الأحد 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

رابطة الجوار الإقليمي كمشروع جدي

الأحد 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par د. نهلة الشهال

من السخف معاملة اجتماع سرت لنقاش سياسة الجوار العربية ومقترح إقامة «رابطة الجوار الإقليمي» بخفة، وذلك على رغم كل المعوقات المعروفة، والتوقعات السلبية. لأن تلك الصرخة التي أطلقها الأمين العام لجامعة الدول العربية، تحوز خصائص أصبحت نادرة جداً في الواقع العربي: الخيال السياسي والقدرة على المبادرة. وهو يعني وضع النفس تحت عنوان «تصور عربي لمستقبل المنطقة»، الذي يعلم الجميع أنه مفقود راهناً، وأن العرب أولئك يمرون بواحدة من أسوأ لحظات وجودهم. فهل في هذا تناقض؟

خطورة المقاربة المستخفة، التي لا تتوقع شيئاً من القمم العربية ولا من ملحقاتها، تكمن في انتمائها الى عدمية باتت مستقرة في نفوس وعقول أهل العالم العربي، تعتبر أنه لا رجاء من أي شيء. وهي تلف برماديتها الخانقة الممارسة السياسية للدول العربية، باعتبار تلك الدول عاجزة من جهة، ومحكومة من جهة أخرى بتوازنات كما بارتباطات معلومة تجعلها تدور في حلقة بلا مفاجآت. ولكن الرمادية تلك تنسحب أيضاً على الواقع العام، فلا تترك حيزاً لأي أمل، وترى في الإرهاصات التي تبرز أحياناً في كل الميادين، وليس في السياسة فحسب، فلتات ظرفية لا تؤشر الى إمكان. ومشكلة هذه المقاربة أنها تعتقد نفسها واقعية، أي تنطق بما هو موجود، بلا أوهام، بينما هي تعبر عن موات حامليها، وليس عن نقديتهم، بخلاف ما يظنون. إذ للواقع دائماً، وفي أشد لحظاته قتامة، دينامية مختزَنة، بفعل التراكم والاضطرارات معاً، لا يمكن التنبؤ مسبقاً بلحظة ولادتها. وعلى الوعي والإرادة البقاء متيقظين لالتقاط أي إشارة، وحملها والسعي الى رعايتها، على رغم ادراك الصعوبات.

ذلك هو الموقف الواقعي، والنقدي، وبالتأكيد الثوري، لأي ايديولوجيا انتمى، يسارية أو إسلامية أو ليبرالية. وأما الموقف العدمي، فهولا يسوِّد الواقع أكثر مما هو أسود فحسب، ويقتل الحساسية اللاقطة للتغيير المقبل، بل إن تسييده للإحباط واليأس من النفس واحتقارها، يساهم بدوره في خنق حدوث التغيير، أو على الأقل في إعاقته والتضييق على احتماله.

الاجتماع في سرت الليبية، إذاً، يؤشر الى ضرورة انشاء كتلة اقليمية حيوية، يقع العالم العربي في القلب منها، وتشكل رافعتَها الجارتان الكبيرتان، تركيا وإيران. وإعلان هذه الضرورة بحد ذاته مكسب كبير. لأن التصور الاستراتيجي للقوى المهيمنة عالمياً، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والذي ساد منذ بضع سنوات ليس إلا، كان يتكلم عن «شرق أوسط جديد» يشمل «اسرائيل» ويمتد حتى افغانستان، تتحكم به وتسيره إدارة أميركية موجودة على الأرض، ويستثني بالتأكيد إيران كدولة شبه مارقة. خصوصاً لأن ما كان يراد له الحصول هو التأسيس لتنافس حاد، إن لم يكن لعداء إيراني - تركي. وبالمناسبة، فالقوة التي تمكنت سورية من استعادتها على الصعيد السياسي، الإقليمي والدولي، على رغم ما حل بها في لبنان والذي كان يفترض به أن يكون قاضياً عليها، تعود كثيراً الى محصلة حسن علاقتها بالطرفين، التركي والإيراني معاً، وهي محصلة جرى الاشتغال عليها سورياً كهدف... تمّ تحقيقه!

