الجمعة 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

مسجد للنساء فقط

الجمعة 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

الساعة الواحدة والنصف تقريبا، والازقة الضيقة المغبرة التي تعج بالناس في الحي الاسلامي من كايبنغ المدينة الصينية ذات الخمسة ملايين نسمة التي تقع على ضفاف النهر الاصفر في محافظة حنان، والتي كانت حتى بضع مئات من السنين وطنا للطائفة الصينية اليهودية الاقدم في تاريخ الصين، آخذة في الفراغ. رجال ملتحون، يعتمرون الكوفيات البيضاء بأطر رقيقة من الذهب، يسارعون الى المسجد في الحي التي تعلو مآذنه عن الاسطح الاخرى للمنازل الحجرية القديمة التي كتبت على جدرانها شعارات شيوعية باهتة وايات من القرآن. صوت المؤذن يصدح بين الساحات.

في أسفل الزقاق المؤدي الى المسجد المركزي الى جانب مطعم شعبي صغير يطبخ في مطبخه مرق الضأن الدسم ذي الرائحة القوية التي تصل بعيدا، تمر مجموعة من النساء كبيرات السن بعصي سير عبر بوابة خشبية مزينة ليدخلن ساحة داخلية، يتوقفن لطقس وضوء سريع في غرفة استحمام صغيرة. وبعد ذلك يشقن دربهن، بلا أحذية، نحو غرفة متواضعة تفرش الابسطة والفرشات الخضر في أرضيتها. وهناك تنضم كبيرات السن الى نحو 30 امرأة اخرى مثلهن، يلبسن الجلابيات ويعتمرن أغطية الرأس الملونة، فيسجدن على الارضية متخذات وجهة الغرب، نحو مكة.

منذ نحو مائتي عام يتكرر المشهد ذاته، ثلاث مرات في اليوم، في هذا المسجد الصغير في آخر زقاق ونغ جيا، مسجد ليس فيه حتى ولا رجل واحد. الصلوات هنا لا يقودها إمام ملتح، بل إمرأة مبتسمة ذات وجه ملس ومدور، شامات وعينين ضاحكتين. يسمونها ياو باو شيا، وهذا هو مسجدها، مسجد للنساء فقط.

[**مواعظ حماسية*]

الصين هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكن أن يجد المرء فيها مساجد للنساء «تشينك جن نو سيه» كما تسمى بالصينية. في باقي العالم، في المساجد التي يسمح فيها اجمالا بدخول النساء، يكون من حقهن ان يصلين في غرف منفصلة فقط أو من وراء حواجز، في مواقع منقطعة عن الفضاء المركزي للمسجد وخفية عن ناظر الرجال المصلين. المكان الافضل بالنسبة لصلاة النساء، كما يؤمن الكثيرون في العالم الاسلامي المحافظ هو صالون البيت.

ليس هكذا يؤمن 10 ملايين من أبناء حاوي، مجموعة عرقية كبيرة تتكون من أنسال التجار المسلمين الاوائل الذين وصلوا الى الصين قبل أكثر من الف سنة والعديد من الصينيين من ابناء الهان ممن تأسلموا على مدى القرون الماضية، ويشكلون اليوم نحو نصف السكان المسلمين في الصين. حاوي، السُنة المتزمتون، ليس فقط لا يرون غضاضة في اقامة مساجد للنساء، بل يحرصون على ان تديرها نساء يعملن كأئمة بكل معنى الكلمة : «أخنج»، يسمونهن هنا.

الأئمة النساء يقدن الصلوات في مساجد النساء فقط، ويلقين فيها امامهن مواعظ حماسية، ويدرسهن القرآن والكتابة والقراءة بالعربية. وهن يغسلن اجساد المسلمات اللواتي يتوفين ويعملن كمستشارات لشؤون الدين للنساء والرجال على حد سواء. وباستثناء ادارة الجنازات والاعراس، فان صلاحياتهن تشبه تماما صلاحيات نظرائهن من الرجال. «هذه ظاهرة مميزة لا توجد في أي مكان آخر»، تقول د. مريا ياشوك، رئيسة القسم الدولي للدراسات النسوية في جامعة اكسفورد والخبيرة في التاريخ الاسلامي في الصين. «توجد أماكن في وسط الصين توجد فيها مساجد للنساء أكثر من المساجد للرجال، بل وهناك بضعة حالات تاريخية من الأئمة النساء اللواتي يقدن صلوات مشتركة للرجال والنساء، ولكن هذه كانت نادرة جدا».

