السبت 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

القصة الكاملة لاغتيال عماد مغنية

السبت 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2010


- [**بقلم : ميخائيل بار - زوهر ونسيم مشعل*]

- [**الفصل العشرون من كتاب «الموساد : العمليات الكبرى»*]

[**نهاية عماد مغنية*]

في الثاني عشر من شباط 2008 - بحسب تقارير في البلاد والخارج - انتشر عدد من الاشخاص حول مبنى شقق فخم في احدى الضواحي الأفخم في دمشق. وقبيل المساء رأوا سيارة جيب فضية اللون من طراز ميتسوبشي باجيرو تقف قرب المبنى.

نزل منها شخص في حلة سوداء ذو لحية مهذبة ابتلعه المنزل. لم يكن مصحوباً بحراس. سارع العملاء الذين وقفوا في الشارع الى أن يبلغوا بأجهزة اتصالهم أن «الشخص» وصل دمشق وأتى الشقة.

قبل الساعة العاشرة مساء بقليل غادر الشخص الشقة وخرج من المبنى ودخل سيارة الجيب باجيرو الفضية اللون. كان متوجهاً الى لقاء عمل في شقة آمنة خفية، تقع في حي كفر سوسة، حيث اعتاد هذا الشخص عقد لقاءاته مع مندوبين ايرانيين وسوريين وفلسطينيين.

أمسك المتعقبون كما أبلغت صحيفة «صاندي اكسبرس» هواتف محمولة في أيديهم في حين كان على الشاشة صورة حديثة للشخص وذلك للاستيقان فوق كل شك من أن الحديث عنه لا عن شخص آخر. وقد أبلغوا طول الوقت قيادة «الموساد» ما يحدث.

عندما ترك البيت الذي مكث فيه، لحظه المتعقبون وعرفوه بيقين اعتمادا على الصور الحديثة التي كانت معهم. وسارعوا الى ابلاغ رفاقهم ومقر القيادة في «تل أبيب»، ذلك. دخل الجميع في استعداد للتنفيذ. اجتمع رؤوس «الموساد» الذين كانوا في توتر عظيم في غرفة مئير دغان ليتابعوا من قريب التطورات. شغل الرجل سيارة جيب الميتسوبيشي باجيرو الفضية اللون..

«إنه في الطريق»، همس أحد المتعقبين في جهاز الاتصال.

كان الرجل في سيارة الباجيرو الفضية اللون بحسب قول صحفيين بريطانيين هو عماد مغنية.

وصفت تقارير واسعة في البلاد وفي العالم وتحليلات تأويل استخبارية في الغرب خيط الدماء الذي خلفه وراءه، ويومه الأخير فوق الأرض.

♦♦♦♦

[**15 تشرين الثاني 2001*]

على أثر عملية التفجير في برجي التوأمين، نشرت الـ «اف بي أي» ملصقة ضخمة فيها قائمة «الارهابيين المطلوبين أكثر من غيرهم في العالم».

توج الملصقة شعارات الـ «اف بي أي»، ووزارة الخارجية ووزارة العدل في الولايات المتحدة.

كان في القائمة 22 اسماً و 22 صورة.

في المحل الأول : الأخطر.

الجائزة على الامساك به : خمسة ملايين دولار.

اعتبر حتى العملية التفجيرية في برجي التوأمين المتهم بموت عدد من الأمريكيين في أنحاء العالم أكثر من كل مخرب آخر.

اسمه : عماد مغنية.

انسحبت قائمة عملياته وراء اسمه مثل خيط دم ودمار.

18 نيسان 1983 - تفجير سفارة الولايات المتحدة في بيروت - 63 قتيلاً.

23 تشرين الأول 1983 - تفجير قيادة قوات الانزال الامريكية في بيروت - 241 قتيلاً.

23 تشرين الأول 1983 - تفجير قيادة المظليين الفرنسيين في بيروت - 58 قتيلاً.