ثم أنه كان يراد لذلك الخلاف التناحري أن يطغى على ما عداه، وأن يتأجج، في الوقت الذي يجرى الاشتغال على تحقيق «السلام» مع «اسرائيل»، ما يعني تعديل تصور المنطقة لأولوياتها، وبالتالي لنفسها. وهذا ما يحبطه المقترح الذي يعقد حوله اجتماع سرت، والذي يعلن «اسرائيل» «كاستثناء وحيد»، وإن قال عنه إنه «طويل الأمد»، وليس نهائياً، مسايراً بذلك النغمة المهيمنة، واعتبارات ديبلوماسية بالتأكيد.

وفي مجال آخر، يحدد المقترح شرعة لتعامل دول الجوار في ما بينها تقوم على عدم التدخل في شؤون بعضها البعض، والاحترام المتبادل للسيادات، والتسوية السلمية للنزاعات بينها. وهي مبادئ عامة، قد تبدو بديهية، إلا أن إعلانها يمنح المقترح بعداً قيمياً ضرورياً. كما يعين المقترح الميادين التي يشملها حسن الجوار، فإذا بها ليست السياسة فحسب، بل الاقتصاد، والتعاون الثقافي، ومسائل تتعلق بالبيئة وبموضوع المياه البالغ الأهمية والخطورة، والمتضمن لاحتمال نزاعات حادة.

وليس ذلك صياغة انشائية بيروقراطية فحسب - على وجودها - بل يتضمن، عدا التسجيل الفعلي للمطلوب، رسماً لنزعة ولخيارات. فتعيين التعاون الثقافي مثلاً كميدان، هو التفات الى الذات وإلى الحاضن الشرقي، في وقت لا يكف الناس في منطقتنا عن الاستمرار في اعتبار المرجع الأوحد لهم في الفنون والذائقة والإبداع، غربياً... بينما الغربيون يعلنون جفاف إلهامهم، ويلتفتون صوب الشرق وحضاراته المتنوعة، وأفريقيا وتراثها الغني، وما محقه الاستعمار في أميركا اللاتينية وأوقيانيا.

لكن الصعوبات تبدأ بعد تسجيل المكاسب. فالخطر هو أن يبقى التصور المقدم مجرد هروب الى الأمام من قبل وضع عربي يتدهور على كل الصعد من دون استثناء. وبمعنى آخر، فعلى رغم أن المنطقة العربية في القلب من الإطار ذاك، وعلى رغم احتوائها للمسألة الفلسطينية كموضوع مركزي، وامتلاكها لثروات الغاز والنفط، ولسوق استهلاكي عميق، إلا أن مميزاتها الفعالة الجاذبة قليلة، بل هي قد تكون عبئاً على قوتين إقليميتين ناهضتين، تميزهما ديناميات قوية وطموحات كبيرة. ثم إن التحفظ او التخوف حيال المشروع، عائق آخر لا يمكن الاستهانة به. فوزير الخارجية الأردني، على سبيل المثال، يربط تقدم المقترح بـ «توفير الحد الأدنى من تلاقي المصالح العربية البينية»، بينما الإطار يسعى تحديداً لتجاوز عقبة عدم توافر ذلك الشرط، حيث المنطقة العربية، بخلاف تركيا وإيران، لا تتمتع بدولة واحدة، ولا حتى بقيادة مسلّم لها أو تفرض نفسها، كما حدث في بعض الأوقات، بل ولا حتى بروابط لائقة في ما بينها. ويمثل إيراد مثل ذلك الشرط تعجيزاً، وفي الواقع القائم وضعاً للعربة أمام الحصان.

إلا أن الإشكال الأكبر، وقد يكون القاضي على المشروع، هو ذاك المتعلق بإيران. فقد تقرر تأخير انضمامها الى الرابطة ريثما يتم التفاهم معها على «تعامل مختلف مع القضايا العربية العالقة»، وهي جملة عمومية يمكن ان تنتفخ لتضم ملفات كثيرة... لا حلاً فورياً لها، بينما من الحكمة الزام إيران بمسؤولياتها بخصوص تلك الملفات داخل إطار ودي حيالها - وليس نابذاً لها - وضاغط في الوقت نفسه عليها. وهو يبدو خياراً وحيداً ممكناً لتجنب التحوير والتشويه الذي قد يصيب المقترح رغماً عن واضعيه، إذا ما استمر الموقف على هذه الشاكلة : أن يصبح قاعدة لاستقطاب صراعي ضد إيران، أو للتشارك في عزلها، ما لا يوفر للمنطقة أي مكسب، ويعيدها الى نقطة البداية الأميركية، وهذا على كل حال يقبر المقترح في المهد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2177654

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2177654 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40