في العالم الاسلامي لا يوجد شيء كهذا : عندما حاولت ناشطات اسلاميات ذوات نزعة نسوية في اوروبا وفي الولايات المتحدة ان يقدن في الماضي صلوات مشتركة للنساء والرجال، أثرن عليهم غضبا شديدا في أوساط طوائفهن واجتذبن تنديدات حادة من وعظة معروفين في الدول العربية أوضحوا بان القرآن يحظر على النساء ان يعملن كأئمة سواء كن يقدن صلوات مشتركة أم صلوات للنساء وحدهن وادعوا بان افعالهن بمثابة خطر جسيم على الاسلام. الدولة الاسلامية الوحيدة في العالم التي يمكن فيها للنساء ان يحصلن على صلاحيات دينية ما هي المغرب، حيث منذ أكثر من خمس سنوات والنساء مخولات لان يكن «معلمات روحانيات» في المساجد، ولكنهن غير مخولات بقيادة الصلوات.

«مسلمون من دول اخرى يعتقدون باننا نسير أبعد مما ينبغي»، يؤكد جوا باغو وانغ، رئيس الاتحاد الاسلامي في كايبنغ، الذي يشرف على 64 مسجدا مختلفا في المدينة، ثلثها للنساء. «هذا يبدو لهم غريبا جدا أن تكون المرأة إماما. وهم مخطئون، بالطبع، ينبغي أن يكون للنساء وللرجال حقوق متساوية تماما. هذا ليس فقط ما أقوله لنا، بل هذا ما يقوله النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بكلماته».

الاتحاد الاسلامي لكايبنغ، مثل كل منظمة دينية رسمية اخرى في الصين، هي هيئة حكومية تخضع مكاتبها لقسم شؤون الاقليات وتعمل تحت قوانين واضحة ومتصلبة للدولة، تسبق قوانين الشريعة. ولكن الاسلام الليبرالي في حاوي الذي يسمح للنساء المسلمات بأكثر مما يمكن أن يفعلن في أي مكان آخر في العالم نشأ هنا دون أي صلة بالشيوعية.

أبناء الاقليات الاسلامية الآخرون في الصين، مثلا، الاوغوريون من محافظة شينغ يانغ، التي تحاذي افغانستان، لا يسمحون على الاطلاق للنساء بالدخول الى المسجد ولا يفرض عليهم أي قانون عمل ذلك. وقد نشأ هنا منذ زمن بعيد، قبل زمن طويل من انقاذ جنود جيش التحرير الشعبي لـ «ماو تسي تونغ» لنساء الصين من التقاليد التعصبية التي تستعبدهن، مثل ربط أقدامهن. ومنذ القرن السابع عشر، ظهرت في محافظة حنان وفي محافظات اخرى في وسط الصين حيث استقر الكثير من أبناء حاوي، مثل شانشي، شاندونغ وننغاشا، مساجد اولى للنساء استخدمت في بدايتها كمدارس اسلامية للبنات.

مواطنو حاوي، ليسوا مثل مسلمين آخرين في الدولة الشيوعية، منخرطون جيدا في المجتمع الصيني وباستثناء الكوفيات وغطاء الرأس يتصرفون، يتحدثون ويظهرون مثل كل باقي الصينيين. بعدهم النسبي عن مناطق الحدود الغربية للصين سمح لزعمائهم أن ينشأوا بقدر أقل جدا من تأثير الاسلام الراديكالي والمحافظ الموجود في الدول المجاورة. وكما تشرح ياو باو شيا، المرأة الإمام في مسجد ونغ جيا : «في الصين لا يحتمل أن تبقى المرأة في البيت ولا تخرج الى العمل. أعتقد ان النساء العربيات متعلقات برجالهن أكثر مما ينبغي. عليهن أن يخرجن وان يحققن طاقاتهن الكامنة».

