الجمعة 3 أيلول (سبتمبر) 2010

المفاوضات المباشرة مع مصاصي الدماء

الجمعة 3 أيلول (سبتمبر) 2010 par د. سمير كرم

ليست مهمة التحليل السياسي ـ وحتى التعليق السياسي ـ البحث عن تشبيه لحدث او تطور سياسي. مع ذلك فإنني ـ صراحة ـ لم استطع ان اهرب من الشعور التشبيهي بأن فلسطين مسوقة الى المفاوضات المباشرة مع «اسرائيل»، كما تساق الضحية مخدرة او شبه مخدرة بين ذراعي مصاص الدماء، بلا مقاومة وبلا امل في تحقيق اي هدف.

لم اتمكن من التخلص من هذه الصورة منذ اللحظة التي اعلن فيها «رئيس السلطة الفلسطينية» محمود عبّاس انه ذاهب الى واشنطن للاشتراك في المفاوضات المباشرة مع رئيس الوزراء «الاسرائيلي» بنيامين نتنياهو. لم يقدم مبررات ولا مسوغات سوى ان الضغط الاميركي من جانب الرئيس باراك اوباما فاق كل الحدود وأنه ـ اي عبّاس ـ لا يريد ان يقال ان الفلسطينيين هم الذين اضاعوا الفرصة.

بدا «السيد» عبّاس مخدراً ومستسلماً وعهد الى غيره ـ بالاحرى ظله ـ «السيد» عريقات مسؤول المفاوضات في «السلطة» ـ بأن يقول ان «السلطة الفلسطينية» لن تستمر في المفاوضات ولا تستطيع ان تستمر اذا ما جاء يوم 27 ايلول، من دون ان تلتزم «اسرائيل» بالاستمرار في تجميد الاستيطان.

وهل تستطيع الضحية ان تتمرد وهي بين ذراعي مصاص الدماء ينهب منها الحياة والارض والماء ومقومات الوجود؟

لقد قبل عبّاس الانخراط في المفاوضات المباشرة من دون ان يرد بكلمة على نتنياهو الذي قال انه ذاهب الى واشنطن للاشتراك في هذه المفاوضات من دون شروط مسبقة. ولم يكن هناك من يفهم عبارة نتنياهو بمعنى غير معنى رفض القبول بشرط وقف النشاط الاستيطاني، حينما يحين موعد نهاية الوقف الذي لم يتحقق عملياً ليوم واحد، وإنما استمر بمعدلات وصفها اليمين «الإسرائيلي» بأنها أبطأ. وكان معنى هذا اعطاء «اسرائيل» ونتنياهو موافقة صريحة على المضي في عملية قضم الاراضي الفلسطينية، تلك التي يفترض ان تصبح جزءاً من الدولة الفلسطينية، في حل الدولتين الذي يعتبر الهدف النهائي للمفاوضات المباشرة.

والحقيقة ان نتنياهو لم يكن الوحيد الذي رفع شعار «اللاشروط» كشرط للاشتراك في المفاوضات المباشرة، بل انه لم يكن اول من رفعه. لقد سبقته اليه وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون. وعلى الرغم من ان عبّاس لم ينطق بشعار «اللاشروط» كشرط للتفاوض، الا انه مارسه عملياً عندما قرر السفر الى واشنطن بلا قيد ولا شرط. الامر الذي اعطى لنتنياهو حقاً «غير مشروط» في ان يمارس عملياً وأثـناء المفاوضات، عمليات اقتلاع ارض فلسطين لإقامة المستوطنات حيثما شاء، حتى على ارض المنطقة التي يفترض ان تكون ضمن اراضي الدولة الفلسطينية (...).

وتلح صورة الضحية ومصاص الدماء حينما يعلن نتنياهو ـ دراكولا «الإسرائيلي» ـ في اليوم التالي ليوم الاعلان عن موعد المفاوضات المباشرة في 2 ايلول (امس الخميس) انه ينوي إنهاء الوقف المؤقت للاستيطان بمجرد ان تنتهي مهلته في نهاية الشهر نفسه.

نحن اذن بصدد موقفين واضحين احدهما موقف الضحية ـ موقف الاستسلام الغائب تقريباً عن الوعي ـ وموقف دراكولا الذي لا يساوم على شيء وينقض في اللحظة التي تناسبه يمارس فعلته الشيطانية : مص الدماء الفلسطينية.

