الأحد 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

السودان.. حكاية انفصال

الأحد 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par عبداللطيف مهنا

أقل من مائة يوم والسودان أمام استحقاق مصيري داهم. ذلك هو موعد استفتاء جنوبه على ما دعته اتفاقية نيفاشا تقرير مصيره. يختار الجنوبيون في يومه الموعود واحد من أمرين، بقاءهم ضمن السودان الموحد أم الانفصال عنه. ومع اقتراب هذا الموعد الذي فرضته تلك الاتفاقية، تتزايد شتى المظاهر، الجنوبية والشمالية على السواء، الجالبة معها يومياً دلائلها التي ترجح الانفصال أكثر من الوحدة.

نحن هنا لسنا بصدد مناقشة العوامل الخارجية المؤثرة الدافعة باتجاه هذا الانفصال الذي أسست له تلك الاتفاقية. ضغوط رعاتها الأمريكان... الأوروبيون، الكنائس التبشيرية الغربية، الأوغانديون والكينييون وتلك الجهات ذات التوجهات العنصرية الإفريقية في دول الجوار، وقبل هؤلاء وبعدهم «إسرائيل» والصهيونية العالمية... بالإضافة إلى معهود القصور العربي بشأن وجوب محاولة إقاله هذا البلد العربي الهام من عثراته. والذي بلغ حد الإهمال. لعل هذه من الأمور المعروفة التي كانت ولا زالت وستبقى تتهدد وحدته مستقبلاً، أي سواء بقي جنوبه ضمن ترابه الموحد أم انفصل عنه. لأن هذه الجغرافيا العربية ذات الخصوصية الفريدة، التي هي السودان، بما عناه ويظل يعنيه كجسر حضاري يربط شمال القارة السمراء العربي بوسطها وجنوبها الزنجي، أو يربط الوطن العربي بالدائرة الإفريقية، وفق التوصيف الذي كان سائداً في حقبة الستينيات في بلادنا، سيظل مستهدفاً من قبل كل تلك الجهات إياها المتضافرة لقطع عرى هذا الجسر، تدفعها جملة من الأهداف الاستعمارية في القارة أولاً، وثانياً في السياق الاستراتيجي العام للمشروع الغربي ومتفرعه الصهيوني في بلاد العرب، الرامي إلى التفتيت وتجزئة المجزّأ فيها بغية تسهيل مشاريع الهيمنة وخدمة سياسات النهب، وتثبيت تفصيله «الإسرائيلي» في قلبها، وجعله مركزاً مقرراً ومسيطراً فيها تدور من حوله شظاياها، باعتباره وكيلاً مؤتمناً وحيداً وحارساً قادراً للمصالح الاستعمارية في المنطقة.

في الحقبة الاستعمارية البريطانية كان الجنوب السوداني معزولاً تماماً عن الشمال وكان من ذلك الحين بقعة برسم الانفصال عن باقي الجسد السوداني. إذ أقفل في حينها ليكون حكراً على الإرساليات التبشيرية وحدها، هذه التي صنعت في مدارسها شريحة من الانتلجنسيا الجنوبية المثقفة وشكلتها كأداة مستقبلية وخميرة دائمة لهذا الانفصال. وعندما غادر البريطانيون تاركين أسافينهم في السودان، كما فعلوا ويفعلون دائماً في أي بقعة حلو أو يحلون فيها، تركوا الجنوب بيئة متخلفة وبقعة خاوية لا أثر ولا وجود فيها لأي بنى من أي نوع تدل على أبسط مظاهر الدولة فيه، أو ما قد يبني عليها. غالبية أرواحية ساحقة تعيش في الأدغال أو تجوسه مع أبقارها في فصل الجفاف القصير وتعزل في أدغالها إبان فصول الأمطار والمستنقعات المديدة، وما تبقى انقسم بين فئتين 19% من المسلمين و17% من المسيحيين. والجميع رهن حياة قبلية مغرقة في قبائليتها التي حلت محل الهوية الوطنية، والتي أبرزها القبائل الكبرى الثلاث الدينكا والشلك والنوير.