وغير ذلك - اختطاف وقتل رجل وكالة الاستخبارات المركزية ويليام باكلي، وسلسلة عمليات في سفارات الولايات المتحدة في الكويت، واختطاف طائرة ركاب لشركة TWA الأمريكية وطائرتين لشركة الطيران الكويتية، وقتل الكولونيل هيغينز من قوة مراقبي الأمم المتحدة في جنوب لبنان وذبح عشرة جنود أمريكيين في السعودية.

عندما وصلت هذه القائمة البلاد زاد عليها «الموساد» معطياته :

4 تشرين الثاني 1983 - تفجير قيادة الجيش «الاسرائيلي» في صور - 60 قتيلاً.

10 آذار 1985 - هجوم على قافلة للجيش «الاسرائيلي» قرب المطلة - 12 قتيلاً.

19 تشرين الاول 1988 - اصابة قافلة قادة للجيش «الاسرائيلي» قرب المطلة - 8 قتلى.

17 آذار 1992 - تفجير سفارة «اسرائيل» في الأرجنتين - 29 قتيلاً.

18 تموز 1994 - تفجير مبنى الطائفة اليهودية في بيونس ايرس - 86 قتيلاً.

وغير ذلك - اختطاف ثلاثة جنود في منطقة مزارع شبعا، واختطاف الحنان تننباوم، وعملية اطلاق نار قرب كيبوتس متسوفا، والحادثة الأهم - اختطاف الجنديين ريغف وغولدفاسر على حدود لبنان، الذي أشعل حرب لبنان الثانية.

وقف وراء كل ذلك شخص واحد، شخص خفي، تحرك وتنقل بين عواصم «الشرق الاوسط»، وهرب من المصورين ورفض اجراء مقابلات صحفية. صورت أجهزة الاستخبارات الغربية مغنية على أنه شبح، موجود وغير موجود. عرفت الكثير عن أفاعيله، ولم تكد تعرف شيئاً عن مظهره ، وعاداته أو مكان وجوده. كان معلوماً أنه ولد في سنة 1962، في احدى قرى جنوب لبنان، (ثمة من قالوا إن القرية هي طير دبا، وعرض آخرون معلومات مختلفة). على حسب المعلومات المقطعة كان والداه شيعيين متطرفين؛ وانتقل الى بيروت في سن صغيرة ونشأ في حي فقير بجوار الفلسطينيين، وناس منظمة التحرير الفلسطينية، وترك دراسته الثانوية وانضم الى «فتح». قالوا فيه إنه كان الحارس الشخصي لأبي اياد، نائب عرفات، وجند لـ «القوة 17»، وهي وحدة أمن المنظمة، لكن عندما طردت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بعد حرب «سلامة الجليل» في 1982، فضل مغنية البقاء في بيروت وانضم الى النواة الأولى من مؤسسي «حزب الله».

فضل بكونه رجل ظلال حقيقياً أن يتواضع ولا يظهر على الملأ. كانت التقارير عنه مقطعة وغامضة. وصفه أحد التقارير بأنه الحارس الشخصي للشيخ فضل الله، زعيم «حزب الله» الروحي. وجعله تقرير آخر ضابط عمليات المنظمة، والدماغ وراء أجرأ العمليات التي انتهت الى الحصاد الدامي. وامتنع مغنية بخلاف زعيم «حزب الله» الحالي نصر الله من الظهور في التلفاز ولم يخطب خطباً تنطف كراهية؛ لكنه كان في واقع الأمر أخطر كثيراً من الشيخ «الثرثار». لقد ارتفع الى رتبة أكبر «الارهابيين» المتملصين في العالم مثل كارلوس في حينه، ومثل نظيره ومجله الكبير اسامة بن لادن.

