الجمعة 1 كانون الأول (ديسمبر) 2017

استهداف الأوقاف الأرثوذكسية في فلسطين

الجمعة 1 كانون الأول (ديسمبر) 2017 par علي بدوان

أدّت سياسات التهويد والإجلاء والتطهير العرقي والإثني التي مارستها وما زالت سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” في عموم الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 وعام 1967 ومدينة القدس ومحيطها بشكل خاص، بدءا من اجتياح عدد من المؤسسات الدينية المسيحية (والإسلامية أيضا) كدير الآباء البنديكت في جبل الزيتون في القدس باعتباره أول دير احتله “الإسرائيليون” بعد العام 1967، إلى حدوث سيطرة “إسرائيلية” صهيونية على جزء كبير من الأوقاف والعقارات الوقفية المسيحية في فلسطين، وإلى تراجع مطرد في أعداد المسيحيين الفلسطينيين، فيما لوحظ هبوط حضورهم في المدينة المقدسة التي باتت سلطات الاحتلال تريدها مدينة بلا مؤمنين من أبنائها من المواطنين الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وذلك في سياق العملية الاستعمارية الإجلائية التهويدية، حيث تقلصت أعداد المواطنين الفلسطينيين من أبناء الطوائف المسيحية بشكل مُذهل في ظل تهجيرهم القسري تحت وطأة الآلة العسكرية “الإسرائيلية” التدميرية التي استهدفت مواقع تجمعاتهم السكنية في القدس وبيت لحم ورام الله وبيت ساحور وبيت جالا، وداخل مختلف مناطق فلسطين المحتلة عام 1948، فذاقوا كإخوانهم المسلمين عذاب التهجير، والإقامة في المخيمات والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية. وانتشروا في أصقاع العالم بانتظار العودة إلى الوطن المغتصب.
لقد شكّل المسيحيون الفلسطينيون ما نسبته (20%) تقريبا من التعداد العام للشعب الفلسطيني قبل نكبة فلسطين عام 1948. وكان من المُقدر أن تصل أعدادهم إلى ما يقارب مليوني مواطن، إذا ما احتسبنا نسبة التزايد السكاني في صفوف الشعب العربي الفلسطيني، في الداخل والشتات. ولكن وعلى ضوء نتائج النكبة، وما تعرضوا له كما إخوانهم المسلمين من أبناء شعبهم، فإن تحوّلا واضحا طرأ على أعدادهم في فلسطين، حين غادر مُعظمهم أرض فلسطين التاريخية تحت وطأة النكبة والظروف اللاحقة التي توالدت عنها، لتُصبح نسبتهم اليوم في عموم أرض فلسطين التاريخية (أي في المناطق المحتلة عام 1948 + المناطق المحتلة عام 1967 بما فيها القدس) ما يقارب (5%) فقط.
وفي سياقِ عملية التطهير العرقي والإثني التي مارستها دولة الاحتلال بحقِ كل مكونات الشعب العربي الفلسطيني، تعرضت، وما زالت تتعرض الأوقاف المسيحية في القدس وعموم فلسطين التاريخية، وخاصة منها الأوقاف والعقارات العائدة للكنيسة الأرثوذكسية لضربات قاسية، تمثّلت بتسريب عقارات مسيحية كثيرة لجهات “إسرائيلية” استيطانية، حيث تُشير الوقائع الدامغة لتورطِ رجال دين يونانيين في الكنيسة الأرثوذكسية، ممن ساهم وقام ببيع الجزء الكبير من هذه العقارات الوقفية أو تأجيرها لفترات زمنية تصل إلى تسعة وتسعين عاما لحركات الاستيطان التهويدي الصهيونية، ومنها ما حدث في الفترات الأخيرة من بيع لفندق البتراء وفندق الإمبريـال واثنين وعشرين محلا تجاريا في ميدان عمر بن الخطاب عند باب الخليل في القدس القديمة، بالإضافة لبيت المُعظمية في حي باب حطة بالبلدة القديمة وغير ذلك من المساحات التي تصل لنحو (500) دونم حسب المعلومات المتواترة من الجهات المسيحية العربية في فلسطين المحتلة.
كما تم الكشف، وفي الفترات الأخيرة أيضا، عن تسريب وبيع البطريركية لأكثر من (500) دونم في المنطقة المسماة “رحافيا” في القدس الغربية، وبيع حوالي (700) دونم في المنطقة الأثرية في مدينة قيسارية، وبيع ستة دونمات في ميدان الساعة، مركز مدينة يافا التاريخية، وبيع (11) دونما في مدينة طبريا، على شاطئ البحيرة، بمحاذاة الدير في قلب المدينة، وبيع (60) دونما في مدينة الرملة، وهي أراضي أوقاف أرثوذكسية وملك لأبناء الطائفة.
