السبت 19 أيار (مايو) 2018

في الصراع الفصائلي

السبت 19 أيار (مايو) 2018 par خيرالدين عبدالرحمن

- 1
تابعت بشغف منذ العاشرة من عمري معارك جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر ، ورحت أحلم بقيام جبهة التحرير الوطني الفلسطينية . كما شدتني أخبار عمليات مجموعات الفدائيين الفلسطينيين المنطلقة من غزة ضد الغزاة الصهاينة ، لكن طفولتي لم تمنعني من التطلع إلى ثورة أكبر وأوسع تشارك فيها كل تجمعات شعبنا في الوطن والمنافي . اطلعت صدفة على وريقات كتبها المرحوم والدي ، وإذ بي أجدها قد صارت بعد أسابيع نشرة داخلية مطبوعة باسم أحد التنظيمات الفدائية السرية التي راحت الهمسات تتداول أسماءها ونشاطاتها في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين والنصف الأول من ستينياته . وعندما أعلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 شابت أملي بها وحماسي لها شكوك بجدوى انتظار تحرير فلسطين عبر مؤسسة أنشأها مؤتمر للرؤساء والملوك العرب وربطها بجامعة الدول العربية . صحيح أن تبني الرئيس المصري جمال عبد الناصر لها قد أعطاها بعض الزخم ، لكن صراعات عبد الناصر آنذاك مع النظام السوري ومع ملكي السعودية والأردن والرئيس التونسي بورقيبة قد عززت شكوكي بجدواها ، بينما كانت متابعتي على مدى سنوات لمجلة (فلسطيننا) التي روجت لأهداف وأفكار ومبادئ حركة فتح قد جعلتني أنحاز لهذه الحركة قبل أن أتعرف إلى أي من أعضائها . وهكذا كتبت مقالة هاجمت فيها نهج وبيروقراطية منظمة التحرير ورئيسها المرحوم أحمد الشقيري ومن اختارهم لقيادتها ودعوت بالمقابل للبديل الثوري الذي تمثله حركة فتح . بعثت المقالة للمرحوم شفيق الحوت الذي كان مشرفاً على ملحق فلسطين الأسبوعي في صحيفة المحرر البيروتية ، فلم ينشرها وإنما بعث لي برسالة شخصية رقيقة ناشدني فيها الرفق بالمنظمة الوليدة والمتصدين لتأسيسها . قاطعت بعد شهور خطاب المرحوم أحمد المرعشي عندما أشاد بمنظمة التحرير في مهرجان بذكرى اغتصاب فلسطين يوم 15/5/1965 ووقفت هاتفاً : ( العاصفة طريق التحرير ) ! عندما وجدت أن هناك من رددوا الهتاف خلفي أعدته مراراً بحماس أكبر، وكان عدد من رددوه يتزايد كل مرة ، مما أثار حنق وامتعاض عجائز وجهاء النضال الصالوني الحاضرين ممن كانوا قد جعلوا أنفسهم مرشحين لتصدر المنظمة . لم ألبث أن فوجئت بعد أسابيع قليلة بزيارة المرحومين ياسر عرفات ويوسف عرابي وعيد اللحام الذين اقترحوا علي الالتزام بحركة فتح وكلفوني خطياً بأول مهمة لي في إطارها .
لم يمنعني التزامي بالحركة من القلق إزاء تفريخ عديد من التنظيمات ، بينما كنت أفرح كلما علمت أن أحد هذه التنظيمات قد اتحد مع حركة فتح ، إذ أنني كنت أوقن بالفطرة أن تعدد الحركات والفصائل سوف يبعثر جهود شعبنا ويكرس امتدادات عضوية لعدة أنظمة عربية حاكمة ويفاقم التأثيرات السلبية لتلك الأنظمة العربية المتصارعة فيما بينها على ثورتنا ، مما يبدد الكثير من قدراتنا وطاقاتنا التي يفترض أن نركزها جميعاً ضد العدو الصهيوني .
أقلقني كثيراً تزايد الانفلاش وتصاعد النرجسيات الفصائلية وشطط العديد من التنظيمات التي توالدت كالفطر في الأردن بعد معركة الكرامة في آذار 1968 . لا أنكر أنني عشت صراعاً داخلياً في السنوات اللاحقة بين دغدغة مقولة ( أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها ) التي وردت في نشيد قصير لأخينا المرحوم سعيد المزين ، وبين تخوف عقلاني من نتائج تصاعد النرجسيات الفصائلية التي راحت تتحول إلى صدامات وصراعات بينية مؤذية ، وزادت من استقواء بعض الفصائل على بعضها بعضاً بأنظمة عربية حاكمة وأجهزة مخابراتية . كنت لا أخفي قلقي على الثورة كلها ما دامت لم تستفد من أكبر تجربتين معاصرتين ناجحتين للتحرر من الاستعمار : جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي أنهت التشرذم وصهرت عدة تنظيمات ومجموعات في إطارها ، وجبهة تحرير جنوب فيتنام التي وحدت بدورها كل القوى والتنظيمات والأحزاب المتنافرة . لم يغرني كثيراً حديث أخينا أبي عمار عن ( ديمقراطية غابة البنادق ) أو عن ( التحالف في إطار منظمة التحرير ) فقد كنت لعدة سنوات لصيقاً بما يعتبر (مطبخ) القرار وأعرف جيداً كيف كان أبو عمار يمسك الخيوط ويحركها ويخترق الفصائل ويقفز بين ألغام أنظمة عربية وامتداداتها في الساحة الفلسطينية .. وهكذا تصاعد يقيني بأن كل صراع أو تنافس فصائلي في ساحتنا إنما يتم على حساب التصدي للعدو الصهيوني ، وبالتالي يضعفنا جميعاً ويريح هذا العدو .