هنا لابد من العودة إلى التاريخ... في تربة الإرساليات (الاستعمارية) التوجهات نشأت أقلية الانتلجنسيا الانفصالية المشار إليها، وتم تعميدها بالأحقاد الدفينة على الشمال، وأشبعت بالروح العنصرية ضد العرب. أما باقي الجنوب فظل في واد آخر، ففي حين أن ثقافة غالبية الانفصاليين غربية ولغتهم هي الانكليزية، فإن الأغلبية، التي يستشري فيها الجهل، كانت ولا زالت لا تتفاهم قبائلها ذات اللغات المحلية المختلفة إلا بما يعرف بلغة جوبا، وهي العربية الدارجة هناك بلكنتها المحلية. لكن الانفصاليين بامتداداتهم القبلية وتأثيراتها، وبتشجيع من القوى الإقليمية والدولية الساعية لفصل الجنوب، حركوا الجنوب ضد شماله منذ أول يوم حصل فيه السودان على استقلاله ولا زالوا يفعلون... من يومها بدأت قصة الانفصال، هذا الذي بدأ يرجحه المرجحون أو ينتظرونه بعد أقل من المائة يوم التي تفصلنا عن يوم الاستفتاء، إذا ما تم، والتي بدأ عدها العكسي.

لقد قبل الشمال، أو الحكومة المركزية في الخرطوم، والمنتصر جيشها في حربه مع الحركة الشعبية المتمردة بند الاستفتاء مكرهاً تحت طائلة الضغوط الهائلة والمتعددة من رعاة هذه الاتفاقية، وترك له التعلل بمقولة جاءت في ثناياها، تتحدث عن ضرورة السعي لتغليب خيار «الوحدة الجاذبة» التي أضحت مع الأيام أقرب إلى النكتة. ومن يومها أدار حكاية الانفصال جنرال أمريكي، وناورت الحركة الشعبية للتعمية على مساعيها الدؤوبة للانفصال الجاذب لا للوحدة غير المرغوبة. وكان مقتل زعيم الحركة جون غرنق في حادث طائرة غامض وهو يغادر كامبالا مدار تكهنات كلها تصب في صالح ترجيح احتمال تصفيته باعتبار أنه قد لاحت لديه بعض المؤشرات على توجهات وحدوية كان لابد من تفاديها. والطريف أن خليفته في زعامة الحركة سيلفاكير الذي كان ينأى بنفسه عن حديث الانفصال قد تعرض لحادث مشابه مؤخراً نجا منه، وأيضاً وهو في طريقه إلى السودان مغادراً كامبالا... سيلفاكير هذه الأيام أسفر عن وجهه الانفصالي علناً...

منذ نيفاشا بدا وكأن العرب (قولاً لا عملاً) هم أكثر قلقاً على مصير وحدة السودان من أهله، وكان في هذه المفارقة ما طرح على القلقين سؤالاً محيراً، وحتى ما جعل المتفائلين وكنت واحداً منهم، يرجع ذلك ربما لتوفر معطيات غير معلنة لا نعرفها تطمئن الشريك الشمالي في الاتفاقية إلى وحدة البلد وترجحها عنده. لكنما المفزع هو أن ما يبدو في الشمال الآن، حكومة ومعارضة وشعباً، هو أقرب إلى التسليم بالانفصال، حيث يعمه حديث الحرص على توفير السبل الممكنة لجعله فراقاً سلساً وبعيداً عن غوائل عودة الحرب التي لا يريدها لا الشماليون ولا الجنوبيون على السواء.

إن نظرة متفحصة تتسم بمحاولة تنحية مواقفنا المنسجمة مع منطلقاتنا القومية المبدئية التي ترفض التسليم بالتفريط في سنتيمتر واحد من الأرض العربية، تكشف لنا بيسر أنه خلف هذا يكمن إحباط تاريخي شمالي تعمق ليغدو الأقرب إلى اليأس من حل مسألة الجنوب لصالح السودان الواحد. إحباط يتعاظم ويكشف عن انفصالية شمالية لا تقل في انفصاليتها عن تلك الجنوبية... فحيث أن في الحركة الشعبية انفصالييها ولا تعدم وحدوييها وإن كان جناحهم خفيضاً، فالأمر نفسه بالنسبة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي لا يعدم انفصاليوه أيضاً، بل إن استطلاعات الرأي العديدة تكشف عن أن غالبية الشماليين يتمنون بقاء وحدة الوطن وفي نفس الوقت يقولون، إذا كان الجنوبيون يريدون الانفصال فلينفصلوا!

