الأربعاء 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

سياسات الإبادة

الأربعاء 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

في هذا الكتاب المؤثر، يدرس المؤلفان «إدوارد هيرمان، وديفيد بيترسون» الاستغلال الخبيث لكلمة «إبادة». ويتوصلان إلى نتيجة مقنعة، مفادها أن استخدام هذه الكلمة يتم لأغراض سياسية بحتة، وهي تستغل في الولايات المتحدة من قبل الحكومة، والصحافيين والأكاديميين لتشويه وتلطيخ سمعة دول أو مجموعات سياسية تتضارب مصالحها بصورة أو بأخرى مع المصالح الإمبريالية للولايات المتحدة.

هكذا نجد أن كلمة «إبادة»، نادراً ما تستخدم عندما يكون مرتكبوها حلفاء للولايات المتحدة «أو حتى الولايات المتحدة نفسها»، بينما تستخدم بلا تمييز عندما يكون المتهمون بارتكابها أعداء للولايات المتحدة، ولمصالحها الاقتصادية.

وهناك أمثلة عدة تشهد على سياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة لها، عندما يتعلق الأمر بإطلاق لفظة «إبادة»، فهذه الكلمة تخفي وتطمس عند ذكر الاحتلال «الإسرائيلي» وقمع الفلسطينيين، أو الغزو والجرائم المروعة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام، أو المذابح التي اقترفتها الحكومات الإندونيسية بحق سكان تيمور الشرقية، وحالياً جرائم ومذابح الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. بينما يتم استدعاء واجترار كلمة «إبادة» مراراً وتكراراً، عندما تحدث حروب أو قلاقل أهلية، في دول تناوئ حكوماتها الولايات المتحدة وأبرز الأمثلة على ذلك : رواندا، والسودان «دارفور»، صدام حسين، وإيران بالإضافة لدول عدة ومجموعات سياسية أخرى.

[**أمريكا تستخدم «الإبادة» غطاء لتبرير سياساتها*]

يرى هيرمان وبيترسون، أن مناهضة الإبادة تعتبر البديل الذي حل محل مواجهة الشيوعية لدى بعض الدوائر اليسارية والليبرالية ذات الثقل فمكافحة الإبادة تعد ذريعة وشرعنة أخلاقية تبرر عدائيات وتدخلات الولايات المتحدة في شؤون دول أخرى.

[**استخدام دارفور ذريعة*]

وأوضح مثال على ذلك، التقرير الخبيث الذي أعدته مجموعة تعرف بـ «هيئة عمل منع الإبادة»، المكونة من عدة منظمات وتحالفات وجمعيات أمريكية أغلبها ذات توجهات ليبرالية وصهيونية.

هذا التقرير أشاد بعمل المنظمات والجبهات التي تعمل تحت لواء تحالف «أنقذوا دارفور»، معتبراً نشاط هذا التحالف نموذجاً يحتذى في الكيفية التي يتم بها تأسيس «استنفار دائم لمنع الإبادة والمذابح الجماعية».

قضية دارفور، تحديداً، تعتبر هدفاً مثالياً يصلح لتطبيق الأجندات والقواعد الخبيثة عليه، فالحكومة السودانية يهيمن عليها المسلمون العرب، والسودان يمتلك ثروة نفطية، والصين عوضاً عن الولايات المتحدة أو الغرب هي التي طورت علاقات قوية مع الخرطوم، كما أن الولايات المتحدة و«إسرائيل» في أمسّ الحاجة لملهاة تصرف الأنظار عن المذابح التي يرتكبانها، والتي يقترفها حلفاؤهم في جمهورية الكونغو القريبة من السودان.