لقد شهدت سنوات ما بعد معركة الكرامة انفلاشاً مسلكياً وتنظيمياً وعسكرياً في كافة الفصائل الفلسطينية في الأردن ، إضافة إلى صراعات فيما بينها وداخل كل واحد منها ، مما أسهم في المحنة الكبرى التي لحقت بالثورة الفلسطينية فيما بين أيلول 1970 وتموز 1971 بحيث حرمتها من أطول حدود مع وطننا المحتل ومن أضخم خزان بشري فلسطيني على الإطلاق خارج الوطن . صحيح أن القضية كانت أكبر من أوضاع داخلية فلسطينية أو العلاقة مع النظام الأردني ، فليس سراً أن قرار إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن الذي شكَل نواة تهديد وجودي جاد للكيان الصهيوني كان قراراً أمريكياً ـ صهيونياً أساساً ، وقد كشف هنري كيسنجر واسحق رابين وآخرين هذه الحقيقة آنذاك وأكداها هما وآخرون لاحقاً ، كما أنني سمعت من رئيس عربي في أيلول 1970 عن تلقيه تحذيراً سوفييتياً بجدية الإنذار الأمريكي الذي رافق قرار الرئيس نيكسون استنفار كافة القواعد العسكرية الأمريكية الخارجية للتدخل في الأردن في حال تغلب الجانب الفلسطيني . إنما أعتقد أن النتائج ما كانت لتبلغ تلك النهاية لو لم تشتط فصائل في صراعاتها البينية والذاتية الحمقاء ، ناهيك عن التأثير السلبي لطروحات وممارسات الطفولة اليسارية لمتمركسين طارئين من ناحية وناقصي تربية ثورية استوعبتهم حركة فتح وسواها دونما إعداد كاف وضبط رادع من ناحية ثانية .
التقاني المرحوم عصام السرطاوي يوماً في غرفة المرحوم أبو عمار أوائل العام 1971 وهمس في أذني مقترحاً أن ننتقل إلى الشرفة ليخبرني بأمر هام . هناك قال أنه طبع عشرين ألف نسخة من كتيب ألفه ليثبت ما أسماه (عمالة الجبهتين الشعبية والديمقراطية للمخابرات المركزية الأمريكية ) ، لكن أخانا أبا عمار علم بالأمر فور اكتمال الطباعة وأمر بإحراق كل النسخ ، وقال لعصام : ” لن أسمح بتفجير الساحة الفلسطينية .. ألا تكفينا الجراح التي أنهكتنا في الأردن ؟ ” ، وأردف عصام قائلاً : ” مع ذلك تمكنت من تهريب نسختين من الكتيب ، واحدة لي والأخرى لك ” !
لقد صدمني حديث عصام ، فعلى الرغم من أنني كنت موقناً أن لكل مخابرات الدول الكبرى والإقليمية والماسونية امتدادات واختراقات في ساحتنا وفصائلنا ، إلا أن من الظلم توجيه مثل هذا الاتهام إلى فصيل أو أكثر دونما إثباتات دامغة ، بينما اعتمد عصام على مراكمة الشكوك والتفسيرات والتحليل والاستنتاج . هذا نموذج لما كان من إيغال في التشكيك المتبادل الذي لم ينج منه أحد ، ولا تحاشاه أحد بدرجة أو أخرى . بل إن حركة فتح قد تعرضت للتشكيك والاتهام وحتى التآمر من كل الفصائل الأخرى تقريباً بدرجات متفاوتة ، وإن ساعدها حجمها وتفوقها العددي والتسليحي وعلاقاتها الجماهيرية والسياسية على حماية الذات ولجم الآخرين. تساءلت منذ ذلك الوقت كيف لنا أن نصمد في مواجهة التآمر الدولي والإقليمي إذا كنا لا نرحم بعضنا بعضاً .
بعد شهور من ذلك الحديث مع عصام في دمشق ، كنت أقرأ منفرداً ذات مساء في مقهى الدولتشي فيتا ببيروت عندما انتقل كمال ناصر إلى طاولتي وقال : أبو الخير أنت معروف بصراحتك ونضوج فكرك وشجاعتك ، لدي سؤال هام وسأبني موقفي وتحركي على ضوء جوابك . لقد كلفتني اللجنة المركزية لمنظمة التحرير ( كانت تضم آنذاك اللجنة التنفيذية والأمناء العامين للفصائل ) بإجراء اتصالات لتحقيق الوحدة الوطنية من أجل تجنب ما أصابنا في الأردن ، إنما يتوقف نجاحي أساساً على الموقف الحقيقي لحركة فتح . قل لي هل حركة فتح جادة في السعي للوحدة الوطنية ؟ أجبته على الفور : ” إذا كانت بعض الفصائل مرتبطة عضوياً أو سياسياً بأنظمة عربية حاكمة أو بجهات وأجندات خارجية ، فقرار فتح ذاتي إلى حد كبير ، ونحن لا نخاف الوحدة الوطنية ، بل نسعى إليها بإخلاص دون عقد أو حساسيات ، فنحن الأكبر والأقوى والأرسخ في الساحة ، وبالتالي لا نخشى أن يبتلعنا أحد ، كما هو حال بعض الفصائل التي لا يسمح لها بتجاوز ما هو مرسوم لها من دور ومهام في الساحة .. “. قال كمال : ” لقد أرحتني .. أستطيع الآن أن أنجز ما تم تكليفي به مطمئناً ..” .
تساءلت مراراً بيني وبين نفسي بعد سنوات : ترى هل كان ردي على كمال ناصر دقيقاً آنذاك ؟ لن أخوض بالتفصيل في التجربة الثورية الفلسطينية المعقدة في المرحلة اللبنانية وصولاً إلى الاجتياح العسكري الصهيوني وصفقة خروج قوات الثورة ومؤسساتها إلى المنافي العربية تمهيداً لتسوية مع العدو الصهيوني . إنما لا أشك في أن الانقسامات والانشقاقات والصراعات الفصائلية أثناء المرحلة اللبنانية وفي أعقابها قد أسهمت بوعي أو بغير وعي في الانزلاق إلى أوسلو .