فماذا عن الموقف الاميركي في هذه اللعبة؟

الرئيس الاميركي اوباما يعاني من انقسام ذهني واضح بين معركة المفاوضات المباشرة من اجل دولة فلسطينية ينتزعها ـ ان امكن ـ من بين انياب مصاص الدماء «الاسرائيلي»، ومعركة الاستجابة لدعوة «اسرائيل» الملحة لحرب اميركية ضد إيران. ولأن الرئيس الاميركي، اميركي بالدرجة الثانية و«اسرائيلي» بالدرجة الاولى، فإن مهمته الجمع بين هذين الذهنين في واحد. ان يكون هدف مهاجمة ايران وهدف المفاوضات المباشرة الفلسطينية على خط واحد. كيف؟

ان يبذل كل ما في جعبته من جهد لإقناع الدول العربية بان لا احد يستطيع ان يحل المشكلة الفلسطينية الا واشنطن، ليس فقط بحكم علاقاتها القوية الاستراتيجية بكل من هذه الدول العربية و«اسرائيل» فحسب، انما بحكم انها قادرة ايضاً على ازاحة الخطر النووي الايراني عن كاهل «اسرائيل» والعرب في آن واحد. هذا ما تعتبره الادارة الاميركية انه صدق اعتقادها بأنها الوسيط الشريف الوحيد بين «اسرائيل» والعرب. وهذا ما تعتبره واشنطن انه المبرر الاهم لمشاركة عربية ـ تزيد في بعض الحالات وتنقص في حالات اخرى ـ في الحرب القادمة ضد ايران.

ولا يصبح امر المشاركة في الحرب الاميركية / «الاسرائيلية» على ايران من جانب الدول العربية الحليفة لأميركا ايسر الا حينما تنجح المفاوضات المباشرة بين «اسرائيل» و«السلطة الفلسطينية» ولو بصورة جزئية، ولو بصورة مؤقتة. لهذا فإن من المؤكد ان تزداد الضغوط الاميركية و«الاسرائيلية» على النظم العربية للعب دور في المواجهة مع ايران. ولهذا السبب كان اشراك مصر والاردن في المفاوضات المباشرة في واشنطن. فإن هذه المشاركة تسقط اي حجة بشأن سير هذه المفاوضات او تعثرها، فالعرب مشاركون في حالة النجاح وفي حالة الفشل.

لهذا ايضاً اتسع نطاق موافقات الادارة الاميركية في الاسابيع الاخيرة على صفقات اسلحة لهذه الدول العربية، ابتداء من السعودية وانتقالاً الى مصر والاردن والامارات والبحرين، والبقية تاتي لاحقاً. إن هذه الصفقات تتم الموافقة عليها في وقت توتر يبلغ اقصى مداه مع إيران وهدوء يبلغ ايضاً اقصاه مع «اسرائيل». مع ذلك فليس من المتوقع في واشنطن ان تتنازل «اسرائيل» عن الشروط التي تلحقها اميركا بهذه الصفقات. وعلى الرغم من ضخامة الصفقة للسعودية التي تبلغ قيمتها 60 مليار دولار فقد تمت طمأنة «اسرائيل»، الى ان الصفقة لن تشمل تجهيزات اضافية يمكن ان تجعل الطائرات المبيعة لـ «اسرائيل» على مستوى واحد مع الطائرات المبيعة للسعودية. وفي هذا السياق يأتي حديث الاسلحة المضادة للدبابات التي افزع الولايات المتحدة استخدامها من جانب الجيش اللبناني على الحدود مع «اسرائيل»، عندما تعرضت الحدود اللبنانية لانتهاك عسكري «اسرائيلي» مباشر. فقد كان ظن الولايات المتحدة او تفكيرها الضمني انها باعت هذا السلاح للبنان ليستخدم ضد حزب الله لا ضد «اسرائيل». اما وقد استخدم ضد «اسرائيل» فإن العلاقة برمتها مع لبنان هي موضوع اعادة نظر.

احد شروط نجاح المفاوضات المباشرة اذن هو موافقة النظم العربية التي تم تقريبها اليها على لعب دور فعال في مساندة وإتمام العمليات الهجومية الاميركية / «الاسرائيلية» ضد ايران. والدول العربية المعنية تعرف ذلك جيداً وتدرك ما هو مطلوب منها، وهي لا تظن ابداً ان المفاوضات المباشرة فلسطينية خالصة. حتى ان بعض المصادر اصبح يتحدث عن علاقات مغطاة (بمعنى انها تدور في السر) بين «اسرائيل» والسعودية الى حد ان «الرياض اجرت اختبارات للتأكد من ان الطائرات النفاثة السعودية لن تندفع نحو التدخل وأن انظمتها الصاروخية الدفاعية لن يتم تشغيلها اذا عبرت القاذفات «الاسرائيلية» اجواء السعودية في طريقها لقذف المنشآت النووية الايرانية». (صحيفة «التايمز» البريطانية في 5/6/2010).

هذا الربط في الذهن الاميركي بين المفاوضات المباشرة بشـأن حل الصراع الفلسطيني ـ «الاسرائيلي» وشن حرب اميركية ـ «اسرائيلية» ـ عربية على ايران ليس محكوما بهذه الروابط في الذهن الاميركي وحده. لقد اصبح مصدر قلق وتوتر من قوى لا تستطيع ان تولي ظهرها لهذين الصراعين. وتأتي روسيا في المقدمة. في الوقت نفسه فإن صحيفة «موسكو تايمز» اعربت (في 17 آب 2010) عن قلق روسيا وحذرت من ان «الموقف السياسي في المنطقة وخاصة فيما يتعلق بسياسة «اسرائيل» الخارجية المدعومة من الولايات المتحدة قد تفضي الى صراعات مسلحة محلية جديدة، واليوم فإن الفرص كلها متاحة لان تكبر هذه الصراعات الى حرب إقليمية تتورط فيها بلدان كثيرة».

