كما حدث في شباط 1994، عندما رفضت المحكمة الحاخامية اعطاء امرأة مطلقة ممتلكاتها على أساس أن الشريعة اليهودية لا تنص بإعطاء أي حقوق للزوجة.

ورداً على هذا النوع تحديداً من تدخل الدولة، نظّم الراديكاليون صفوفهم في لوبي انتخابي. ولا يهادن الرجل الثاني في «الحزب الوطني الديني»، ويقول «نحن نعتزم تعزيز الحاخامية في ما يخصّ الزواج والطلاق وتنظيم الجنازات. كما نريد أن نضمن احترام السبت يوماً للراحة»، مبدياً استياءه من انه «تم منح المحكمة العليا امتيازات كثيرة جدا».

لا يوفر اليهود المتدينون أية وسيلة لمحاولة السيطرة على حياة اليهود العلمانيين. هيمنتهم جليّة في مجال التعليم، وفي حظر فتح المتاجر أيام السبت، أو في وسائل النقل العام. في 2001، انتزع «الرجال في الثياب السوداء» قراراً أثار احتجاجاً عارماً، حصل بموجبه «الحريديم» على خط حصري لهم في وسائل النقل، ليتمكن رجال «الحريديم» من الركوب في الحافلة في المقدمة، فيما تجلس نساء «الحريديم» في الخلف.

وبالفعل، جهّزت شركة «دان» حافلاتها البالغ عددها 3100 بلافتات تشجع على الصلاة. أمّا الشركة المنافسة لها «ايجد»، فقد تم تكليفها من قبل وزارة النقل لفتح خط منفصل لحافلات «الحريديم». رفضت الشركة في البداية الخضوع لهذا الأمر لكنها تراجعت عن قرارها، عند ردّ اليهود الأكثر أرثوذكسية بفتح خطّ من الحافلات المقرصنة. هذه المرة، كان فوزهم كاملاً، بما أن الشركة منحتهم حسماً حتى 20 في المئة، عندما يستقلون حافلاتها. وأكثر من ذلك أيضاً، دعيت الشركات الموجودة في محيط المحطة المركزية للحافلات، إلى إعادة النظر في سياساتها، بطريقة تأخذ في الحسبان «حساسيات» (الحريديم). فمثلاً، قام متجر للملابس الداخلية بتغيير واجهاته. ومذاك، تفشت ظاهرة الحافلات التي تفصل بين الجنسين، على نحو كبير، لدرجة أن «الحريديم» طالبوا وزارة النقل للحصول على خطوط حافلات مخصصة للرجال حصراً.

وعندما لا يكفي ضغط اللوبي، لا يتردد جنود التوراة في استخدام القوة. ففي كانون الأول 2001، تمكَّن جنود التوراة بقوة الحجارة، من نقل بعض مواقف محطات الحافلات خارج المحطة الجديدة لتجنب مرور «الحريديم» في مراكز التسوق لركوب حافلاتهم.

أما في أيام السبت، فيمكن أن يقطع أي نشاط بحجة «احترام العطلة» اليهودية. في 11 تموز 1999، شكّل مئات الشبان «الحريديم» سداً بشرياً لإغلاق الطريق الذي يربط «ريهوف بار» بإيلان، من مساء الجمعة حتى مساء السبت.

مع ذلك ومنذ العام 1997، توصل «الإسرائيليون» العلمانيون، بعد مفاوضات شاقة، إلى حل وسط. الا أن اليهود الأصوليين يمكنهم دائماً العدول عن آرائهم ومعاودة ممارسة الضغط.

في 14 شباط 1999، احتج 250 ألفاً من الناشطين الدينيين ضد حكم أصدرته المحكمة العليا، بحق «حريديمي» دمّر، في إطار عملية وصفت «بالفدائية»، منزل سيدتين مسيحيتين، بحجة أنهما تحاولان تحويل اليهود إلى المسيحية. ووفقاً لمصادر الشرطة كانت هذه أكبر تظاهرة دينية منذ قيام «إسرائيل». والى جانب الافراج عن زملائهم، طالب المتظاهرون، خصوصاً، بإنهاء ما سموه «الأحكام المناهضة للدين من قبل المحكمة العليا». وفي الأشهر الأخيرة، سمحت المحكمة بفتح متاجر نهار السبت، وألغت الإعفاء العسكري لـ 28 ألفاً من «الحريديم». هؤلاء ثاروا، منددين بالأحكام، لا باعتبارها معادية للدين فقط، ولكن بوصفها «معادية للسامية».

وذهب أحد «الحريديم» إلى حد التوعّد بأنه «إذا لم تقتنع المحكمة العليا بضرورة وقف تدخلها في الشؤون الدينية، فان الحرب واقعة لا محالة». وأيده في ذلك الرجل الثاني في حزب «شاس» الياهو سويسا، ووزير الداخلية في حكومة نتنياهو.

في المقابل، يجد العلمانيون صعوبة في بلوغ مستوى الغضب اللازم للمقاومة. ففي ذلك اليوم حيث استعرض «الحريديم» عضلاتهم، لم يتمكن العلمانيون سوى من حشد 50 ألفاً للمشاركة في تظاهرة مناهضة، غالبيتهم كانوا من الشباب جاءوا مع لافتات مثل «دعونا نمنع «إسرائيل» من ان تصبح ايران جديدة».

ويعيش «الإسرائيليون» في خوف دائم من رؤية مجتمعهم ينهار، هم يخشون من أن يتطور التوتر بين العلمانيين والأرثوذكس إلى حرب أهلية. أما «الحريديم»، فإنهم يحلمون فقط بحرب أهلية يهودية. وعليه، ليس نادراً أن ترى دعوات في الصحف، تحض على الكراهية ضد العلمانيين : «هناك بؤرة نفايات... حيث الكراهية للتوراة ومبادئه مزمنة. هم (العلمانيون) يتمتعون بأكثر النفوس شراً، جيلاً بعد جيل. وضدهم، يجب شنّ الحرب».

في 1989، نفذت مجموعة من «القتلة» تدعو نفسها «اليهودية الأصولية القومية»، وكانت تضم متطرفين يقدمون على طعن اليهود بحجة أنهم «ملوثين بعادات الاحتلال الروماني»، سلسلة من الهجمات ضد «الاسرائيليين» التقدميين، كمديرة أحد معاهد استطلاعات الرأي التي تجرأت على نشر دراسة، تبين أن معظم «الإسرائيليين» يقبلون إجراء مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، أو كاتب يرثي وفاة أطفال فلسطينيين، أو رئيس بلدية «بتاح تكفا»، الذي سمح بافتتاح السينما خلال عطلة السبت، أو رب العمل في صحيفة «هآرتس»، الذي وجد مذنباً بتهمة «الإضرار بالمعنويات الوطنية».

الكاتب عاموس عوز، مثل الكثير من «الإسرائيليين» العلمانيين، عانى الأمرين من مناخ الرعب السائد، تحت مسمى القومية الدينية : ««إسرائيل» تعمل على تمويه هدفها الحقيقي : وهو فرض رؤيتها الخاصة البشعة والمشوهة لليهودية على دولة «إسرائيل». إذا أرادت طرد العرب أولاً، فذلك لقمع اليهود ثانياً واخضاعنا جميعاً لطغيان كذبة أنبيائهم البرابرة. هذه هي طبيعة الحضارة اليهودية».

- [**ترجمة جنان جمعاوي*]

- [**عن كتاب : Tirs croisés «كارولين فورست ـ فياميتّا فينر».*]

- [**المصدر : صحيفة «السفير» اللبنانية.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2180988

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2180988 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40