- 2

كان يفترض أن تؤدي انتكاسة الثورة الفلسطينية في الأردن إلى مراجعة جذرية تتعالى الفصائل معها على الاعتبارات الذاتية والمصالح الضيقة والارتباطات المتعددة المتضاربة وتنصهر جميعاً في جسم مؤسسي واحد يلتزم خطاً استراتيجياً محوره التشبث بالمبادئ والأهداف الوطنية الجامعة ، لكن ما حدث هو تغطية تنافسها واختلافاتها بصيغ قيادية فوقية وتوافقات على اقتسام مقاعد ومخصصات وتوليفات مواقف سياسية لفظية في كثير من الأحيان ، بما لا يغضب قواعدها وتحالفاتها !

كثيراً ما جرى تبرير هذا آنذاك بأنه أفضل ( الممكن) في ظل توزع الشعب الفلسطيني ما بين الوطن المحتل والمنافي التي تخضع المقيمين فيها بدرجات متفاوتة لسياسات ومصالح ورغبات النظام الحاكم في كل منها . فمثلاً ، بينما كانت مصر قد تبنت سياسة محورها دعم حركة فتح وتكريسها قائداً للساحة الفلسطينية ، عقب أول لقاء بين الرئيس جمال عبد الناصر وعدد من قادة الحركة ، فإنها لم تتوانى عن تبني أو دعم تنظيمات صغيرة مثل منظمة فلسطين العربية وسواها ..

وبينما كانت سوريا الرئة الرئيسة للثورة الفلسطينية في سنواتها الأولى ، فإنها عمدت إلى تشكيل امتداد عسكري وتنظيمي عضوي لنظامها الحاكم وأجهزته في الساحة الفلسطينية هو طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة ) بدعوى أن حزب البعث الحاكم حزب قومي وليس قطرياً ، وأنه قد جعل القضية الفلسطينية قضيته المركزية منذ تأسيسه . وفي المقابل أسس نفس الحزب الحاكم في العراق والمتصارع مع النظام الحاكم في سوريا جبهة التحرير العربية لنفس المبررات التي أعلنتها سوريا .

لم يخف التنظيمان طموح كل منهما في أن يصبح الفصيل المهيمن على الساحة الفلسطينية ذات يوم ، وكان لا بد لكل منهما أن ينتقد حركة فتح ويتهمها بتهم ثمة أساس لبعضها ، بينما لا أساس لكثير منها ، وأن يتحالف مع فصائل أخرى في مواجهة فتح عند الاقتضاء . ولعبت الجبهة الشعبية ( القيادة العامة ) المرتبطة عضوياً بسوريا ، ثم بليبيا إلى جانب سوريا ، دور رأس حربة في مواجهة حركة فتح في مراحل عديدة . أما الجبهة الشعبية التي اعتبرت نفسها المنافس الطبيعي لحركة فتح فقد تراوح توافقها التحالفي بين العراق وسوريا وليبيا والاتحاد السوفيتي وفقاً لتقلب المواقف والأوضاع والتطورات في الساحة الفلسطينية ، لكن تعامل قادتها التاريخيين جورج حبش وأبو علي مصطفى وأحمد اليماني ( أبو ماهر ) امتاز بالصدق مع الذات حتى في حالات التعارض والتصادم الحاد .. بينما ظلت الجبهة الديمقراطية تعتمد على مظلة حماية فتح لها في المرحلة الأولى لانشقاقها عن الجبهة الشعبية ، ثم استمرت في الحرص الشديد على عدم التصادم جديا مع فتح عندما راحت مواقفها وتحالفاتها تتعارض مع نهج ومواقف فتح ، ولو اضطرت إلى صلات تحت الطاولة معها تخفف من حدة تباين مواقفها السياسية أو مقتضيات علاقاتها الداخلية والعربية والخارجية مع مواقف فتح .