لا أدل على الإحباط الشمالي الراهن من ملاحظة أن جميع الحكومات العسكرية التي عرفها السودان قد أُسقطت بمظاهرات شعبية تطالب بحل مسألة الجنوب، وكل الحكومات الديمقراطية التي خلفتها أيضاً سقطت أو أسقطها العسكر لذات السبب أو متذرعين به، أما اليوم فلم تظهر حركة احتجاجية شعبية واحدة تعارض حدوث هذا الانفصال الوشيك الذي تتحدث بعض الأنباء عن بعض الإعداد الحثيث له، على سبيل المثال، في كل من أوغندا وكينيا عبر حشد ما يقارب الثلاثة ملايين يوغندي وكيني من قبائل المناطق الحدودية مع السودان ليشاركوا كسودانيين مزعومين في المنفى في هذا الاستفتاء الموعود، وطبعاً لصالح فصل الجنوب!

الديمقراطية الأولى أسقطها انقلاب عبود وكان الجنوب واحداً من مسببات انقلابه، والديمقراطية الثانية التي تلت إسقاط نظامه، أو حكومة سر الختم خليفة، التي أقامت المائدة المستديرة لحل المسألة، والتي أسفرت عن مشاركة الجناح السياسي لحركة التمرد، أو الرعيل الأول المتمرد، كلمنتو ألبورو وأزيوني منديري، في السلطة، تسبب استمرار تمرد الجناح العسكري أو حركة (أنانيا 1) بزعامة جوزيف لاغو في سقوطها وقدوم نظام النميري إلى السلطة.

النميري بدوره، وتحت ضغوط الحرب، والتدهور الاقتصادي، توصل مع المتمردين إلى اتفاق أديسا أبابا، وبدأ في بناء المصانع والجسور لتنمية الجنوب، حيث أثقل كاهل الدولة بديون هذه العملية التي لم تسدد حتى الآن إلى البنك الدولي، لكن بعد أقل من أربعة سنوات بدأ التمرد من جديد وظهرت حركة (أنانيا 2) بزعامة عبد الله شول، التي صفّاها جون غرنق فيما بعد وأحل محلها الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي صعدت من وتيرة التمرد وفاقمت من كلفته الاقتصادية فأسهمت في إسقاط النميري وتدمير كل ما بناه في الجنوب.

وحيث جاء انقلاب سوار الذهب بما تدعى الديمقراطية الثالثة، أو حكومة المهدي، بدأ الحديث عن السبل الديمقراطية لحل قضايا الجنوب، بيد أن غرنق قابل هذا بالحديث عن الاشتراكية، والمطالبة بإلغاء التكامل مع مصر واتفاقية الدفاع المشترك مع العرب، وأوقف العمل بمشروع قناة جونغلي، مواصلاً تمرده، الأمر الذي هو بالتالي يعد سبباً من أسباب سقوط هذه الديمقراطية الثالثة وقدوم العسكر أو «ثورة الانقاذ» إلى السلطة. وعلى الرغم من أن البشير قد تمكن من حسم الموقف العسكري في الجنوب لصالح السلطة المركزية، وأضعف التمرد فانقسم المتمردون إلى جناحين، انفصالي بزعامة ريك مشار أو جناح الناصر ووحدوي بزعامة غرنق أو جناح توريت... الطريف أن الوحدويين كانوا حينها في أغلبهم من الدينكا التي هي الآن عماد الحركة الانفصالية، أما الانفصاليون فهم في غالبيتهم كانوا ينتمون إلى الشلك والنوير... على الرغم من هذا فإن في انهيار الاتحاد السوفيتي واستفراد أمريكا من ثم بقرار العالم، والضغوط الهائلة، كما أسلفنا، على السودان، ما أسهم في فرض اتفاقية نيفاشا على الخرطوم، وساعد على هذا محاولة الشمال تفادي استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي المزمن الدائم ووقف استنزاف إمكانيات السودان المستمر بسبب من هذه الحروب الجنوبية التي لا تنتهي.

