الجمعة 15 أيلول (سبتمبر) 2017

ولكن أين التناقض الرئيسي؟

محمد سيد رصاص
الجمعة 15 أيلول (سبتمبر) 2017

في عام 1927 جرت بحار من الدماء بين القوميين الصينيين في حزب «الكيومنتانغ» والشيوعيين. في تموز1937 غزت اليابان الصين. وضع زعيم الحزب الشيوعي ماو تسي تونغ تلك الدماء على الرف، ودعا إلى تشكيل جبهة وطنية متحدة مع «الكيومنتانغ» ضد اليابانيين. من أجل تقديم التسويغ السياسي لهذا التحول الدراماتيكي، كتب ماو نصاً في شهر آب 1937 تحت عنوان «في التناقض»، يمكن أن يُعد، مع كتاب مكيافللي «الأمير» وكتاب ماركس «الثامن عشر من بروميرلويس بونابرت»، من أفضل النصوص لتعليم السياسة. يقول ماو في ذلك النص ما يلي: «عندما تشن الإمبريالية حرباً عدوانية على بلد... فإن الطبقات المختلفة في هذا البلد، باستثناء حفنة من الخونة، يمكن أن تتحد مؤقتاً كي تخوض غمار حرب وطنية ضد الإمبريالية، وحينئذ يصبح التناقض بين الإمبريالية وذلك البلد التناقض الرئيسي، فيما تصبح مؤقتاً جميع التناقضات بين مختلف الطبقات داخل ذلك البلد في مركز ثانوي وتابع». تشارك الشيوعيون والقوميون لثمان سنوات في مقاومة اليابانيين، وبعد هزيمة طوكيو عام 1945 ساهمت أجواء الحرب الباردة، بما فيها الدعم الأميركي لزعيم «الكيومنتانغ» شيانغ كاي شيك في عودة المواجهات المسلحة بين الشيوعيين والقوميين منذ كانون الأول من عام 1947 حتى استطاع الشيوعيون الانتصار بالربع الأخير من عام 1949 ودحر «الكيومنتانغ» الذي لجأ زعيمه ومعه ملايين من أتباعه إلى جزيرة تايوان.