أدار ياسر عرفات العلاقات الفلسطينية الداخلية ببراعة في كثير من الأحيان مستخدماً تكتيكات ووسائل متعددة ليبقي الخيوط في يده ، فاخترق مثلاً كافة الفصائل بلا استثناء رابطاً بعض قيادات الصف الأول وما دونه بالمال أو الارتباط الأمني أو توفير الحماية أو دغدغة الطموحات الشخصية أو التلميع ، وكرس في الوقت نفسه علاقات صحية إلى حد كبير بين الوحدات الفدائية المقاتلة لمعظم الفصائل ، بحيث كانت تنسق في المعارك وتحمي بعضها بعضاً … كانت تلك براعة قيادية بالتأكيد في إدارة أوضاع مريضة ، لكنني تمنيت في ذلك الوقت لو كانت المعالجة أكثر جذرية بحيث تركز على توحيد الشعب وطاقاته البشرية والكفاحية في مؤسسة لا تبدد الصراعات البينية طاقاتها وجهودها بما يخفف الوطأة على العدو . كانت الأعذار المتداولة آنذاك أن الوضع العربي المتشرذم ينعكس على ساحتنا ويتدخل فيها ، بل ويعبث بها ، رغماً عنا وبما لا نملك منعه بمثل حسم الثورة الجزائرية مثلاً لمحاولات تدخل أجهزة الدولة التونسية أو المغربية فيها . وكثيراً ما ضرب بعض من ناقشتهم مثالاً واقعياً بالقول كيف لنا أن نوحد الامتدادين العضويين لسوريا والعراق في الساحة الفلسطينية عندما تكاد علاقات النظامين الحاكمين في البلدين تبلغ حد الصدام المسلح بينهما في أعقاب اغتيالات واتهامات متبادلة بالعمالة والخيانة ومحاولات انقلابية متبادلة وصولاً إلى حد أن توضع في جوازات سفر المواطنين السوريين عبارة ( يسمح بالسفر إلى كافة البلدان عدا العراق ) !

تجاوزت تأثيرات التشرذم والتدخلات الخارجية عبر بعض الفصائل المتعايشة حدودها التقليدية عندما نجح الاتحاد السوفييتي من ناحية ونظام أنور السادات من ناحية أخرى في إقناع عدد من القادة الفلسطينيين الفاعلين بالدخول التدريجي في لعبة التسوية السياسية مع العدو الصهيوني مما تجسدت بدايته المعلنة ببرنامج النقاط العشر ، وأهمها : إقامة سلطة وطنية فلسطينية على كل أرض يتم تحريرها ! دغدغ الحديث عن ( إقامة سلطة ) كثيرين وأغوتهم عبارة ( يتم تحريرها ) بحيث لم يقفوا عند سؤال هام : كيف سوف يتم تحريرها ، هل بانتزاعها من العدو قتالاً ، أم عبر صفقة تبادل بعض أرضنا بالتنازل عن معظمها ؟ ;

كان سؤال عبد الناصر لقادة فتح منعطفاً حساساًعندما التقاهم سنة 1968 : هل تمانعون في استعادة أرضكم التي احتلت سنة 1967 بالوسائل السياسية دون تنازل عن بقية أرضكم وحقوقكم ؟

كتبت وقلت آنذاك مراراً : نعم لأرض نجعلها جسراً نعبر فوقه لتحرير باقي أرض وطننا المغتصبة منذ العام 1948 ، ولكن حذار من تحويلنا بوعي أو دونما وعي إلى جسر تدوسه أقدام الغزاة الصهاينة لتهيمن دونما مقاومة تذكر على ما بين محيط العرب وخليجهم بذريعة أنهم لن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم !

- 3

كثيراً ما راودتني أسئلة منطقية كلما حدث انشقاق أو احتدم صراع حاد تعدى الحوار الملتزم بالمبادئ والأهداف الجامعة داخل أحد مكونات الثورة الفلسطينية ، أو كلما تطور الخلاف بين الفصائل على موقف أو مسألة ما إلى استقطاب وتكتلات متصارعة لا تتورع عن اتهام بعضها بالخيانة أو العمالة وإهدار معظم الجهود والطاقات والإمكانات في صراع فلسطيني ـ فلسطيني بدلا من توجيهها جميعاً ضد العدو الثابت الواضح مغتصب وطننا ! من هذه الأسئلة :

ـ هل كان الانشقاق أو التمرد أو الصراع البيني ليحدث لو توفر داخل كل فصيل على حدة من ناحية ، وداخل الإطار الجامع الذي يفترض أن منظمة التحرير الفلسطينية تشكله من ناحية أخرى ، قدر عال من الإخلاص للمبادئ والأهداف الوطنية المشتركة وتغليبها على المصالح الفصائلية والشخصية ، وممارسة ديمقراطية سليمة ، ونضوج فكري لدى القادة والأعضاء ، واحترام متبادل كاف للحق في التفكير ، واعتماد لحوار موضوعي منزه عن المصالح الشخصية والفردية والفئوية ، وممارسة صادقة لجماعية القيادة داخل كل فصيل ، والتزام مخلص بموقف الأكثرية وبالبرامج والقرارات التي يتم التوافق عليها ، وحصانة كافية تجاه الاستقطابات والتدخلات الخارجية ؟