كان عماد مغنية «ارهابياً» قاسياً مبدعاً. التمع نجمه عندما خطط وتولى قيادة سلسلة عمليات القتل الجماعي في لبنان في آواخر الحرب. كان في سن الواحدة والعشرين فقط في ذلك اليوم من تشرين الأول، عندما أرسل شاحنات مليئة بالمواد المتفجرة يقودها «مخربون» منتحرون، الى قيادتي قوات الانزال الامريكية والمظليين الفرنسيين في بيروت؛ وبعد بضعة أيام من ذلك وجه الضربة نفسها الى مقر قيادة الجيش «الاسرائيلي» في صور. وفي سن الثانية والعشرين قاد مجموعة من «المخربين» الى المبنى الحصين لسفارة الولايات المتحدة في الكويت، وبعد ذلك اختطف هناك طائرته الأولى. بعد كل واحد من عملياته هرب من المكان وكأن الأرض ابتلعته. في سن الثالثة والعشرين اختطف مغنية طائرة TWA في الطريق من أثينا الى روما وأجبر طيارها على الهبوط في مطار بيروت. في أثناء الاختطاف قتل غواص الأسطول، روبرت دين ستاتهام، وطرح جثته من نافذة غرفة الطيار. هرب مغنية بعد عملية الاختطاف التي امتدت 17 يوماً (!)، لكنه ترك وراءه هذه المرة بطاقة زيارة : بصماته في مرحاض الطائرة.

لم يكد يعلم شيء عن حياته الخاصة، سوى زواجه من ابنة عمته التي ولدت له بنتاً وولداً. شعر منذ سن صغيرة أنه مستهدف لعدة أجهزة استخبارات غربية، وحاول أن يخفي هويته. أجرى عمليات تجميلية غير ناجحة كثيرة في ليبيا، وأعفى لحيته وهرب من ضوء المصابيح. وصلت صورة واحدة لمغنية فقط - يضع نظارة وله لحية وسمين ويضع على رأسه قبعة ذات حفاف - الى أجهزة الاستخبارات الغربية. وكان وصفه ناقصاً أيضاً - فقد عرفته الـ «اف بي أي» بأنه «مولود في لبنان ويتحدث العربية، وله شعر ولحية بنيان، وطوله نحو من 170 سنتمتر ووزنه نحو من 60 كيلو غرام». يصعب أن نفهم كيف نجح جسم مغنية الكبير في التقلص في جسم عارض أزياء وزنه 60 كيلوغرام... لكن الوصف برهن مرة أخرى على أن مغنية أخفى نفسه جيداً ونجح في تضليل جميع مطارديه.

حاول هؤلاء مرة بعد أخرى وقفه لكنهم لم ينجحوا.

بعد جميع العمليات والاختطافات التي نفذها، أصبح شخصية جليلة في «حزب الله». وضعوا فوق رأسه تيجان الاحكام، والشجاعة والقدرات التنفيذية، التي جعلت الذراع العسكرية في المنظمة رعب المنظمات الاستخبارية في العالم. وكلما ازدادت قوته أصبح هدفاً ساخناً لاغتيال «اسرائيل» والغرب. وقد أصبح مغنية الذي أدرك ذلك مريضاً بالشعور بالمطاردة يحيا في هرب دائم، ويشك في الجميع وفيهم مساعدوه القريبون، ويبدل في أحيان كثيرة حراسه الشخصيين، وينام كل ليلة في مكان مختلف؛ وكانت أسفاره على محور بيروت - طهران - دمشق سراً خفياً.

كان مغنية، بحسب الصورة التي بنوها له في «الموساد» والمنظمات الاستخبارية في العالم، شخصاً وحيداً، قوي الحضور، ذا علم كبير بوسائل «الارهاب» الالكترونية، وذا دافعية كبيرة؛ وقد عرف بأنه شخص ذو ردود غير متوقعة؛ وكانت له القدرة على تبديل الشخصيات والهويات، وهو ما مكنه من الهرب مرة بعد اخرى من الباحثين عن نفسه. وجده متعقبوه يستحق صفة ««الارهابي» ذي الارواح التسعة».

قال دافيد بركاي، من قادة الوحدة 405 في «أمان» والذي كان المسؤول عن بناء ملف صورة مغنية، قال في مقابلة صحفية مع الصحيفة البريطانية «صاندي تايمز»، «جمعنا معلومات كثيرة عن مغنية لكننا كلما تقدمنا في عمل الجمع أصبح عندنا معلومات أقل؛ لأننا لم ننجح في أن نجد عنده نقط ضعف - كالنساء والمخدرات والمال».