في ذلك النص، يحدد ماو التناقض الرئيسي بحسب كل مرحلة: ضد الخارج الامبريالي ثورة وطنية، ضد المرحلة ما قبل رأسمالية ثورة ديموقراطية، وضد السيطرة الرأسمالية ثورة اشتراكية.
في عامي 1863 ـ 1864 اعترض ماركس على سياسات زعيم الاشتراكيين الألمان فرديناند لاسال الذي اتجه إلى التحالف مع المستشار البروسي بسمارك والجيش والإقطاعيين (اليونكرز)، متوقعاً أن هذا سيقود إلى استحالة قيام ثورة ديموقراطية ألمانية تضم العمال والفلاحين والبورجوازيين الليبراليين من أجل ضرب العلاقات والبنى الما قبل رأسمالية في ألمانيا وإنهاء سيطرة الإقطاعيين والنبلاء على جهاز الدولة، ورأى أن وقوف الاشتراكيين وراء «الإقليم ـ القاعدة»، أي بروسيا، من أجل تحقيق الوحدة الألمانية سيقود إلى انسداد أفق الثورة الديموقراطية الألمانية على طراز ثورتي 1688و1789 الإنكليزية والفرنسية، وبالتالي انسداد أفق الثورة الاشتراكية الألمانية التي يعتبرها أنها لا يمكن أن تتم إلا بعد استنفاذ المرحلة الرأسمالية، وهذا واضح عنده منذ عام 1848 في «البيان الشيوعي». صحيح أن ماركس رحب بالوحدة الألمانية عام 1871 واعتبر بسمارك «يقوم بجزء من عملنا»، إلا أن اعتراضاته على لاسال كانت تحوي تنبؤات عن مستقبل أسود ألماني كان تجسيدها الأكبر أدولف هتلر، أو كما عبر جورج لوكاتش في «تحطيم العقل»: «العلة المركزية هي، بعد عام 1848 كما قبله، ذهنية الخضوع التي هي ذهنية الألماني المتوسط، كما هي ذهنية أكبر مثقفي هذا البلد... بما أن الوحدة القومية لم تفتح بثورة، بل فرضت من فوق، فقد بقي هذا الوجه في سيكولوجيا وأخلاق الألمان، إن صح القول، بلا تغيير». في هذا الكتاب يحاول لوكاتش تفسير نشوء ديكتاتور وحشي عند الألمان، مثل هتلر، في بلد أفرز مفكرين إنسانيين كبار مثل غوته وفنانين عظام كبتهوفن، ويرى أن السيكولوجيا والثقافة كانا عاملين مساعدين على ملاقاته لأرضية اجتماعية قوية لحزبه النازي. على الأرجح لو كان إدراك لاسال مثل ماركس في إدراكه أن التناقض الرئيس ليس «الوحدة القومية» بل «الثورة الديموقراطية»، لكان من الممكن تحقيق الأولى بعد الثانية ولكان بالإمكان تفادي شلال دماء البشرية في الحربين العالميتين. هنا، لم يكن عند الشيوعيين العرب ذلك الإدراك الذي كان عند ماو تسي تونغ لـ«التناقض الرئيسي»: في نيسان 1948 كان المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا مصطفى السباعي ضمن قوات جيش الإنقاذ التي كانت تقاتل في معركة القسطل قرب القدس مع عبد القادر الحسيني ضد الصهاينة، بينما كان الشيوعيون العرب يصدرون بياناً بتأييد قرار تقسيم فلسطين، وهو ما رماه ظهير عبد الصمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري عام 1971 بوجه خالد بكداش أثناء مداخلته في المجلس الوطني للحزب: «ليس صحيحاً ما قيل في التقرير السياسي الذي ألقي أمام المؤتمر الثالث للحزب عام 1969 من قبل الأمين العام أننا لم نؤيد التقسيم... هناك بيان موقع من أربع أحزاب شيوعية تؤيد التقسيم» («قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري»، دار ابن خلدون، بيروت 1972، ص272)، وذهب الشيوعيون العراقيون في يوم 11 حزيران 1948 في نص بعنوان «ضوء على القضية الفلسطينية» إلى القول «بأن لهذا الشعب الاسرائيلي الجديد الحق في تقرير مصيره» وإلى وصف منظمتي «الإرغون»، بزعامة مناحيم بيغن، و«شترن»، بزعامة إسحق شامير، بأنهما «منظمتان تقدميتان» (حنا بطاطو: «العراق: الكتاب الثاني...