ـ أليست مدعاة تشققات وصراعات أن يستنسخ السائد في أكثر أنظمة الحكم والأحزاب العربية فيتم اختزال أكثر التنظيمات الفلسطينية بفرد في كل منها تضفى عليه صفات البطولة الخارقة والعبقرية الفذة بحيث يحتكر القرار عملياً إلى حد كبير ويتحول إلى صنم حي أبدي يجعل التنظيم ملكاً شخصياً له ويعتبر المناضلين في فصيله قطيعاً يروج له ويسبح بحمده ؟

ـ هل ينجح انشقاق أو تمرد أو تكتل مضاد إلا بوجود دولة أو عدة دول أو قوى خارجية تدفع إليه أو تتبناه وترعاه وتحميه وتموله ؟

ـ هل يعقل أن تتطور الخصومة السياسية بين فصائل فلسطينية يفترض أن يوحدها هدف تحرير الوطن إلى تعبئة عدائية متبادلة تبلغ حد اعتبار الخصم الداخلي أخطر من العدو الصهيوني ومحاربة بعضها بعضاً بأشد من محاربة العدو الصهيوني !؟

لقد شهدت الجبهة الشعبية انشقاقات وانسلاخات قبل محنة أيلول 1970 أبرزها انفصال الجبهة الشعبية ( القيادة العامة ) وانشقاق الجبهة الديمقراطية ، وعلى الرغم من إعطاء تلك الحالات مبررات عقيدية وفكرية وتنظيمية ، فقد أثبتت وقائع العقود اللاحقة أن تلك العوامل والاعتبارات كانت إلى حد كبير غطاء لنوازع فردية وتدخلات خارجية .

وبينما تفاخر العديد من قادة فتح الكبار طويلاً بأن الحركة غير قابلة للانقسام ، أثبتت الوقائع أنه ما من حصانة مطلقة ، وهكذا توالت الانقسامات والانشقاقات والشروخ فيها ، وكان بعضها كبيراً وخطيراً ودموياً ، بحيث لا يجدي الاستهتار بها أو التهوين من شأنها والمكابرة إزاءها ، ولا استسهال اتهام بعض رموزها بالعمالة والخيانة وما إلى ذلك . هنا أذكر وقائع أعمق من انسحاب د. عبد الله الدنان ورفاقه منذ إطلاق الكفاح المسلح ، وخلاف محمود مسودة (أبو عبيدة) وفتحي عرفات ورفاقهما مع أبي عمار ، وانسحاب عصام السرطاوي ومجموعته التي تحولت إلى الهيئة العاملة لتحرير فلسطين ثم عودته وإياها إلى الحركة . من تلك الوقائع التي عشتها شخصياً واحدة أواخر العام 1970 عندما دار نقاش واسع حول إصلاح الحركة وتثوير نهجها وقيادتها على ضوء محنة الثورة في الأردن . فقد كلفني بعض الأخوة وضع مسودة خط سياسي وبرنامج سياسي لاعتمادهما من قبل مجموعة من قادة الصف الثاني أجمعت على ضرورة إعادة البناء واجتثاث العوامل الداخلية التي سمحت بتلك المحنة . لمست أن المسألة تتعدى التحرك ضمن الأطر التنظيمية التي رأت أغلبية هؤلاء الأخوة أنها خاضعة لهيمنة من اعتبروهم المسؤولين عن أزمة الحركة وانتكاستها في الأردن . بعد تفكير عميق رأيت لإراحة ضميري أن أحاول إقناع أبي عمار باتخاذ خطوات إصلاح جذرية تلبي معظم مطالب واقتراحات هؤلاء الأخوة ، دون إشعاره بتحركهم أو بما توافقوا عليه . بدأت حديثي معه ببراءة مستخدماً أقصى ما لدي من ذكاء وحكمة وحرص لكي لا يلتقط ما يجعله يشك بذلك التحرك . سمعني أبو عمار مبتسماً طول الوقت ثم قال لي : ” يا أبو الخير هات من الآخر ، أنت تتكلم وفي ذهنك خوف على الحركة من الانقسام وأنا أحترم حرصك ، إنما خذها مني : لن يكن هناك انقسام .. الجماعة بتوع التحشيش الفكري اللي قاعدين يشاغبوا ويتفلسفوا ما فيش منهم غير الكلام … سيبك منهم دول ما بيعملوش حاجة ..” . لكن تلك الثقة المفرطة كانت في غير محلها ، فسرعان ما تلاحقت الهزات وصولاً إلى انشقاق صبري البنا وناجي علوش ، وانشقاق أحمد عبد الغفور ، ناهيك عن عدة حالات تمرد أقل شأناً ، وصولاً إلى الانشقاق الأخطر والأكبر ، فتح الانتفاضة عقب الخروج من لبنان في العام 1984.