استمر تضييق الخناق عليه سنين كثيرة. ففي سنة 1988 كادت تعتقله السلطات الفرنسية، عندما هبطت طائرته هبوطاً مرحلياً في باريس. كانت عند الفرنسيين معلومات زودتهم بها وكالة الاستخبارات المركزية، وفيها صورته وتفاصيل عن جواز سفره المزيف الذي استعمله. لكن الفرنسيين خشوا أن يفضي اعتقاله الى قتل الرهائن الفرنسيين الذين احتجزوا آنذاك في لبنان، ولذلك فضلوا التجاهل وتمكينه من متابعة رحلته. حاولت أجهزة الاستخبارات الأمريكية اعتقاله في أوروبا في 1986 وفي العربية السعودية في 1995 لكنه هرب من أيديها كما كانت الحال دائماً.

في تلك السنين شغل مغنية شغلاً كثيفاً بالتخطيط والتنفيذ لعمليات في «الاسرائيليين» واليهود في الارجنتين. ففي سنة 1988 أشرف على تفجير شاحنة مفخخة قادها منتحر، قرب سفارة «اسرائيل» في بونيس ايرس. وقتل 29 شخصاً. ربط عدد من رؤساء أجهزة الأمن العملية بـ «حزب الله» على الفور. واعتقدوا أنها عملية انتقام لاغتيال الشيخ موسوي بهجوم مروحيات الجيش «الاسرائيلي» في جنوب لبنان. بعد مرور سنتين - وقعت مرة أخرى عملية في المركز الجماهيري لليهود في بوينس ايرس. خلفت العملية 86 قتيلاً. وكان هذه المرة من اعتقدوا أن هذه عملية انتقام «حزب الله»، وهي هذه المرة لاختطاف الشيخ مصطفى الديراني. خلصت فرق استخبارات من «اسرائيل» والولايات المتحدة أتت بوينس ايرس لتحقيق العمليات الى استنتاج وجود علاقة واضحة بينهما. فقد كانت طريقة العملية متماثلة - وهي ملء شاحنة بالمواد المتفجرة يقودها منتحر الى قرب المباني حيث تنفجر. وكانت هذه بالضبط الطريقة التي استعملها مغنية في بيروت وفي صور في بدء طريقه. تبين أيضاً أن الاستخبارات الايرانية ومتعاونين محليين شاركوا في العملية. كانت شاحنة من الشاحنات على الأقل تلك التي استعملت في العملية على السفارة، قد باعها منفذي العملية تاجر سيارات شيعي اسمه كارلوس طل الدين، عمل في بوينس ايرس. وقادت الآثار بوضوح الى عماد مغنية.

في تلك السنين، وبحسب مصادر ما، مكث مغنية فترات طويلة في ايران؛ فقد خاف بعد اغتيال الشيخ موسوي أن تحاول «اسرائيل» المس به. أنشأ مغنية في هذه الفترة في طهران وحدة عمليات مشتركة بين «حزب الله» والاستخبارات الايرانية. كان قائد الحرس الثوري، محسن رضا، ووزير الاستخبارات، علي فلحيان، شريكي مغنية في انشاء الوحدة واستعمالها. يبدو أنها كانت نواة العملية في بوينس ايرس. كانت للعمليتين القاتلتين في الأرجنتين نتيجة واحدة هي أن مغنية أصبح المطلوب الأول لـ «اسرائيل». وقد حكم على نفسه بأعماله بالموت، لكن كان يحتاج الى زمن طويل حتى ينفذ الحكم.