[**تزوير وتجاهل*]

وهكذا نجد أن أجهزة الإعلام الأمريكية والغربية، استخدمت لفظة «إبادة»، لتوصيف معالجة حكومة الخرطوم لقضية إقليم دارفور، بمعدل وصل لتسعين ضعف استخدامها لتوصيف الأفعال والتصرفات التي تقوم بها الولايات المتحدة في العراق. وذلك بالرغم من أن قضية دارفور، يفترض أن تكون شأناً داخلياً يخص السودان، بينما العراق دولة أجنبية اغتصبت بحرب عدوانية. ويجب كذلك أن نأخذ في اعتبارنا أن عدد الضحايا العراقيين كان أكثر من ثلاثة أضعاف قتلى نزاع دارفور.

وتتعمد الميديا والمنظمات الأمريكية والغربية المشبوهة، وضع أرقام وتقديرات مبالغ فيها ومهولة لعدد ضحايا نزاع دارفور، ومع ذلك يظل عدد ضحايا دارفور أقل بكثير من عدد ضحايا الاحتلال الأمريكي للعراق.

ومنذ أن بدأت حركات التمرد في دارفور، تشن هجماتها على المواقع الحكومية السودانية، في مارس/ آذار 2003، انطلقت حملة توصيف ما يحدث في دارفور بـ «الإبادة». وفي تلك الفترة، كتب البروفيسور إريك ريفز (أستاذ الأدب الإنجليزي في كلية سميث بولاية ماساشوستس) مقالاً في صحيفة «الواشنطون بوست»، وصف فيه دارفور بالإبادة المنسية، وادعى أن الناس في دارفور يتعرضون للقتل والدمار لأسباب عنصرية وعرقية.

بينما يقول البروفيسور محمود مامداني الذي يعتبر من أبرز الباحثين الأكاديميين المتخصصين في الشؤون الإفريقية والسودانية إن لغة الخطاب التي يستخدمها الغربيون لتوصيف قضية دارفور، تعتمد على تبسيط واختصار التاريخ السياسي الاجتماعي المعقد لدارفور، وتحويله بخبث إلى قضية أخلاقية بحتة. وبادعاء المواجهة بين الأخيار والأشرار، حيث ترتكب مذابح بمتواليات هندسية، بزعم أن من يرتكب هذه المذابح هم العرب والضحايا هم الأفارقة، والضحايا بريئون وبلا خطايا، بينما الفاعلون أبالسة ومجرمون.

وأبرز مثال على هذه الملهاة العبثية، التي تشبه الروايات الهزلية، كتابات الصحافي اليهودي نيكولاس كريستوف، في «النيويورك تايمز»، الذي يصف ما يجري في دارفور على أنه «صراع بين حكام السودان العرب، والسودانيين الأفارقة».

ويضيف : «عمليات القتل تنسقها وتتنظمها الحكومة السودانية التي يهيمن عليها العرب، وهذه الحكومة تسلح ميليشيات الجنجويد المكونة من مقاتلين عرب».

وفي مارس/ آذار 2004، كتب كريستوف مشدداً على دنيوية العرب الذين يحكمون الخرطوم وقال : «الضحايا ليسوا عرباً : الضحايا «في دارفور» سود من قبائل الزغاوة، والمساليت، والفور». وادعى كريستوف أن أحد الفارين من دارفور، قال «إن العرب يريدون التخلص من كل صاحب بشرة سوداء»، وأضاف : «في دارفور لم يتبق شخص أسود!».

بيد أن التمييز الذي اختلقه كريستوف، وإريك ريفز، وحلفاؤهم الكثر في تحالف حملة «أنقذوا دارفور»، بين حكام السودان العرب وضحاياهم الأفارقة السود، تمييز زائف، الغرض منه «عرقنة، وعنصرة» الصراع في دارفور.

[**حقيقة الصراع*]

والحقيقة التي يرسخها الواقع في دارفور، وتؤكدها دراسات وأبحاث علمية معتبرة، أجراها أكاديميون نزيهون (البرفيسور مامداني، والبروفيسور أليكس دي وال وآخرون) تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن خلفيات وجذور الصراع في دارفور سياسية واقتصادية، وقد أثبتت أبحاث مامداني ودي وال، أن القبائل العربية في دارفور، ذابت واندمجت تماماً في القبائل الإفريقية منذ مئات السنين.