قبل ذلك الحوار مع أبي عمار بأسابيع ، وتحديداً يوم 28/9/1970 ، رحت أقيم مع الأخ أبي السعيد (خالد الحسن) النتائج البائسة لمؤتمر القمة العربية الذي توصل إلى اتفاق بين الملك حسين وياسر عرفات ، وتوافقنا على مهاجمة نتائج تلك القمة، ولما قلت أنني سأنشر موقفه باسمه في عدد الغد من صحيفة فتح قال : لا .. لا .. إذا ظهر اسمي ستنفجر فتح إلى عشرين شظية على الأقل ! وجاءت وفاة عبد الناصر في ذلك اليوم فألغيت النشر ، إنما ظلت كلمات أبي السعيد تقلقني ، إذ أنه كان ممن تباهوا سابقاً بأن فتح غير قابلة للانقسام قبل أن ينذر بتشظي الحركة لمجرد إظهار اسمه لدى نشر موقف .. تكرر الأمر في سياق آخر أواخر السبعينيات مع أبي إياد ( صلاح خلف ) الذي كان هو و أبو عمار الأكثر تكراراً في خطاباتهما وتصريحاتهما وحواراتهما لمقولة أن فتح غير قابلة للانقسام ، فقد اشتكى يوماً بمرارة من تفرد أبي عمار وتهميشه أعضاء اللجنة المركزية ، فحاولت تخفيف مرارته على مسمع من أربعة أخوة ، رحل اثنان منهما عن دنيانا ولا يزال اثنان ، وإذ به يقول : ما دام أبو عمار لا يكترث فلنقسم الحركة بيننا ! فقلت :هل هي ورثة أم قطيع ؟

من جانب آخر ، بينما كان الخلاف الحاد بين النظامين الحاكمين في سوريا والعراق يؤثر بعمق على الساحة الفلسطينية ويجعل فصائلها مضطرة إما إلى الاصطفاف مع أحد النظامين أو السير الحذر على حبل مشدود ، جاءت فترة قصيرة جداً من تفاهم النظامين مواكبة زمنياً لعقد دورة للمجلس الوطني الفلسطيني في دمشق ، ووصلت معلومات بأن تفاهماً قد تم على تحجيم ياسر عرفات وحركة فتح في منظمة التحرير لكي يهيمن تحالف بين الصاعقة وجبهة التحرير العربية وفصائل أخرى تعارض برنامج النقاط العشر الذي تم تمريره في دورة سابقة للمجلس بالقاهرة سنة 1974. أقيمت غرفة عمليات قادها عبد الحليم خدام وطارق عزيز وزهير محسن وعبد الرحيم أحمد في فندق ميريديان الملاصق لمقر اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في مقر اتحاد نقابات عمال سوريا ، وتوالت معلومات بأن هذه التحالف قد ضمن من الأصوات ما قد يسمح بتحقيق هدفه ، إلا أن مناورة ياسر عرفات في الجلسة الأخيرة التي كان يفترض إجراء انتخابات اللجنة التنفيذية فيها قد أجهضت التحرك المضاد باعتراض عرفات على دعوة رئيس المجلس خالد الفاهوم إلى بدء عملية الترشيح والانتخاب قائلاً إن اللجنة التنفيذية ـ التي وصفها بأنها أنجح لجنة في تاريخ المنظمة والأكثر انسجاماً وإنجازاً ـ لم تتقدم باستقالتها وبالتالي لا يجوز إجراء الانتخاب .. سرعان ما ساد الهرج والمرج وانطلقت أناشيد وهتافات معظمها من مراقبين وإداريين ومرافقي قادة فتح ، أبرزها ( غلابة فتح يا ثورتنا غلابة ) .. وبدا أن صداماً حاداً سوف يقع، فبدأ عدد من الأعضاء المستقلين يغادرون القاعة تباعاً نأياً بأنفسهم ، وبات واضحاً أن التحرك الذي خطط له خدام وعزيز قد فقد أصوات الأعضاء الكفيلة بإنجاح خطتهما ، وهنا غادر القاعة أكثر الأعضاء فاضطر رئيس المجلس إلى إعلان انتهاء دورة المجلس وبقاء اللجنة التنفيذية على حالها ! حاورت زهير محسن في ذلك الجو معاتباً ومحذراً من انهيار الحد الأدنى من التوافق الذي يحفظ وحدة الساحة الفلسطينية ، فكرر القول إن أبا عمار هو الذي دفع الأمور إلى هذه الحافة الخطرة . عدت وناقشت تلك التجربة المرة وسواها مع زهير مجدداً في حوار صحي على امتداد ساعات قبل ثلاثة أيام من اغتياله ، بعدما كانت الظروف قد اختلفت بانهيار التفاهم العابر بين دمشق وبغداد ، فتحدث عن تدخل اعتبارات وعوامل غير فلسطينية على امتداد مسار القضية الفلسطينية .