انفصاليو الشمال لهم حججهم التي بدأت، ومن أسف، تروج الآن لدى قطاعات واسعة من السودانيين، منها ما ذكرناه من دواعي الإحباط آنفاً المتعلقة بتاريخ التمرد وما ألحقه من أذى باستقرار السودان واستنزاف قدراته والحؤول دون تطوره إذ لا تعدم من يقول لك مثلاً، أن مساحة السودان 2,6 مليون كم، الجنوب هذه الـ 0,6، والشمال المليونين، أي ما يعادل مساحة كل من إيران وتركيا مجتمعتين، ولا ضير من أن تذهب هذه الـ 0,6 ونستريح. أو أن خسارة الشمال من واردات نفط الجنوب هو ما يعادل ملياري دولار، لكن كلفة الجنوب التي تقع على كاهل الشمال تظل أكثر، كما أن لدينا من الصادرات البديلة والثروات الهائلة الواعدة ومنها النفط ما تجعلنا في غنى عن نفطهم... ويمضي في سوق حججه، أنهم إن انفصلوا ما الذي سنخسره؟ إنهم حتى لا يستطيعون حجب المياه عنا إن شاءوا، لأن إقامة سدود لديهم معناه، لطبيعة الجنوب، غرقهم في المستنقعات. ولا يستطيعون تصدير نفطهم إلا عن طريقنا لأن الأرض في الجنوب مرتفعة وتنحدر شمالاً، وأي محاولة لتصديره عبر المحيط الهندي، كما يحلم الأوغنديون والكينييون، عملية غير اقتصادية وخاسرة تماماً. باختصار هم في حاجة لنا ولسنا في حاجة لهم!

إلى جانب هؤلاء، هناك من الشماليين من يرى أن الوحدة لن تتحقق بين الشمال والجنوب إلا بعد انفصال الأخير، مستنداً فيما يذهب إليه إلى أن أغلب التوقعات لجنوب ما بعد الانفصال تقول بأن انعدام أسس الدولة في الجنوب سوف يعني الحاجة للمليارات لكي يتم بناؤها، وهي إن قامت فستعيش هذه الدولة على المساعدات إن توفرت، وستكون بالتالي، إلى جانب مظاهر الفساد الذي رافق الفترة الإنتقالية، دولة فاشلة وفق التعريف المعروف. كما أن الكثيرين يرجحون اندلاع حروبٍ أهلية جنوبية جنوبية. ويتوقعون تطهيراً عرقياً لمعارضي الانفصال ومعارضي الحركة الشعبية على السواء حتى ولو كانوا انفصاليين، إلى جانب هيمنة الدينكا على الدولة الوليدة الأمر المحفز لتمرد ما عداها عليها.

هناك مسألة في حاجة لتسليط الضوء عليها، وهو تلكؤ الحركة الشعبية المتعمد في الإيفاء بحل القضايا محل الخلاف والتي تنص عليها الاتفاقية، وتباطؤها الرامي لتأجيل ترسيم الحدود، لاسيما في منطقة أبييه النفطية المختلف بشأن تبعيتها، وهذا يفسر بداية الحديث الشمالي عن أن لا استفتاء بدون ترسيم الحدود... لماذا؟ لأن بقاء الأمر كما هو إلى ما بعد الانفصال يجعل المشكلة تصبح بين دولتين، الأمر الذي يصعّد من مواقف الجنوبيين، أو يجعل من التدخل الدولي الذي لا ينتظر من يستدعيه في موقع الأكثر قدرة وتأثيراً والذي هو عادة لصالحهم. وعليه إن لم يتم ترسيم الحدود ولم يجر الاستفتاء وغيره من القضايا التي لم تحسم بسبب من ذلك، وأعلن انفصاليو الجنوب انفصاله من طرف واحد كما يهددون... فهل من سبيل سوى الحرب... هذه التي يقول الرئيس السوداني أن ماشاكوس ما كانت لتبرم وما كان بند تقرير المصير ليكون مقبولاً بين بنودها إلا من أجل إيقافها؟!

... إن استحقاق الاستفتاء في جنوب السودان هو سيفٌ آنيٌ مسلط على عنق هذا القطر العربي، وإذا ما فعل فعلته المتوقعة في جغرافيته، مستغلاً هذه المرحلة المنحدرة من تاريخ الأمة، التي ينهش فيها الصهاينة قلبها وتتناهش الأمم أطرافها المستفرد بها، والتي تحولت فيها قضيتها المركزية في فلسطين إلى مسألة استيطانية عنوانها الراهن أيجمّد الاستيطان أم لا يجمّد، والصومال إلى شأن أوغندي، وشمال العراق دولة غير معلنة، لا يؤذن للعراقي العربي بالإقامة فيها بدون تصريح، وينذر هذا العربي في كركوك، وتماماً على طريقة ما يحدث في القدس، بوجوب مغادرة بيته والرحيل عن المدينة... إذا ما تم فصل جنوب السودان عن شماله، هل للعرب أن يلوموا أحداً سوى أنفسهم؟!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165535

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165535 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010