السبت 18 أيلول (سبتمبر) 2010

مفاوضات قابلة للحياة ولا دولة

السبت 18 أيلول (سبتمبر) 2010 par د. عصام نعمان

يمكن اعتبار المفاوضات المباشرة بين «إسرائيل» و«السلطة الفلسطينية» والمصطلحات الدبلوماسية المستخدمة فيها مثالاً (وتمريناً) بارزاً في أسلوب «الغموض البنّاء». ذلك أن الأهداف والمفاهيم والمطالب التي يطرحها الطرفان تبدو على درجة عالية من التناقض، ما يتطلّب استخدام لغة خاصة في التعبير عنها. لماذا؟ لأن الطرفين محكومان بضرورة متابعة المفاوضات لأسباب ذاتية وموضوعية تتعلّق بكلٍ منهما، كما براعيها الأمريكي باراك أوباما.

نتنياهو يهمه، بالدرجة الأولى، ثلاثة مطالب : أولها، أمن «إسرائيل». وهو مطلب غامض لا تسمح «إسرائيل» إلا لنفسها بتحديد شروطه ومتطلباته وحدوده ومداه. ثانيها، يهودية الدولة وهو مطلب غامض آخر يحتمل تفسيرات عدة، لعل أخطرها أن تكون الدولة الصهيونية يهودية بهويتها القومية والدينية، وبأكثرية سكانها، وبسيطرة هؤلاء على مقاليد السلطة فيها، وبحقهم تالياً في أن يحافظوا على هذه «الحقوق» حتى لو تطلّب ذلك ترحيل السكان العرب إلى خارجها. ثالثها، تسليم الفلسطينيين بإعلان نهاية للنزاع في مقابل توقيع «اتفاق سلام شامل» يمتنع عليهم بعده المطالبة بأي حقوق من أي نوع كان.

«السلطة» تهمها، بالدرجة الأولى، ثلاثة مطالب : أولها تثبيت مرجعية المفاوضات المتمثلة بقرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية و«خريطة الطريق» كما تبنتها اللجنة الدولية الرباعية. ثانيها، وقف الاستيطان ومباشرة المحادثات بقضية حدود الدولة الفلسطينية. وثالثها، رفض يهودية الدولة لضمان حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم.

أوباما يهمه استمرار المفاوضات مهما كانت العقبات. كل شيء في نظره يجب أن يكون قابلاً للتفاوض، والطرفان محكوم عليهما التوصل ذاتياً إلى اتفاق يشمل جميع جوانب «النزاع»، لأن الولايات المتحدة «لا تستطيع ولا تريد فرض أي حل أو تسوية على الطرفين».

لمعالجة التناقضات الصارخة في المطالب، يلجأ الطرفان، برعاية متواصلة من واشنطن، إلى اعتماد أسلوب الغموض البنّاء في صوغ المطالب، وتوقيت بحثها، وعدم إحراج أحد الطرفين للآخر في الشكل من دون المساس بما يعتبره كل منهما حقاً في المضمون غير قابل للتصرف.

في سياق هذا الأسلوب الدقيق والطريف، يقع المراقب والمتتبع لجولات المفاوضات على مقاربات ومفارقات وصياغات لافتة. فعبارة «يهودية الدولة» يجري تلطيفها بإضافة كلمة «ديمقراطية»، فتصبح العبارة المعتمدة «الدولة الديمقراطية اليهودية» للإيحاء بأن اعتماد الديمقراطية من شأنه صون حقوق الأقليات، ومنها «الأقلية» الفلسطينية.

مطلب وقف الاستيطان يجري التحايل عليه بالتفريق بين البناء في الكتل الاستيطانية والبناء في المستوطنات «العشوائية». كما يجري التفريق بين البناء في أحياء القدس اليهودية وأحياء القدس العربية، فيقال على سبيل المثال إن البناء سينحصر في الكتل الاستيطانية الكبرى من دون أي توسع خلال المفاوضات، ويُمنع في المستوطنات «العشوائية» خارجها، أي في سائر أراضي الضفة الغربية. كذلك يقتصر البناء على أحياء القدس اليهودية ويُمنع خلال المفاوضات في أحياء القدس العربية.

إلى ذلك، يجري تسويق هذه الترتيبات بطائفة من التبريرات، كأن يقال : إن استئناف البناء سيكون محدوداً وذلك بالحجم الذي كان متّبعاً خلال عهد رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت، فلا يتجاوز 1500 إلى 1700 وحدة سكنية سنوياً في كل أنحاء المناطق المحتلة، بحيث يكون 80 في المئة إلى 90 في المئة منها في الكتل الاستيطانية الكبرى.

هذه التخريجات والتلفيقات لا تنطلي على المتتبعين وأهل الاختصاص لدى الطرفين على السواء. ها هي حركة «السلام الآن» اليهودية المناهضة للاستيطان تحذر، عشية افتتاح المفاوضات في شرم الشيخ، من أنه «في حال لم يتمّ تمديد تجميد البناء، فإن المستوطنين يمكنهم بناء نحو 13 ألف مسكن من دون أن يتطلب ذلك موافقة إضافية من الحكومة. هذا بالإضافة إلى 25 ألف وحدة سكنية أخرى تمّ التخطيط لها، لكن بناءها يتطلب موافقة حكومية».

يتحصل مما تقدّم بيانه أن ما يهم واشنطن، ولاسيما أوباما تحديداً، هو قيام مفاوضات، لا دولة، قابلة للحياة، أي مفاوضات قابلة للاستمرار إلى ما تشاء «إسرائيل». المفاوضات مطلوبة لذاتها لأنها النهج الأفعل، على ما يبدو، لتنفيس الاحتقان وإزالة التوتر وإيهام الفلسطينيين بأن ثمة أملاً بأن ينالوا شيئاً معقولاً بعد طول معاناة.

نتنياهو سيحاول إرضاء الأمريكيين من دون إغضاب شركائه اليمينيين في الحكومة. في هذا السياق، سيقدم من التسهيلات ما يجعل المفاوضات قابلة للحياة مع الإصرار على يهودية دولةٍ لا تقبل في الواقع يحياةٍ لغيرها بين النهر والبحر. «السلطة» لم يبقَ في جعبتها شيء غير المفاوضات. فقد أصبحت لها بمثابة مسوّغ وجود. ستحرص دائماً على الظهور بمظهر المتصلب في القضايا الأساسية من دون أن تسد الطريق على الراعي الأمريكي الحريص بدوره على بقاء عجلة المفاوضات سائرة دونما توقف.

ماذا لو تسببت «إسرائيل» بتعطيل المفاوضات؟

يتردد أن «رئيس السلطة» سيستأذن بالانصراف، وأن حركة «فتح» التي غضّت النظر عن قمع نشاط حركات المقاومة في الضفة الغربية لم يبقَ لديها إلا رفع شعار الدولة الديمقراطية الواحدة لليهود والفلسطينيين معاً.

لكن هيهات أن تقبل «إسرائيل» بهذا الخيار. فهو كفيل بجعل كيانها، بفعل التكاثر الديمغرافي الفلسطيني، دولة غير قابلة للحياة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2165400

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165400 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010