في كانون الأول 1994 تم الكشف عن مغنية في لبنان، وفي غضون زمن قصير تمت محاولة لاغتياله بوساطة سيارة مفخخة جنوب بيروت. سارعت شرطة لبنان الى نشر نتائجها : ركبت الشحنة المتفجرة تحت السيارة التي وقفت قرب المسجد الذي خطب فيه الشيخ فضل الله. سبب الانفجار هدم حانوت فؤاد مغنية، شقيق عماد ووجدت جثته بين الانقاض. لكن مغنية الذي كان يفترض أن يكون في الحانوت لم يأت المكان وهكذا بقي في قيد الحياة. أنقذته مرة أخرى «أرواحه التسعة».

بعد زمن قصير من التفجير اعتقلت سلطات الأمن اللبنانية بالتعاون مع «حزب الله» عدداً من المواطنين اللبنانيين بشبهة أنهم كانوا عملاء «للموساد» وأنهم هم الذين وقفوا من وراء العملية. كان على رأسهم رجل اسمه أحمد خالق. ورد في اعلان رسمي أن «خالق وزوجته وقفا سيارتهما قرب حانوت فؤاد مغنية، ودخلا خالق الحانوت للتأكد من أن مغنية موجود فيها، وصافحه وعاد الى السيارة وشغل القنبلة». اقتبست الصحيفة اللبنانية «السفير» من مصادر مطلعة قالت إن أحمد خالق شارك في لقاء تم في قبرص مع ضابط رفيع المستوى من «الموساد»، أعطاه أوامر الاستعمال ونحواً من مائة ألف دولار من أجل تنفيذ العمل.

نجا مغنية هذه المرة. لكن عملاء «الموساد» لم يكفوا. فقد جمعوا بعمل دؤوب تفصيلا الى تفصيل، وقارنوا بين ما بثته أجهزة الاستخبارات الأجنبية مع أنماط طرائق العمل. في 2002 أتت مرة أخرى تقارير عنه وصفت هذه المرة بعثة خمسين طناً من السلاح نقلها مغنية الى «مخربين» فلسطينيين. لكن الأنباء قدمت واختفى مغنية مرة أخرى. أصبح مغنية في السنين الأخيرة شبه رئيس هيئة أركان أعلى لـ «حزب الله»؛ ورآه كثيرون في المنظمة وريثاً لنصر الله. كان جل صلته العملياتية بالاستخبارات الايرانية، وعمل خاصة مع لواء «القدس» من الحرس الثوري، الذي كان مسؤولاً عن العلاقة بالجماعات الشيعية في أنحاء العالم وبمنظمات «ارهابية» تستعملها ايران. استمر مغنية مع لواء «القدس» على تخطيط عمليات وتنفيذها في أهداف «اسرائيلية» في أنحاء العالم وفي «اسرائيل» بطبيعة الأمر. اقتضته مكانته الرفيعة أن يأخذ بوسائل حذر مفرطة. وعادت اشاعات عنيدة وزعمت أنه غير مظهره الخارجي مرة أخرى كما واستعان بعملية جراحية تجميلية مرة أخرى.

على حسب نشرات أجنبية، جند «الموساد» لصفوفه عند انقضاء حرب لبنان الثانية فلسطينيين يعارضون «حزب الله» داخل لبنان. كان لأحدهم ابنة أخت في قرية مولد مغنية. قالت لعميل جند إن مغنية سافر الى أوروبا وعاد الى لبنان مع وجه مختلف تماماً.

وهكذا أقيم أمام عملاء «الموساد» هدف غير عادي - معاهد الجراحات التجميلية... بدأ مبعوثو «الموساد» يفحصون عن امكان أن مغنية أجريت عليه العمليات في احدى الدول الاوروبية.

بدأ شق الطريق في مكان بعيد : في برلين عاصمة المانيا. على حسب ما قال الصحفي - الباحث البريطاني غوردون توماس، التقى العميل - الساكن من «الموساد»، الذي كان لقبه رؤوبين، مع مبلغ الماني كان ذا علاقات خفية في برلين الشرقية. كشف له ذلك المبلغ عن أن عماد مغنية أجريت عليه قبل زمن غير بعيد سلسلة جراحات تجميلية غيرت مظهره الخارجي تماماً. أجريت العمليات في مختبر كان تابعاً في الماضي لوكالة الاستخبارات الالمانية الشرقية «شتازي»؛ واستعملت المخابرات الالمانية الشرقية المختبر لتغيير مظهر وجوه العملاء و«الارهابيين» الذين أرسلوا لمهام في الغرب.