الحزب الشيوعي»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت1992، ص 258-259). لم يكن ستالين معجباً بماو تسي تونغ، وضغط عليه كثيراً، ولكن ماو كان وطنياً ثم شيوعياً، واستخدم الماركسية لتحرير بلده من الأجنبي ثم لتحريرها من التخلف وإنهاضها وتحديثها، لذلك لم يكن خاضعاً لتوجيهات ستالين، بينما كان الشيوعيون العرب حتى عام 1947 ضد الصهيونية وضد قرار تقسيم فلسطين، وعندما استدار السوفيات وغيروا موقفهم يوم قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 قاموا بالاستدارة على الإيقاع السوفياتي. لم يدركوا ما أدركه الياس مرقص وقاله عام 1970 في كتابه «نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن» عندما قام بتحديد إسرائيل ككيان وظيفي للامبريالية العالمية للهيمنة على العرب، وهو عندما يقول بالوحدة العربية فإنه لا يربطها لا باللغة ولا بالثقافة المشتركة، كما يفعل القوميون العرب، أو يشرطها بالاقتصاد المشترك، كما فعل بكداش متأثراً بنظرية ستالين حول «الأمة»، بل يحددها، كوحدة عربية، مكتسبة لمضمون واحد تؤدي إن تحققت كهدف إلى انجازه وهو «سقوط وضع التجزئة الامبريالي...» من أجل كسر (مصالح الامبريالية الثلاث: كيانات التجزئة، الهيمنة على البترول، إسرائيل)، (مرقص: «المرجع المذكور»، دارالحقيقة، بيروت 1970، ص301). هنا يقوم الياس مرقص بتحديد التناقض الرئيسي: «الامبريالية ومظاهرها الثلاث».
يمكن من خلال «التناقض الرئيسي» تحديد من هو «تقدمي» ومن هو «رجعي» بعيداً عن اصطفافات «اليمين» و«اليسار» وبعيداً عن معايير «الحداثة» و«التخلف»: وفق هذا المعيار عند الماركسيَّين، ماو تسي تونغ والياس مرقص، فإن مصطفى السباعي هو أكثر تقدمية في عام 1948 من خالد بكداش.
أيضاً ووفق هذا، فإن الشيوعيين العراقيين في فترة تموز 1958 ــ آذار 1959 لما أفشلوا انضمام العراق للوحدة السورية ــ المصرية، أو جعل بغداد في حالة اتحادية مع القاهرة وبغداد، كانوا رجعيين، وبالتأكيد كان أيزنهاور في واشنطن وماكميلان في لندن وشاه إيران وعدنان مندريس في أنقرة وبن غوريون في تل أبيب يصفقون لهم في قلوبهم، ولا يكفي هنا وقوف خروتشوف معهم لنفي ذلك ولا المنجل والمطرقة. لو حصلت عملية التقاء دجلة والفرات والنيل لما كانت حصلت عملية انفصال 1961 ولا هزيمة 1967 ولا حرب العراق وإيران في الثمانينيات ولا اجتياح الكويت ولا احتلال العراق، ولما كان هناك تنامياً لقوى الجوار العربي في طهران وأنقرة وأديس ابابا، وعلى الأرجح كانت إسرائيل ستنتهي أو على الأقل كان ظهرها سيكون للحائط، وكان الأكراد العراقيون سيستوعبون في الإطار الجامع. في حرب انفصال الجنوب اليمني عام 1994 كان علي عبدالله صالح أكثر تقدمية من زعيم الانفصال الماركسي علي سالم البيض. هنا أيضاً لا يمكن قياس «حزب الله» في لبنان من خلال «عدم وجود كأس البيرة» أو «التنورة القصيرة» في الضاحية الجنوبية لبيروت بل من خلال بوصلة واحدة هي التناقض الرئيسي الذي اسمه اسرائيل. أيضاً لا يمكن فقط قياس السيد حسن نصرالله من خلال علاقته بإيران أو من خلال مذهبه الشيعي بل أساساً من خلال كونه أكثر عربي كان مؤلماً لإسرائيل منذ يوم الجمعة 14 أيار 1948 لما أعلن ديفيد بن غوريون قيام تلك الدولة. وعملياً فإن شخصية مثل سمير جعجع هي متفاعلة أكثر مع الثقافة الحديثة من كثير من المقاومين المتدينين في جنوب لبنان في فترة 1982 ـ 2006، إلا أن إدراك التناقض الرئيسي هو الذي يحدد أن أولئك المتدينين هم أكثر تقدمية من شخص عصري وحداثي كان في تنظيم «القوات اللبنانية» الذي كانت تربطه خيوط تحركه من تل أبيب منذ عام 1976، كما أن علمانيته ليست ناتجة عن إيمان من قبله بها بل عن وظيفية يمكن أن يستخدمها فيها لحماية طائفته أو لإضعاف الطوائف الأخرى، وهو ما يشاركه في تلك الوظيفية الكثير من طارحي العلمانية العرب الراهنين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165427

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165427 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010