وهذا ما أكدته لجنة التحقيق الدولية في أحداث دارفور، التي أصدرت في العام 2005 تقريرها الذي خصلت فيه إلى أن أي توصيف للصراع في غرب السودان باعتباره مواجهة بين العرب والأفارقة، هو توصيف خاطئ تماماً، ويتجاهل المعادلات السياسية التي تشكل أسباب ونتائج هذا الصراع.

ويؤكد تقرير لجنة التحقيق الدولية على حقائق راسخة حاولت الأجندات المغرضة تشويهها فالقبائل الدارفورية «أبرزها الفور، والمساليت، والزغاوة» التي تعرضت لهجمات، لا تختلف ولا تحمل أي ملامح عرقية تميزها عن الأفراد أو الميليشيات التي تقاتلها، وكل الأطراف المتنازعة تتحدث بلغة واحدة (العربية) وتدين كذلك بديانة واحدة (الإسلام).

وعلى النقيض من تخرصات كريستوف، وأمثاله، «تتشكّل الحكومة في الخرطوم من خليط من أفارقة سود وعرب، لا يختلفون عن معارضيهم، الأفارقة السود في دارفور».

وفرية التمييز بين العرب والأفارقة في السودان، اختلقتها وغذتها ونشرتها الدوائر المغرضة والميديا «خصوصاً ميديا البيض الأوروبيين والأمريكيين».

[**مذابح بناءة ومذابح خبيثة*]

وقد أمضى مؤلفا الكتاب (هيرمان، وبيترسون)، سنوات عدة يمحصان ويحللان الأحداث الدولية، وخرجا بنموذج مكون من أربع نقاط حول الكيفية التي تتم بها رؤية وتناول قضية الإبادة، من قبل الحكومة الأمريكية، ووسائل الإعلام، والأكاديميين، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية.

فعندما ترتكب الولايات المتحدة جرائم المذابح الجماعية، تكون هذه المذابح مذابح بناءة! ويكون ضحاياها غير مستحقين لأي اهتمام أو تعاطف، مثلما حدث في العراق، حيث قتل آلاف الأشخاص على يد جيش الاحتلال الأمريكي في العقدين الأخيرين. ولكن عندما يكون مرتكبو المذابح أعداء للولايات المتحدة أو دولة تستهدف الولايات المتحدة نسف استقرارها والاعتداء عليها، يصبح العكس صحيحاً.

وفي هذه الحالة، تكون المذابح مذابح خبيثة ضحاياها يستحقون الاهتمام والتعاطف، ويظهر بالتالي استنفار التضامن الشعبي معهم، وينبري البعض للمطالبة بالتحقيق والعقاب. وهكذا نجد مذابح شريرة في كمبوديا «لكن فقط في عهد الخمير الحمر، وليس في السنوات التي سبقت ذلك العهد والتي شهدت جرائم القتل الجماعي التي ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها»، وفي العراق حيث تنسب المذابح لصدام حسين فقط ولا تطالب الولايات المتحدة». ويتكرر هذا الأمر في البوسنة ورواندا ودارفور.

والمذابح والجرائم التي خلفت ملايين القتلى والمشوهين والمشردين، التي ارتكبتها الولايات المتحدة بنفسها، أو عبر أنظمة عميلة (الهند الصينية في الستينات والسبعينات، وأمريكا الوسطى في الثمانينات)، لا يشار إليها باعتبارها مذابح، ويعمل الثالوث المغرض «الحكومة الأمريكية، والميديا المتملقة والمنصاعة، والدوائر الأكاديمية» على تقديم هذه المذابح، باعتبارها أفعالاً شرعية تأتي في سياق تنفيذ سياسات هادفة وبناءة «إبادة بناءة!».