بعد تباحث، وفحص عن الملف، وافق رؤوبين على دفع مبلغ مالي كبير الى المصدر الالماني؛ وعوض ذلك نقل اليه محادثه ملفاً فيه 34 صورة حديثة لمغنية.

تبين من سلسلة الصور هذه أن مغنية أجريت عليه جراحات تجميلية، عندما قطع الحنك الأسفل بحرفية وغرس عظم أخذ منه فيه كي يمنحه وجنة أضيق، وهو الأمر الذي أعطى وجهه مظهراً هزيلاً أسيلاً، لم يكن كذلك في الماضي. وأزيلت بعض أسنانه الأمامية من فمه وغرست بدلاً منها أسنان ذات صورة أخرى. كذلك حصلت العينان على علاج عندما شكلت من جديد بشد الجلد. ومن أجل اكمال مظهره الجديد صبغ شعره بصبغة رمادية، وبدل النظارة ركب عدسات لاصقة. كان واضحاً الآن ان مغنية لا يشبه البتة «المصدر» وأن جميع الصور القديمة التي كانت مع المنظمات الاستخبارية الغربية من الثمانينيات لم تعد ذات صلة.

بدأ «الموساد» مع الصور الجديدة التي حصل عليها، على حسب مصادر أجنبية، يخطط لعملية اغتيال مغنية. جمع رئيس «الموساد» أفضل رجاله وفيهم رئيس شعبة «قيسارية»، وقائد وحدة «كيدون» وخبراء آخرين عملوا في «ملف مغنية». تبين بالتدريج أنه لا يوجد أي امكان للمس به في بلد غير اسلامي. فقد أقل السفر الى الدول الغربية وشعر بالآمان نسبياً في ايران وسورية فقط. كان واضحاً «للاسرائيليين» أن هاتين بلدان معاديتان متطرفتان، وأن كل عملية هناك سيصحبها خطر على الحياة. عملت «اسرائيل» في الماضي حقاً في بلدان عربية ونفذت عمليات في بيروت عندما اغتالت على نحو منهجي قادة «ايلول الأسود»؛ وأبعد مبعوثوها أيضاً الى تونس، حيث اغتالوا أبا جهاد كما زعم. لكن طهران ودمشق كانتا شكاكتين، ومحميتين وأكثر خطراً من بيروت أو تونس. مع ذلك أدرك رئيس «الموساد» مئير دغان المعنى العظيم الذي سيكون لعملية ناجحة لمبعوثيه في قلب عاصمة مثل دمشق. سيكون هذا برهاناً على أنه لا أحد يستطيع الفرار من يد «الموساد» الطويلة؛ وسيزرع قتل ارهابي كبير في دمشق التي هي حصن وملجأ أعداء «اسرائيل»، الخوف والبلابل وعدم الأمن بين جميع قادة المنظمات «الارهابية». فاذا لم يكونوا آمنين في دمشق فأين يكونون كذلك؟

كانت الفكرة التي صيغت في المباحثات في قيادة «الموساد»، بحسب صحيفة «اندبندنت» البريطانية، هي استغلال امكان أن يصل مغنية دمشق للمشاركة في مراسم الذكرى السنوية للثورة في ايران التي تبدأ في الثاني عشر من شباط واغتياله آنذاك.

