الخميس 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2017

أميركا... انتشار عسكري وانكفاء سياسي

عثمان ميرغني
الخميس 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2017

استناداً إلى أرقام وزارة الدفاع الأميركية وكثير من الدراسات والتقارير المنشورة في دوريات متخصصة أو في وسائل الإعلام الأميركية، فإن الولايات المتحدة لديها وجود عسكري بشكل أو بآخر في 172 بلداً حول العالم، ويوجد نحو 240 ألفاً من قواتها في الخارج اليوم للقيام بمهام متنوعة. هذا الوجود العسكري يشمل مكاتب الملحقيات العسكرية بالسفارات، مثلما يشمل القوات التي تشارك في حماية البعثات الدبلوماسية الأميركية في الخارج، أو تلك التي تشارك في عمليات حفظ السلام. لكن العدد الأكبر من القوات الأميركية في الخارج هو الموجود في القواعد الأميركية المنتشرة في نحو 74 بلداً حول العالم، أو الذي يشارك حالياً في عمليات ضمن الحرب على الإرهاب.

هذه الأرقام لا تشمل بالطبع القوات التي شاركت في ذروة الحرب في أفغانستان والعراق وسحبت فيما بعد، وإلا لأصبحت الأرقام بالملايين. فوفقاً لإحصائيات منظمات قدامى المحاربين فإن إجمالي عدد الجنود الذين شاركوا في العمليات الأميركية في هذين البلدين (منذ 2001 في أفغانستان و2003 في العراق) يبلغ أكثر من مليوني عنصر من جنود القوات المسلحة أو من عناصر الاحتياط أو من الحرس الوطني الذين خدموا فترة واحدة أو أكثر على مدى سنوات الحرب في البلدين، التي كلفت تريليونات الدولارات (يضعها البعض في حدود 6 تريليونات).

حتى بعد سحب أميركا معظم قواتها وتقليص وجودها في إطار اتفاقيات مع حكومتي أفغانستان والعراق، فإن أعداداً كبيرة من القوات الأميركية ما تزال هناك وفي مواقع أخرى حول العالم مكلفة بعمليات ومهام في إطار حرب الإرهاب من سوريا إلى ليبيا، ومن الصومال إلى النيجر حيث قتل في بداية الشهر الحالي أربعة جنود أميركيين في كمين نصبته عناصر موالية لتنظيم داعش في ظروف ما تزال بعض جوانبها غامضة مما أثار أسئلة في وسائل الإعلام التي ضغطت على وزارة الدفاع (البنتاغون) لتقديم المزيد من المعلومات.

في ظل الجدل الذي أثاره مقتل الجنود الأميركيين الأربعة في النيجر، خصوصاً بعدما انتقدت نائبة في الكونغرس الرئيس دونالد ترمب بسبب الطريقة التي وصفت بـ“الفظة وعديمة الإحساس” التي عزى بها أرملة أحد الجنود القتلى، خصصت صحيفة “نيويورك تايمز” افتتاحية في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بعنوان “حروب أميركا الأبدية” تناولت فيه موضوع الانتشار العسكري الأميركي الواسع حول العالم، وحرب الإرهاب وتكلفتها، داعية الكونغرس للقيام بواجبه في تمحيص بعض العمليات الخارجية، والنظر في التخويل المفتوح الممنوح للإدارة الأميركية منذ هجمات سبتمبر (أيلول) الذي جعل الإدارات المتعاقبة ترسل قوات إلى الخارج من دون أسئلة. كما دعت الصحيفة إلى تقييم الانتشار العسكري الواسع خصوصاً في الوقت الذي ترفع فيه ميزانية وزارة الدفاع ويصعّد فيه الرئيس ترمب من لغة التهديد والوعيد.

اللافت أنه في الوقت الذي تتمدد فيه أميركا عسكرياً خصوصاً في ظل حرب الإرهاب، فإنها في ظل الإدارة الحالية تنكفئ سياسيا ودبلوماسيا. فقد استهل ترمب عهده بالانسحاب من اتفاقية الشراكة لدول الباسفيك، ولوح بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا (النافتا) لولا مساعي كندا وبعض الدوائر الأخرى في واشنطن التي جعلته يتراجع عن الانسحاب ويكتفي بالدعوة لمراجعة الاتفاقية.

مسلسل الانسحابات الأميركية من المنظمات والاتفاقيات الدولية تواصل مع إعلان ترمب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وأخيراً مع إعلانه الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو). والتوقعات أن ترمب سينسحب من منظمات واتفاقيات أخرى مستقبلاً لأنه يراها عبئاً على أميركا، أو لا يتفق مع مبادئها ومواقفها، أو لأنه يريد تقويضها لأسباب سياسية أو مصلحية، أو يحاول فقط الضغط عليها لتحقيق مطالبه منها. فهو هاجم مراراً حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى الحد الذي جعل بعض الدول الحليفة مثل ألمانيا وإيطاليا تتحدث عن أن أميركا لم تعد حليفاً يعتمد عليه في ظل الإدارة الراهنة. كما أنه أثار غضب وقلق حلفاء كثيرين في أوروبا بمواقفه المعادية للاتحاد الأوروبي وتأييده للخروج البريطاني منه (البريكست).

بعض مستشاري ترمب كانوا يدافعون عن مواقفه بالقول إن تبنيه شعار “أميركا أولاً” لا يعني أن أميركا ستنكفئ على نفسها في “عزلة مجيدة” جديدة، لكن الرجل أثبت من خلال عدة قرارات اتخذها أنه ليس ميالاً إلى المنظمات والدبلوماسية الدولية، مفضلاً الاستثمار في تعزيز قدرات أميركا العسكرية وفي سياسة التلويح بالعصا الغليظة. هذا الأمر يثير قلق كثير من الدوائر خارج أميركا وفي داخلها أيضاً خصوصا في ظل مواقف ترمب المتشددة أو المباغتة التي يطلقها عبر “تويتر” وميله إلى التلويح بالحرب وباستخدام السلاح النووي مثلما حدث في رده على كوريا الشمالية.

أميركا هي القوة العظمى في العالم اليوم، وأمنها وأمن العالم يعتمد كثيراً على طريقة استخدامها قوتها العسكرية والاقتصادية، وعلى بقائها أيضاً عضواً فاعلاً بإيجابية في المنظمات والدبلوماسية الدولية، بدلاً من الانكفاء والتلويح بالعصا الغليظة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010