قال لي السفير السعودي في باكستان سمير الشهابي في العام 1981 :” لقد تضخمت قوتكم كثيراً بما لا يمكن للمعادلتين الدولية والإقليمية أن تتحمله . صار عندكم صواريخ وطيارين وطائرات وقوة بحرية وألوية وشبكة على امتداد العالم . طبعاً أنتم لن تقبلوا بالعودة طوعاً إلى الحجم الذي تتحمله المعادلتان الدولية والإقليمية ، ولذلك صار لا بد من عملية جراحية تعيدكم إلى الحجم المقبول دولياً وإقليمياً..” ، سألته على الفور : ” هل تقصد بالعملية الجراحية اجتياحاً لجيش العدو يقوده أرئيل شارون ؟ ” ، فأجاب : ” هذا هو الحل الوحيد ، فقد قاتلكم الجيش الأردني ، والجيش اللبناني ، والجيش السوري ، والميليشيات المسيحية اللبنانية ، لكنكم كنتم تخرجون من القتال أقوى في كل مرة لأنكم تستنفرون شعبكم والشعوب العربية إلى جانبكم . ” .

تم طرح (مبادرة) لإنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني نسبت إلى الأمير ( الملك لاحقاً ) فهد بن عبد العزيز ، بينما كانت المعلومات تؤكد أن إدارة الرئيس الأمريكي ريغان قد وضعت خطوطها وصياغتها لتجريع العرب قبول التعايش مع الكيان الصهيوني والتخلي عن المطالبة بأربعة أخماس أرض فلسطين التي احتلها الغزاة الصهاينة في العام 1948 ، بل وحتى عن أجزاء من باقي الأرض التي احتلها الصهاينة في العام 1967! كان طبيعياً أن ترفض تلك ( المبادرة ) من قبل قوى الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني عامة ، إضافة إلى العراق وجبهة الصمود والتصدي ( سوريا ، ليبيا ، الجزائر ، اليمن الديمقراطية ، منظمة التحرير الفلسطينية ) .

لكن ياسر عرفات والعديد من قادة فتح رأوا أن الرفض المطلق سيؤدي إلى تدخل عسكري صهيوني لتصفية قوات الثورة الفلسطينية بدعم أمريكي وصمت عربي ، وأن من الحكمة المناورة في التعامل مع هذه المبادرة ، حدث هنا استقطاب حاد في الساحة الفلسطينية . عقد مؤتمر قمة عربية في فاس لإقرار المبادرة ، لكن اعتراض دول عربية قوية واعتراضات عدة فصائل فلسطينية أوصلت نقاش القمة إلى طريق مسدود ، وتصرف الملك المغربي الحسن الثاني على نحو غريب إذ لم يعلن انتهاء أعمال القمة كما جرت العادة ، وإنما أعلن تعليق اجتماعاتها إلى موعد آخر . عاد أبو عمار إلى لبنان وراح يحذر يومياً بجملة مشهورة : ( قمة فاس ستكون لنا ضربة في الرأس ) ! وبدأ يعدّ قواته لمعركة باتت حتمية ، متوقعاً أن جيش العدو الصهيوني سوف يجتاح جنوب لبنان لمسافة أربعين كيلومتراً ، وأن الميليشيات اللبنانية سوف تصعد ضربها لقواتنا بدورها من الشمال في عملية ( الأوكورديون ) . سمعت تفاصيل من أبي عمار عن آخر توقعاته واستعداداته أثناء محادثاته الرسمية مع الرئيس الباكستاني الجنرال محمد ضياء الحق بحضوري في نهاية الشهر الخامس من العام 1982 ، حيث تحدث بمرارة عن خيبة أمله إذ لا يتوقع دعماً عسكرياً عربياً جاداً ، بينما تعهد ضياء الحق بتقديم بعض الدعم !

بدأ الاجتياح الصهيوني بعد ذلك بأسبوع في الرابع من الشهر السادس، واستمرت المعارك وصولاً إلى إطباق حصار على العاصمة بيروت وأبدت القوات الفلسطينية وحلفاؤها اللبنانيون مقاومة بطولية شرسة ، بعد معارك على طول تقدم جيش العدو من الجنوب تميز بعضها ببطولة خارقة لقوات الثورة الفلسطينية ، كما في قلعة الشقيف وصيدا ودوار خلدة ومواقع أخرى ، في حين انسحبت قوات أخرى من مواقعها ! على الرغم من هذه المقاومة المستميتة التي امتدت لنحو شهرين ونصف فقد انتهت الأمور إلى خروج القوات والمؤسسات الفلسطينية من لبنان وتوزعها في سبعة أقطار عربية بعد وساطة أوربية وأمريكية قادها فيليب حبيب . سئل أبو عمار إلى أين أنت ذاهب بعد لبنان فأجاب : إلى فلسطين ! ولئن أخذ بعض الصحفيين وسواهم جوابه على أنه محاولة لرفع معنويات الناس واللعب بأعصاب العدو ، فقد راودني هاجس قوي آنذاك بأن العقل الباطن لأبي عمار قد أوحى له بذلك الرد انعكاساً لصفقة تم وضع خطوطها العريضة تتضمن انخراطاً في تسوية مع العدو في مقابل إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان مما نشر كثيراً من الإحباط وأجج عوامل غضب قاعدي تنذر بتمرد !