[**بيت ثانٍ*]

ياو، ابنة 48 وأم لابن وحيد، وصلت الى المسجد بالصدفة تماما. فقد ترعرعت في عائلة علمانية تماما، وعلى مدى سنوات طويلة عملت كعاملة بسيطة في مصنع لانتاج البطانيات الى أن اقيلت ذات يوم صاف فوجدت نفسها في البيت، في حالة سأم. وبمشورة حماتها، المسلمة المتمسكة بدينها، بدأت تذهب الى صلاة يوم الجمعة في المسجد. وبعد عدة اشهر بدأت تتعلم العربية، ومن هناك واصلت الدراسات الاسلامية، وبسرعة شديدة وجدت نفسها تتعلم كيف تكون إماما بداية تحت توجيه الأئمة الرجال ولاحقا تحت توجيه إمام إمرأة قديمة.

نحو 40 إمرأة، معظمهن متقاعدات، يصلن كل يوم الى مسجدها العتيق للصلاة. يوم الجمعة يصل عدد اكبر. بالنسبة للكثيرات منهن يعد المسجد أكثر بكثير من غرفة للصلاة : هذا بالنسبة لهن بيت ثانٍ، مكان لقاء مجتمعين يقضين فيه ساعات طويلة في احاديث تنبع من النفس ويطرحن فيه ذكرياتهن. النساء المسلمات الشابات لا بصلن الى هنا تقريبا، ما تروي ياو، وهذا يقلقها بعض الشيء. لديها الان تلميذة ابنة 19 من مدرسة اسلامية في المدينة تصل بين الحين والاخر الى مكتبها لتتعلم كيف تكون إماما، ولكن ياو ليست مقتنعة تماما بانها ستسير حتى النهاية. وهي تقول ان «الكثير من الشابات يردن ان يتعلمن العربية فقط كي يتمكن بعد ذلك من العمل كمترجمات في شركات تتاجر مع الدول العربية. وحتى هكذا ليس لهن حقا الوقت لان يكن «أخنج» (امام) فهذا يتطلب تفانيا تاما، وفي عمرهن فانهن ينشغلن في اقامة عائلات لهن، ولا يمكن للمرأة أن تكون أما وزعيمة دينية في آن واحد. ولكن الانباء الطيبة هي أنهن بعد ذلك، حين يخرجن على التقاعد، يأتين الى المسجد».

«من الصعب اليوم ايجاد نساء شابات يرغبن في القيام بهذه المهمة»، تؤكد سون تشينغ يانغ، 50 سنة، تعمل كإمام منذ 21 سنة في أحد مساجد النساء الاخرى في كايبنغ. «هذه مسألة وقت فقط، الحكومة تدفع لنا 500 يوان في الشهر (نحو 75 دولارا) لقاء هذا العمل، وهو مبلغ سخيف مقابل ما يمكن لتلك النساء ان يفعلن خارج المسجد. كانت لدي تلميذتان شابتان ارادتا ان تكونا «أخنج»، ولكن عندما عرفتا كم هي الرواتب متدنية، فرتا».

التهديد الاكبر على تواصل التقاليد الخاصة لمساجد النساء لحاوي ليس التطرف الاسلامي بل الاقتصاد النامي للصين. ويعترف جاو باغونغ رئيس الاتحاد الاسلامي في المدينة بانه «هذه مشكلة ولكن يمكن حلها من خلال التعليم ونحن نبذل جهودا كبيرة». وقد فتحت على مسافة نحو 40 دقيقة سفر في القطار من كايبنغ في عاصمة محافظة حنان، قبل بضع سنوات كلية اسلامية كبيرة تقدم دورات خاصة للنساء المعنيات بان يصبحن أئمة.

جاو متفائل بل ومقتنع بانها مسألة وقت فقط الى أن تقوم في باقي العالم الاسلامي مساجد للنساء. وهو يقول : «على الدول العربية ان تتعلم من المثال الصيني. وليس العكس. في كل ما يتعلق بحقوق النساء أعتقد اننا عملن هنا عملا أفضل بكثير من كل باقي المسلمين».

- [**بوعز أراد│«يديعوت»│ 8 اكتوبر (تشرين الأول) 2010*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2181293

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2181293 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40