الأربعاء 1 أيلول (سبتمبر) 2010

يفضل ان تكون الآسر لا الأسير

الأربعاء 1 أيلول (سبتمبر) 2010

لم تحدث لي صور الفيس بوك للجندية عيدن افرجيل مع المعتقلين الفلسطينيين المكبلين «زعزعة»، مثل أصحاب الردود الآلية من اليسار، الذين شكوا كالعادة من الاحتلال المفسد وتدهورنا الاخلاقي ـ بل أثارت فيّ ذكريات من الجيش. لقد كنت أنا ايضاً ذات مرة عيدن افرجيل : خدمت في وحدة شرطة عسكرية في لبنان، كانت مهمتها قيادة معتقلين من غرف تحقيق «الشاباك» الى موقع السجن الكبير في أنصار. غطيت عيوناً كثيرة بالخرق، وقيدت أياديَ كثيرة بقيود البلاستيك.

لم أعلم قط من كان المعتقلون وماذا كان جرمهم، ولم يرشدني أحد أيضاً إلى كيفية معاملتهم. كان كل شيء مرتجلاً. بينوا لي كيف يربطون القيود والخرقة، ويحملون المعتقلين في الشاحنة الصغيرة او شاحنة السفاري العسكرية ثم ينطلقون. تعلمت سريعاً جداً أربع كلمات بعربية غير فصيحة، يستعملها الجنود لاستعمال الاسرى : «اقعد» و«قوم» و«ايدك» و«اسكت». في قبو تحقيقات «الشاباك» في النبطية في معمل تبغ قديم حول الى قيادة الفرقة الميدانية، رأيت معتقلين يأكلون منحنين وأيديهم مربوطة من وراء ظهورهم، كالكلاب، وشممت عرقهم وبولهم.

لم أر قط «حالات شاذة». لا ضربات ولا صفعات ولا احداث تشويه. لكن القيد يسير في اتجاه واحد، وإذا وثقناه شيئاً ما، بنصف سنتمتر، فان المعتقل يعاني آلاماً فظيعة. تتورم راحتا يديه من الدماء التي تقف، ويصبح السفر كابوساً، وعندها يولول المعتقلون قائلين : «كابتن، كابتن، ايدي، ايدي». كان جنود ربطوا القيد على نحو أقوى. تعذيب صغير من النوع الذي لا يذكر في تقارير «امنستي» و«غولدستون». تعذيب يخضع لتقدير الجندي الفرد، بغير توجيهات من القيادة والنيابة العامة العسكرية. تفريغ لكراهية العرب زمن مهمة عادية.

وكانت إذلالات. لم يجبروا المعتقلين عندنا على أن ينشدوا «أنا بحبك يا حرس الحدود»، كما في المناطق. كانت البدعة آنذاك «يعيش بيغن، مات عرفات». يبدو متأخراً (ان المعتقلين اللبنانيين لم يعارضوا على التحقيق زوال عرفات وربما تماهوا وهذا المقطع من الانشودة).

ذات مرة قمت بعمل بطولي يساري. حرست شاحنة مليئة بالمعتقلين، انتظروا تحت الشمس استيعابهم في أنصار. فجأة ظهر أحد الخادمين في الاحتياط من الزعران، ينتعل نعلين رياضيين وبغير قميص، وأراد أن يظهر على الشاحنة وأن يضرب المعتقلين. قلت له : لا. قام بحركة تهديد. لم أكن أستطيع مواجهته بيدين فارغتين. أعددت السلاح، فأحجم الى الوراء وقال بغضب : «بسبب أناس مثلك تبدو الدولة على هذا النحو».

لا يوجد في تجاربي اي شيء خاص ولا في صور عيدن افرجيل ايضاً. تعرض عشرات آلاف الجنود ممن خدموا في المناطق وفي لبنان، مثل عيدن ومثلي لتجارب مشابهة. هذه هي رتابة الاحتلال : الخرق والقيود والعرق في الشمس، «واقعد وقوم وايدك واسكت». هكذا الحال منذ 43 سنة. عندما يحرس جنود في الثامنة عشرة مع السلاح مدنيين معصوبي العين مكبلي الايدي، ويرون أسرى في عفن البول في أقباء التحقيق، يكون الوضع عنيفاً مذلاً بغير تجاوز للأوامر العسكرية والتعليمات.

لم «يفسدني» الاحتلال، ولا رفاقي في الوحدة. لم نعد الى البيت لنشغب في الشوارع وننكل بالعجزة. شغلتنا مشكلات سن البلوغ أكثر من عدم ارتياح معتقلينا. كذلك لم تتأثر آراؤنا السياسية. من كره العرب من البيت، كرههم ايضاً عندما بدوا مهزومين مساكين، ومن قرأ اوري افنيري قبل أن يجند، آمن بأنه يجب الانسحاب من لبنان والخروج من المناطق حتى عندما شارك مشاركة فعالة في الاحتلال.

لكننا تعلمنا درساً واحداً وهو أنه بغير ما صلة بالسياسة، يفضل أن تكون الآسر لا الأسير. كذلك من يحلم بتسوية دائمة وبدولة فلسطينية ويريد ان تخرب المستوطنات، يفضل أن يربط القيد لا أن يُربط. أن يحرس المعتقل ثم يمضي الى غرفة الطعام، لا أن يأكل منحنياً مكبل اليدين في قاعة عفنة. لم يجعلنا الاحتلال مشاغبين مخلين بالقانون، علمنا فقط أنه يحسن دائماً أن تكون في الجانب القويم.

- [**ألوف بن | «هآرتس» | 1 ايلول (سبتمبر) 2010*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2178084

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2178084 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40