مع انقضاء سلسلة من الفحوص المتشددة والمشاورات استقر الرأي على أن يتم الاغتيال بوساطة سيارة مفخخة تلصق بسيارة مغنية. بدأ الآن سباق استخباري مجنون للحصول على كل معلومة ممكنة من جميع الجهات التي «للموساد» علاقة بها وفيها وكالات استخبارات أجنبية للفحص عن أنه هل يأتي دمشق حقاً؟ واذا كان كذلك فمع أية هوية؟ وفي أية سيارة؟ وأين سينزل؟ ومن سيصحبه؟ وفي أي ساعة سيأتي اللقاء المخطط له مع المندوبين الايرانيين والسوريين؟ وهل أبلغت سلطات الأمن السورية مقدمه؟ وهل علم أحد من قيادة «حزب الله» بسفره المرتقب؟ وتفصيلات أخرى تكمل هذه المجموعة المعقدة.

أتت المعلومة التي رجحت كفة عملية الاغتيال من مصدر شديد الصدق، أكد أن مغنية ينوي الشخوص الى دمشق حقاً. انضاف الى هذه المعلومة تفاصيل حديثة أخرى جمعت من عناصر مختلفة في بيروت وفيها كما أبلغت الصحيفة اللبنانية «البلد»، معلومة وصلت «الموساد» بأجهزة تحديد موقع ركبت في سيارات قادة «حزب الله» وفيهم مغنية؛ وزودت هذه الأجهزة بمعلومات مفصلة عن حركاتهم.

دخل الجهاز العمل. بلغ الفرقاء المختلفون دمشق بطرق ملتوية - تجميع معلومات استخبارية واستئجار سيارات وشقق سرية، ومراقبين والفريق الذي سيدخل مواد متفجرة في دمشق لتنفيذ العملية.

في اللحظة الأخيرة أتت معلومة مفاجئة أخرى : فقد نقل مصدر صادق أن عماد مغنية اعتاد أن يلتقي في كل مرة يأتي فيها دمشق زوجته. سمع عملاء «الموساد» أول مرة أن مغنية له قصة حب سرية. كانت المرأة الحسناء ابنة الثلاثين تسمى نهاد حيدر، وقد انتظرته في شقة في حي فخم في العاصمة السورية. عرفت نهاد جيداً مواعيد وصول مغنية دمشق من بيروت او من طهران، واعتاد أن يجيء شقة غرامه وحده بلا حرس وبلا سائقه الشخصي.

تلقى فرقاء التعقب من الفور أمراً باستيضاح هل سيزور مغنية زوجته هذه المرة وهل يعلم صاحب الشقة الذي بذل له «عش الغراب» بمقدمه المخطط له.

قبل اسبوع من العملية وصل دمشق ناس فريق التنفيذ. طاروا الى العاصمة السورية في رحلات مستقلة من مدن اوروبية مختلفة. كان في فريق الاغتيال على حسب صحيفة «اندبندنت» ثلاثة عملاء : طار أحدهم من باريس مع شركة الطيران الفرنسية، وأقلع الثاني من ميلانو في ايطاليا، وأتى الثالث من عمّان في رحلة شركة الطيران الاردنية. وذكرت الـ «اندبندنت» أيضاً اسماء العملاء الشخصية، لكن يبدو ان الكاتب كشف عنها في ذهنه المحموم لا في مصدر معلومات صادق. جاز العملاء الثلاثة فحص جوازات السفر دون صعوبة وتوجهوا الى دمشق، الى مكان لقاء متفق عليه مع مساعدين من بيروت. قادهم هؤلاء الى مكان سري، حيث انتظرتهم سيارة مستأجرة ومعها مواد متفجرة اشتملت على نحو من ثلاثة آلاف كرة معدنية.

أتى عملاء «الموساد» الثلاثة دمشق تحت غطاء خبراء سيارات وسياحة أتوا في عطلة. خلوا داخل مرآب استأجره المساعدون من أجلهم وأعدوا هناك الشحنة، التي أخفيت داخل جهاز مذياع سيركبونه من الغد في السيارة التي ستنتظر مقدم مغنية. بخلاف ما نشر، لم يخف العملاء الشحنة في متكأ كرسي سيارة مغنية بل داخل سيارة مستأجرة وقفت في المسار الذي تحرك فيه أكبر «المخربين».