لم تكد عملية الخروج تكتمل حتى أعلن الملك الحسن الثاني عن استئناف قمة فاس ، وكان لا بد من ضربة موجعة أخرى تسبق استئنافها ، فجاءت المجزرة الرهيبة في مخيم صبرا يوم 16 أيلول عندما تم قتل وذبح آلاف المدنيين ، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء ، بينما كان أبو عمار في طريقه إلى فاس ، حيث تم تمرير مبادرة فهد الذي كان قد صار ملكاً بعد وفاة أخيه الملك خالد ، وهكذا لحق النظام الرسمي العربي ، وضمنه قيادة منظمة التحرير ، بالنهج الذي دشنته ردة الرئيس المصري أنور السادات!

بعد شهور قليلة من حرب العام 1982 وإخراج معظم مقاتلي الثورة الفلسطينية ومؤسساتها من لبنان ، كنت في دمشق عندما جاءني صديق قائلاً أنه حضر في اليوم السابق اجتماعاً سرياً دعا إليه عبد الحليم خدام ، نائب الرئيس السوري ، محوره ضرورة التحرك الفوري لإسقاط ياسر عرفات بالقوة وتوفير الاحتياجات الكفيلة بهذا . وقد أعطاني محضراً للاجتماع كتبه من الذاكرة عقب عودته إلى بيته . قررت مقابلة أبي عمار على الفور و إيجاد سبيل لإقناعه بإجراءات جادة تعالج عوامل التذمر والاعتراضات السياسية والتنظيمية على نهجه وإجراءاته . ذهبت إليه بالرغم من جفوة كانت الأولى بيني وبينه منذ عرفته ، وإذ بمدير مكتبه يطلب مني الانتظار لحظات لكي يبلغه . كانت تلك المرة الأولى التي يقال لي هذا ، إذ كنت حتى ذلك الحين من القلائل الذين يدخلون عليه دون استئذان في كل ظرف. عاد مدير مكتبه ليقول : الأخ أبو عمار سيقابلك بعد دقائق . امتدت الدقائق طويلاً ، وتكرر دخول مدير مكتبه عليه مراراً لإبلاغه أنني لا زلت بالانتظار ، وكان يعود بنفس الجواب ! خرج أبو لطف وعبد المحسن أبو ميزر من غرفته فتبادلنا التحية ، وسحبني أبو لطف من يدي ودلفنا إلى الشارع حيث همس في أذني قائلاً : شو بدك منه.. سيبك ! قلت أن هناك موضوعاً مهماً ، فكرر القول : سيبك منه ! ثم ودعني .. قررت أن أعود ، وإذ بالجواب يتكرر مجدداً مرات ومرات : سيستقبلك بعد دقائق ! مرت ساعتان ، وإذ بأحد الذين حضروا الاجتماع مع عبد الحليم خدام وتحمس لإسقاط عرفات وطلب تأمين الغطاء المالي للتحرك يدخل طالباً لقاء أبي عمار . عندئذ كتبت لمدير مكتبه ملاحظة تفيد بأن لهذا الشخص صلة بالموضوع الذي أريد بحثه ، ومن الضروري جداً أن أدخل قبله . دخل مدير المكتب ليبلغ أبا عمار بهذا ، وإذ به يعود قائلاً لذلك الشخص : تفضل ، أبو عمار بانتظارك . عند هذا الحد غادرت المكتب ، وسافرت إلى مقر عملي بعد أيام ، ولم أقابل أبا عمار إلا بعد نحو سنة ونصف في تونس!

كنت أتابع تذمر واعتراضات كثير من القادة والقواعد ، وكانت وجهة نظري أن أبا عمار يتمنى أن يرتاح من المعترضين والمتذمرين إن تورطوا بانشقاق ، فهو قد رتب أوضاعه داخل حركة فتح والمنظمة وعربياً ودولياً بما يمكنه من المضي في نهجه ، وخاصة بعد الوعود التي تلقاها قبيل الخروج من بيروت ، وبالتالي كررت مراراً القول إن فرص التصحيح وتصويب المسار سياسياً وتنظيمياً هي أكبر من خلال الأطر الحركية لا بالخروج منها .

عندما حدث الانشقاق الكبير بقيادة عضوي اللجنة المركزية نمر صالح ( أبو صالح) وسميح أبو كويك (قدري) والعقيدين سعيد مراغة (أبو موسى ) وموسى العملة ( أبو خالد) ، بعثت برسالة شفوية إلى أبي صالح وقدري مع أخ اسمه وديع قلت فيها : لقد استقطبتم بشعاراتكم المئات وربما الآلاف من أفضل أبناء الحركة ، وخاصة بطرحكم شعار استمرار الكفاح المسلح ، لكنكم لن تتمكنوا من تحقيق أي من شعاراتكم فأنتم محكومون بالجغرافيا . لقد تقلصت فرصة تصويب النهج وتصحيح الأوضاع نتيجة تحرككم هذا .كان أبو عمار مستعداً لدفع الملايين للتخلص من معظم الذين التحقوا بكم ، إذ كانوا يشكلون له صداعاً بانتقاداتهم واعتراضاتهم ، فقدمتم له هذه الخدمة على طبق من ذهب .

في هذه الأثناء كان قد تكرس تشكيل جبهة في دمشق من عشر فصائل معارضة لقيادة ياسر عرفات ونهجه ، بدعم من سوريا وليبيا ، ودخل الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني مرحلة شديدة التفجر ،



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 65 / 2180997

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع خيرالدين عبدالرحمن   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2180997 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40