السبت 9 أيلول (سبتمبر) 2017

بعد اندحار «داعش» في العراق وسوريا

السبت 9 أيلول (سبتمبر) 2017 par د. عصام نعمان

مع اندحار تنظيم «داعش» في حلب والموصل ودير الزور، يندحر التيار الفكري والسياسي الداعي إلى إقامة «دولة إسلامية ثيوقراطية»، وينتعش تيار الدعوة إلى الدولة المدنية. دعاة الدولة المدنية كثر، لكنهم منقسمون إلى مدارس وتيارات شتى. منهم ليبراليون، وإسلاميون معتدلون، وعلمانيون متطرفون، وآخرون عقلانيون.

يشكل الموقف من الدين وعلاقته بالدولة مسألةَ الخلاف والاختلاف الرئيسية بين مختلف دعاة الدولة المدنية. فريق من هؤلاء يرفع شعار «فصل الدين عن الدولة». فريق آخر يدعو إلى «فصل الدولة عن الدين». ما الفارق بين الشعارين، وأيهما اكثر التصاقاً، وبالتالي تعبيراً عن حاجات المجتمعات العربية؟
يعود تاريخ «فصل الدين عن الدولة» إلى زمن انهيار السلطنة (وبالتالي الخلافة) العثمانية في الحرب العالمية الأولى 1914-1918 وانبثاق النظام الجمهوري في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك، وفريقه من الضباط المتأثرين بالغرب الأوروبي. مفكرون، ودعاة إصلاح عرب متأثرون بصعود الليبرالية والحركات القومية في أوروبا من جهة، ومن جهة أخرى بالماركسية التي انتصرت بالثورة البلشفية في روسيا، دعوا أيضاً إلى فصل الدين عن الدولة كعلاج للطائفية والمذهبية المتفشيتين في بلدانهم.
وتمكن العلمانيون، بشتى تياراتهم وفئاتهم، من بناء تنظيمات قومية واشتراكية متماسكة عابرة للطوائف، وقادرة على الفعل، والتأثير، وعلى الوصول إلى السلطة وتحقيق إصلاحات محدودة.
التياران العلماني، والإسلامي السلفي ظلا متكافئين في الانتشار إلى أن وقعت هزيمة العرب بقيام دولة «إسرائيل» العام 1948. فقد ثارت نتيجةَ ردود الفعل الغاضبة في سوريا ومصر والعراق شرائح من الضباط الساخطين، وضعوا أيديهم على هياكل السلطة في بلدانهم وانتهجوا، بمقادير متفاوتة، خطاً متعرجاً من التغيير أحدث بعض الإصلاحات، إنما اتسم بكثير من التسلط والتحكم. ومع وقوع الهزيمة الثانية النكراء العام 1967 اهتزت الأنظمة العسكرية، وأخذت تتهاوى أركانها الواحدة تلو الأخرى، إلى أن تساقط معظمها مع اندلاع ما يُسمى «الربيع العربي».
في هذه الأثناء، ونتيجةَ هزيمة العام 1967، انتعش التيار الإسلامي السلفي بمختلف فئاته، وكان بعضها قد تواصل مع الولايات المتحدة التي تجاوبت معه، ووجدت في الإخوان المسلمين التنظيم القادر على وراثة نظام حسني مبارك المتهاوي.

«إسرائيل» لم تكن بعيدة عن دعم بعض التنظيمات السلفية المتطرفة، مباشرة أو مداورة، في إطار مخططها القديم الداعي إلى تفكيك دول الجوار إلى جمهوريات موز متنازعة، مبنية على أساس قبلي، أو إثني، أو مذهبي، وعاجزة تالياً عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متماسكة في وجهها. أبرز هذه التنظيمات السلفية وأقواها كان «داعش» الذي تمكن منتصفَ العام 2014 من إعلان «دولة الخلافة الإسلامية» في الموصل التي امتدت على نحو ثلث مساحة العراق، وثلثي مساحة سوريا.
إذ تسقط دولة الخرافة «الداعشية» في سوريا والعراق، ينتعش مجدداً دعاة الدولة المدنية بشتى مدارسهم وتياراتهم. صحيح أن سقوط «داعش» لا يعني نهاية خط الإسلام السلفي، المعتدل والمتطرف. ذلك أن بعض القوى والتنظيمات المنتصرة عليه ينادي أيضاً بدولة إسلامية، وبعضها الآخر بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية(؟). غير أنه من الأكيد أن أغلبية القوى المنتصرة على «داعش» وأمثاله، لا تؤمن بشعار فصل الدين عن الدولة. هذا الواقع يضع أنصار الدولة المدنية أمام تحد ماثل يقتضي التعامل معه بكثير من الجدية والمرونة في آن.
لعلني من أوائل الداعين إلى الاستعاضة عن شعار «فصل الدين عن الدولة» بشعار، بل فصل الدولة عن الدين. ذلك أن الدولة، بما هي مسرح أهل السياسة وأداتهم، هي التي تستخدم الدين في عالم العرب وتوظف رجاله وأشياخه، وحتى علمائه لأغراض سياسية، وليس العكس.
الدين حاجة روحية كيانية لا يمكن إلغاؤه، بل لا سبيل إلى فصله عن مختلف مناحي الحياة. غير أن الدين كإيمان لا يتطلب من المؤمنين بالضرورة التدخل في السياسة أو تعاطيها. صحيح أنه يمكن، وربما يجب، استلهام قيم الدين ومثله العليا في العمل العام، لكن ذلك لا يستوجب استخدام رجال الدين، والعصبيات الدينية في السياسة، والحكم.
إن فصل الدولة عن الدين، أي عن التدخل في شؤون الناس الخاصة، وفي الامتناع عن استخدام الدين ورجاله، والعصبيات الدينية في الأنشطة والقضايا السياسية، يُحقق حياد الدولة بين المذاهب الدينية، ويكفل التعايش الاجتماعي فيما بينها، ولاسيما في المجتمعات التعددية.
أجل، مطلوب دولة مدنية لا تعتنق مذهباً دينياً معيناً، ولا تتعاطى الأمور الدينية، ولا تستخدم العصبيات الدينية والمذهبية في الشؤون العامة، وفي برامجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
مطلوب دولة مبنية على أسس الحرية، وحكم القانون، والعدالة، والتنمية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 35 / 2165355

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عصام نعمان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165355 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010