عمليات البيعِ والتسريبِ للأوقاف المسيحية في فلسطين، والأرثوذكسية منها على وجه الخصوص، ليست بالأمر الجديد، بل بدأت عمليا منذ العام 1951 بتسريب بعض أملاك البطريركية في القدس الغربية إلى ما يسمى “الكيرن كايميت” أو “دائرة أراضي إسرائيل”، وقد أتم صفقتها القنصل اليوناني نيابة عن البطركية، ومن المعروف أن هذه الأراضي أقيمت عليها مباني “الكنيست الإسرائيلي”، ومباني رئاسة الوزراء ووزارات “إسرائيلية” ومئات من الشققِ السكنية.
لقد تطور كفاح الشعب العربي الفلسطيني، وسعيه لحماية الأوقاف والعقارات المسيحية والإسلامية عموما، فرؤساء الكنائس العربية المسيحية في القدس يطالبون الآن مباشرةً بتعريب رئاسة الكنيسة في فلسطين والأردن أسوة بكل الكنائس العربية، حيث كان بطاركة القدس الأرثوذكس، ومنذ العهد الأموي كانوا بطاركة عربا، حتى تم تغيير هذا الوضع في العهد العثماني، بحيث أصبح البطرك يونانيا، ثم جرت العادة منذ العهد الأردني، أن يكون البطريرك يتمتع بالجنسيتين اليونانية والأردنية، وأن تعيينه يتم بالتوافق بين الحكومتين.
لكن، ومنذ أكثر من مائة عام، بدأ أبناء الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين، نضالهم لتغيير الاتفاق اليوناني العثماني، وما زالوا يطالبون الآن بتعيينِ بطريرك عربي، وكان يقود هذه الحركة خليل السكاكيني، رجل التربية العظيم قبل نكبة فلسطين، واستمر الحراك الأردني الفلسطيني لمسيحيي الضفتين لتعيين بطريرك عربي، كي تحافظ البطركية على أملاكها، وكي يشعر أبناء الطائفة أن من يقودهم هو “ابن بلد” يعرف آلام وآمال أبناء الطائفة، ويدرك مشاكلهم ويحاول حلها، وهم لا يريدون بطركا مستوردا، لا يعرف حتى لغة أبناء البلد، ويصعب الوصول إليه والتفاهم معه.
إنَّ تعريبِ قيادات الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين مطلب وطني فلسطين خالص، بات الآن ملحا أكثر من أي وقت مضى، لوقف تسريب بيع الأراضي الكنسية للاحتلال “الإسرائيلي”، وهو ما أكَّدَ عليه ودعا له البيان الصادر عن اجتماع رؤساء كنائس الأراضي المقدسة بداية العام 2017، وردهم على التطورات الخطيرة المخفية التي لا تؤثر فقط على المجتمع المسيحي العربي الأصيل في القدس، بل على كل مسيحي في جميع أنحاء العالم، لما لها من أهمية وبعد روحي عميق. كما أكد رؤساء جميع الكنائس العربية والأجنبية في فلسطين في اجتماعهم المشار إليه أعلاه “أن المحاولات لإضعاف المكونات المسيحية بالقدس، لا تؤثر على كنيسة واحدة دون غيرها، بل تؤثر على كافة الكنائس، وعلى جميع المسيحيين في القدس والعالم”. كما وتطرق البيان لسلوك حكومات الاحتلال معتبرا بأنه “يأتي في سياقات السعي لحرمان البطريركية الأرثوذكسية البالغة من العمر 2000 سنة، وكذلك حرمان الكنائس الأخرى الحاضرة على امتداد قرون في الأراضي المقدسة من حريتها واستقلالها المشروعين، ومن دورها التاريخي… ويُشكّل انتهاكا واضحا وخطيرا واعتداءً مرفوضا على حرية العبادة وعلى حقوق الملكية الكنسية”.
أخيرا، إنَّ قضية الأوقاف المسيحية والإسلامية في فلسطين، هي قضية أرض وهوية، لذا فإن قضية بيع أراضي الأوقاف الأرثوذوكسية هي قضية وطنية عامة تخص كل الشعب العربي الفلسطيني على امتداد أرض فلسطين التاريخية، وهو ما أكَّدَ عليه رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس المطران عطاالله حنا أكثر من مرة، وأمام حجاج ومصلين ورجال دين أرثوذكس، حين دعا المسيحيين من أبناء فلسطين في الأراضي المقدسة، إلى “الصمود والبقاء في هذه الأرض والدفاع عن المقدسات والأوقاف”، مُعتبرا أنَّ “المسيحي الفلسطيني كشقيقه المسلم، مدعو إلى أن يبقى ويصمد في وطنه رغم كل الظروف، وأن يساهم في تحرير الوطن والإنسان وبناء الدولة”. وردد المطران عطا الله حنا في عظته قوله “إن تكون مسيحيا فلسطينيا هذا يعني أنك تنتمي إلى الكنيسة الأولى التي أسسها السيد المسيح”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي بدوان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010