انتظر فريق آخر من العملاء وصل دمشق، وصول مغنية من بيروت. كانت مهمته تعقبه وانتظار خروجه من موعده مع زوجته، وأن يبلغ عن مسار سفره الى اللقاء الذي خطط لأن يتم في شقة محروسة في حي كفر سوسة، مع مندوبين ايرانيين فيهم السفير الجديد.

في ذلك المساء كان يوشك أن يجرى في المركز الثقافي الايراني، القريب من الشقة الآمنة مراسم احتفالية؛ لكن مغنية لم ينو المشاركة فيها بل أن يجري لقاء عمل قرب مكان الاحتفال وأن يترك المكان.

يتبين لكل من يحقق قضية القتل أنه لم يكن من الممكن تنفيذ العملية من غير مساعدين محليين. وبعد نصف سنة من العملية، في تشرين الثاني 2008 تحدثت الصحيفة اللبنانية «السفير» عن اعتقال شبكة تجسس لبنانية. كشفت الصحيفة عن أن أحد المعتقلين، وهو علي جراح ابن الخمسين، الذي سكن البقاع اللبناني، قد عمل من أجل «الموساد» مدة عشرين سنة، في مقابلة أجرة شهرية تبلغ 7 آلاف دولار. على حسب الشبهة زار جراح سورية مراراً كثيرة، وفي شهر شباط 2008 قبل أيام معدودة من العملية سافر للتجوال في دمشق في حي أوشك مغنية أن يزوره. ضبط في حوزة جراح معدات تصوير متطورة، اشتملت أيضاً على جهاز تصوير فيديو وجهاز «جي بي اس» أخفيت جيداً في سيارته. اعترف في أثناء التحقيق معه بأن مستعمليه أرسلوه للمراقبة والتصوير وجمع كل معلومة صغيرة عن الحي الذي كان يفترض ان يصله مغنية وفي ذلك الشقة التي التقى فيها زوجته.

في يوم العملية استكملت الاعدادات الاخيرة. انتشر المراقبون حول المبنى. وقبيل المساء أبلغوا وصول مغنية شقة نهاد - وبشروا في الليل بأنه خرج في طريقه. وأملوا أن تكون هذه طريقه الأخيرة.

قطعت سيارة الجيب دمشق وبلغت حياً كان يفترض أن يتم فيه لقاؤه مع الايرانيين والسوريين. لزمه فريق التعقب واستمر على ابلاغ القيادة ذلك. كانت السيارة المفخخة قد أصبحت معدة للاستعمال. وكان يفترض أن تعطى الاشارة من بعد كبير بوسائل الكترونية محكمة. ترك العملاء الذين وقفوا السيارة المفخخة قرب البيت الذي أوشك مغنية أن يصله، المنطقة منذ زمن واتجهوا الى المطار.

تعقبت الوسائل الالكترونية سيارة الجيب الفضية اللون. نزل منها شخص ذو لحية مهذبة يلبس حلة سوداء هو مغنية.

آنذاك، في حوالي الساعة العاشرة ليلاً سمع صوت انفجار قوي في حي كفر سوسة، غير بعيد عن مدرسة ايرانية وقرب حديقة عامة. في اللحظة التي خرج فيها مغنية بالضبط من سيارته الجيب انفجرت السيارة المفخخة.

انتهت سنوات مطاردة في ليل الثاني عشر من شباط 2008.

أنكرت «اسرائيل» كل صلة بالقتل، لكن «حزب الله» سارع الى اتهام «الاسرائيليين» الصهاينة بقتل «بطل الجهاد المتوج بالانجازات والذي قتل شهيداً».

ظن متحدث وزارة الخارجية الامريكية شون مكورمك ظناً مختلفاً. فقد وصف مغنية بأنه «قاتل ذو دم بارد، متهم بقتل جموع و«ارهابي» كان مسؤولاً عما لا يحصى من حوادث الموت».

بل ان مكورمك لخص كلامه بلغة واضحة قائلاً : «العالم مكان أفضل من غيره».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 37 / 2178056

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع خبايا وأسرار   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178056 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40