الأربعاء 5 أيار (مايو) 2010

نقاش في التاريخ مع أوباما

الأربعاء 5 أيار (مايو) 2010 par منير شفيق

باراك أوباما الرئيس الأميركي في أساس تخصّصه المعرفي دراسته للقانون. وهو اختصاص يعلّم المبادئ الأوليّة لإقامة الدعوى مرتكزاً إلى قانون البيّنات. وقانون البيّنات هو الأقرب إلى العلم في ما بين مختلف المجالات التي تتناولها دراسة القانون. فلا دعوى من دون بيّنة تقوم على وقائع لا تُدحَض، أو لا تحتمل الشبهة. لأن الشبهة تضعف البيّنة فتسقط الدعوى.
هذا يعني أن باراك أوباما لديه البيّنة حين قال في رسالة التهنئة لكل من نتنياهو وبيريز “إن أرض فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”. والبيّنة هنا تستند، كما يفترض بها، إلى التاريخ والوقائع التاريخية التي لا تُدحَض، أو لا شبهة فيها أو عليها.

فأوباما أصبح بقدرة قادر رجل تاريخ إلى جانب كونه رجل قانون، طبعاً إلى جانب منصبه الحالي رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. وطبعاً، كذلك، لا ضير لو قال لنا ما هو مرجعه التاريخي. وما بيّنته التاريخية بأن فلسطين في التاريخ كانت “الوطن التاريخي للشعب اليهودي”.

بالتأكيد ليس عنده مرجع تاريخي مُعتبَر، ولا حتى غير مُعتبَر. وليس عنده بيّنة قابلة للتصديق لتقوم عليها دعوى. فالرأي هنا قفزة في الهواء لم يجرؤ الفكر الصهيوني على مثلها في تقديم دعواه للسيطرة على فلسطين وطرد أهلها الذين سكنوها، بصورة متواصلة، عبر آلاف السنين. لأن الفكر الصهيوني اعتمد ما أسماه “الوعد الإلهي” أو “الوعد التوراتي” بإعطاء أرض فلسطين لليهود. وليس على سكناها من قِبَل الشعب اليهودي تاريخياً أو طوال تاريخ يمتدّ آلاف السنين حتى يصبح تاريخياً. أما العبور على أرض وسكناها بضع مئات من السنين قبل ألفي عام أو ثلاثة آلاف عام، وكان فيها أقوام وغيرهم فلا يسمح بالقول إنها كانت وطنهم التاريخي من جهة، ولا يسمح لمن جاء بعد ألفي عام من الغياب عنها، من جهة أخرى، لادّعائها وطناً تاريخياً لهم. فهؤلاء المنحدرون من قبائل الخزر التي تهوّدت وانتشرت في أوروبا ليسوا الذين مرّوا بفلسطين يوماً. ويا للهول لو احتكموا إلى الـ “دي.إن.إي” إذا لم يريدوا الاحتكام إلى وقائع التاريخ أو ما تقوله الآثار في فلسطين. ودعك من تاريخها المؤكد منذ 1400 عام، في الأقل، حيث لا تجد غير العرب فيها. وكان العرب من سكانها مع غيرهم قبل ذلك بآلاف السنين.

ومن ثم ما علاقة التاريخ بحق شعب في وطن من وجهة نظر القانون الدولي، وأوباما، في الأدنى، يعرف أن القانون الدولي يعطي الحق الحصري في تقرير مصير المستعمرات للشعوب التي كانت تسكنها يوم وقوع الاستعمار الحديث في القرنيْن التاسع عشر والعشرين أو في الأصحّ في القرن العشرين. وفلسطين وقعت تحت الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى وكانت الغالبية الساحقة من سكانها من العرب مسلمين ومسيحيين.

فمن أين جاء أوباما بنظرية “الوطن التاريخي” للشعب اليهودي ليقيم عليه نظرية حق في فلسطين؟ ثم ماذا لو قبلنا بهذه النظرية وسألناه: هذه الولايات المتحدة الأميركية كانت “وطناً تاريخياً” لمن؟ لأي شعب من الشعوب؟ هنا ستحمر أُذنا أوباما من دون أن يبدو عليهما الاحمرار. فهل يستطيع أن يعود إلى التاريخ قبل آلاف السنين لتحديد أوطان الشعوب؟ وماذا سيحدث للكثير من الأوطان عندئذ؟

أما فلسطين بالذات فستكون أقلّ الأوطان شكاً في الشعب الذي سكنها عبر التاريخ طوال آلاف السنين فهي عربية الوجه واليد واللسان، وآثاراً ووقائع تاريخية لا تحتمل الشبهة. أما ما تخللّ ذلك من أثر يوناني أو روماني مسيحي فورثته المسيحيون العرب باختلاف مذاهبهم. ومن كان يونانياً فقد أصبح عربياً طوعاً وخياراً عبر الزمن، وعليه قس.

أما هذا “الشعب” الذي يسمّونه “شعب إسرائيل من اليهود” فتاريخه حديث معروف الهجرة، ومن أين، فرداً فرداً، وأغلبه جاء بعد قيام الدولة عام 1948، وأغلب من قامت الدولة عليهم جاؤوا مهاجرين في مرحلة الإستعمار البريطاني لفلسطين بين 1918-1948، ومعروف تاريخ هجرتهم والشعوب التي وفدوا منها فرداً فرداً كذلك. هذا ويستطيع أوباما أن يسأل إذا شاء نتنياهو أو بيريز أو ليبرمان من أين جاء إلى فلسطين وأية لغة كان يتكلم قبل أن يتعلم العبرية؟

القصة هنا أكيدة من حيث كيفية تشكل “شعب” من مهاجرين جاؤوا بحماية حراب الانتداب البريطاني ثم أُقيمت لهم دولة بقرار من الدول الكبرى، وبقانون الغاب في الاستيلاء على فلسطين، بالقوة والمجازر وتهجير أهلوها العرب للحلول في بيوتهم واغتصاب مدنهم وقراهم.

والقصّة هنا أكيدة: كيف وحدّت ألسنتهم من خلال المعلم والترجمان، ووحّد مجتمعهم من خلال الجيش والدولة والمستوطنات والحروب والأيديولوجية. فمن أين جاءت نظرية “الوطن التاريخي للشعب اليهودي”. وقد انطبق عليهم قول المتنبي: (تجمّع فيه كلٌ لِسْنٍ وأمةٍ/ فما يفهم الحُداث إلاّ التراجم).

وبالمناسبة هل يجب أن نفهم من نظرية الوطن التاريخي أن الولايات المتحدة الأميركية ليست وطناً لليهودي الأميركي ما دام منتسباً لشعب وطنه التاريخي فلسطين؟ وهل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا ليست أوطاناً لمواطنيها اليهود الذين ينتسبون إلى شعب آخر غير أوطانها. فأوباما هنا في ورطة نظرية ومعرفية وقانونية وتاريخية وسياسية.

وكلمة أخيرة، عيب يا سيد أوباما أن تتحدّث عن فلسطين التاريخية وطناً تاريخياً للشعب اليهودي. وعيب أشدّ على فلسطيني أو عربي أو مسلم يُهروِل إليك ويرجو منك خيْراً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2165964

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165964 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010