المذابح المنهجية المنظمة، التي تخلف أعداداً هائلة من الضحايا، والتي ترتكبها أنظمة عميلة للولايات المتحدة «إسرائيل» على الفلسطينيين منذ 1948 حتى الآن، رواندا وأوغندا في الكونغو، وكرواتيا على البوسنيين في 1995 كل هذه المذابح لا تشجبها المؤسسة السياسية الأمريكية، ولا تبدي حتى أسفاً أو ندماً إزاءها. وكثيراً ما تعتبرها «مذابح» حميدة.

أما الأفعال والتصرفات العسكرية والأمنية التي تقوم بها حكومات غير موالية للولايات المتحدة حتى لو كانت ضد متمردين محليين داخل حدود الدولة فتقابل بردة فعل عنيفة وقاسية من قبل الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية، التي تهب لإلصاق تهم شنيعة بها، وتصفها بالتصرفات والأفعال الشائنة التي لا يوجد ما يبررها. وتعمل الحكومة الأمريكية، ومعسكر الميديا والمنظمات غير الحكومية على تضخيم وتهويل أرقام ضحايا النزاعات الأهلية التي تقع في دول حكوماتها مناوئة أو غير منصاعة للولايات المتحدة والغرب وتتغافل عن أو تشوه أسباب النزاعات، وتختلق أحداثاً ووقائع لتبرير إلصاق تهمة الإبادة، ثم تدشن تنفيذ مخططات مجهزة سلفاً للتدخل في شؤون الدولة أو الدول التي تشق عصا الطاعة على أمريكا، ويتخذ هذا التدخل أشكالاً عدة، تشمل العقوبات، والحظر، والحصار «الاقتصادي والسياسي»، ومنع مسؤولين حكوميين من السفر، وتجميد أرصدة مالية حكومية في الخارج، وتمويل وتقديم النصح والمشورة لجبهات متمردة، وأخيراً القصف الجوي.

وقد أجرى هيرمان وبيترسون أبحاثاً أكاديمية معمقة، حول استخدام كلمة «إبادة» في كبريات الصحف الناطقة باللغة الإنجليزية. وجاءت نتائج أبحاثهما صادمة ومتوقعة في آن معاً، فالصحف الكبرى مثل «نيويورك تايمز» و«الغارديان»، وصحف كثيرة أخرى، استخدمت كلمة «إبادة» بطريقة مرضية وموافق عليها من قبل الحكومة الخارجية الأمريكية، وهذه الصحف تردد كلمة «إبادة» كثيراً جداً وبإلحاح شديد، عندما يتعلق الأمر بصراعات رواندا ودارفور، ولا تأتي على ذكرها إلا نادراً حينما تصف النزاع في الكونغو، وفلسطين، وأفغانستان، والعراق «سواء في فترة الحظر والعقوبات المدمرة (1990 - 2003) أو منذ الغزو والاحتلال العسكري الأمريكي منذ العام 2003 حتى الآن».

وقبل سنوات، كان هيرمان أصدر دراسة بالاشتراك مع المفكر الأمريكي المعروف نعوم شومسكي، تناولا فيها ما سمياه بـ «نظام إدارة المذابح»، حيث يتم تقييم استحقاق الضحايا للقتل والإبادة، والتعاطف أو عدم التعاطف معهم، بحسب هوية القتلة.

ووفقاً لنظام «إدارة المذابح»، هناك «قتلة» جيدون وخيرون، وهم الولايات المتحدة والدول الحليفة، ولذلك فإن أي شخص يقع ضحية لقاذفة قنابل أمريكية أو صاروخ كروز، هو بالضرورة من «سقط المتاع»، ولا يستحق أي اهتمام.

- **المصدر : صحيفة «الخليج» الاماراتية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2180634

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2180634 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40