والاجدر بهذا القلق هو البلدان العربية التي يراد إشراكها في حرب ضد القوة الاقليمية الوحيدة تقريباً (اذ لا تزال تركيا بالمقارنة مع ايران في مرحلة تردد ازاء الصراع العربي ـ «الاسرائيلي») التي تقـف في صف العرب في الصراع العربي ـ «الاسرائيلي» ـ الاميركي بكل ما تملك من قوة وإمكانات استراتيجية، منها موقعها الاستراتيجي في المنطقة وقربها من اي صراع يمكن ان تفرضه الولايات المتحدة او «اسرائيل» على الاقليم «الشرق اوسطي».

من ناحية اخرى فان التوترات الناجمة عن احتمال اندلاع «عمليات ارهابية» بهدف وقف المفاوضات المباشرة في واشنطن لا يمكن استبعادها بأي حال على الرغم من ان إثارتها كاحتمال تأتي اكثر ما تأتي من الجانب «الاسرائيلي» الذي يبدو انه يتوقع اي ذريعة للخروج من هذه المفاوضات ملقياً مسؤولية فشلها على الجانب الفلسطيني. اما ان الفصائل الفلسطينية الآخذة بمنهج المقاومة يمكن ان تلجأ الى استئناف العمليات المقاومة رداً على القبول بالتفاوض المباشر من دون اية شروط فهذا حق مشروع لها تؤديه لمصلحة الشعب الفلسطيني الذي لا يرضى بدور الضحية في المواجهة مع مصاصي الدماء «الاسرائيليين». وقد اعلن الجانب «الاسرائيلي» انه مستعد لكافة الاحتمالات على كافة الجبهات وانه يتوقع فترة طويلة من عدم الاستقرار في المنطقة نتيجة لاهتزاز عدد من النظم العربية أولها النظام المصري، وهو النظام الاكثر تنسيقاً مع «اسرائيل» سواء على الصعيد الثنائي بينهما او على الصعيد الثلاثي مع الولايات المتحدة او ايضاً على الصعيد «العالمي» الذي يتمثل في التنسيق عبر حلف الاطلسي. وقد وصف المعلق «الاسرائيلي» اسرائيل هاريل حال مصر بأنها «في حالة انتقالية تتميز بعدم الاستقرار والفزع، وهذا امر نراه جميعاً ونسمعه».

في الوقت نفسه فإن مارتن انديك الذي شغل منصبي سفير الولايات المتحدة لدى «اسرائيل» ولدى مصر في وقت لاحق في عهد ادارة بيل كلنتون وضع نفسه، كما هي عادته دائماً، في صف المتفائلين في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» (26/8/2010) وعدد اربعة اسباب رئيسية لتفاؤله هي : ان العنف في المنطقة في انخفاض ـ ان النشاط الاستيطاني «الاسرائيلي» قد انخفض ـ ان الرأي العام من الجانبين يؤيد حل الدولتين ـ وأخيراً ان هناك موضوعات كثيرة مطروحة للتفاوض. ويبدو ان انديك نسي تماماً ان دواعي التفاؤل التي اوردها كانت كلها وأكثر منها ماثلة في كل المفاوضات السابقة ولم تحل دون انهيارها.

على اي الاحوال فإن الاستسلام لدوافع التفاؤل والتشاؤم لا يختلف كثيراً عن الاستسلام لمشاعر التشبيه بين ما يجري من الجانب الفلسطيني الرسمي والجانب «الاسرائيلي» بأنه مواجهة غير مجدية بين الضحية ومصاص الدماء. وما دام الحال كذلك فلا امل في ان تكون المفاوضات المباشرة طريقاً الى السلام لا الى الحرب.

معنى هذا ان «اسرائيل» تخوض المفاوضات غير واثقة من اي من الاطراف المشاركة سواء المباشرة (الفلسطينية) او تلك التي تمثل النظم العربية «المعتدلة» مثل مصر والاردن... وفيما بعد السعودية التي ينتظر ان تشترك ايضاً تحت مزيد من الضغط الاميركي.

فهل نعني بهذا ان «اسرائيل» لا تثق حتى بالطرف الاميركي الذي اتاح لها هذه المفاوضات مع «السلطة الفلسطينية» بلا شروط؟

نعم فإن «اسرائيل» تعلق ثقتها بالولايات المتحدة في هذه المفاوضات الخاصة بفلسطين على النيات الاميركية بشأن إيران والملف النووي الايراني والدعم الايراني لخط المقاومة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 59 / 2165630

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165630 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010