الجمعة 18 آب (أغسطس) 2017

فلاديمير.. من بقجة لاجئ

الجمعة 18 آب (أغسطس) 2017 par د.احمد جميل عزم

راحل آخر، تَعرِف أعماله، ولا تعرفه. تبحث عنه، تصيبك دهشة أُخرى.
وجدَ أحد العاملين في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، نحو العام 1949، علبة ألوان مائية في المساعدات المرسلة للاجئين، داخل قطعة القماش التي توضع المساعدات فيها (البقجة). أثار الأمر سخريته؛ ما يحتاجه اللاجئ، الطعام والكساء. وكانت العلبة من نصيب فلاديمير تماري، ابن السابعة حينها.
عندما تلقى ألوانه المائية الأولى، كانت ذاكرة فلاديمير، تختزن البيت القرميدي الكبير، الذي عاش ثلاثة أجيال من عائلته فيه، في يافا، ثم الهرب إلى لبنان، العام 1948، والعودة لرام الله، حيث امتزجت عنده مشاهد روابي المدينة، والزهور البرية، وكروم العنب، مع الحياة الدينية الشبيهة بحياة القرون الوسطة، في القدس، القريبة. وبدأ يرسم، ومما احتفظ به رسومات كاريكاتورية مما التقطه في مهرجان رام الله العام 1965.
عندما وقعت حرب العام 1967 كان قد أتّم دراسة الفيزياء في الجامعة الأميركية في بيروت، وأمضى وقتاً يدرس الفنون في لندن، وفيلادلفيا الأميركية، وانضم للأنروا، في قسم التعليم والإعلام، فصوّر فيلماً لآلاف اللاجئين (النازحين) يعبرون نهر الأردن هرباً، ومزرعة مزّقتها قنابل النابالم، وأم تصرخ بحثاً عن ابنتها الضائعة، في مخيم لاجئين.
قاده ولعه بالخط العربي لمحاولة اختراع خط للطباعة، أسماه “القدس”. وساعد منى السعودي، لإخراج كتاب من رسومات أطفال مخيم البقعة في الأردن العام 1970. قبل هذا، وأيضاً لولعه بالخط، حاول تطوير شعار بسيط للمقاومة الفلسطينية. وفي زمن لم يكن الفرق بين “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية واضحاً، طور شعاراً يقوم على استخدام حرف الفاء يتصل به سهم، يتجه نحو خارطة فلسطين. أرسله للمنظمة، ولم يتلقَ ردّاً. ثم وصل الاقتراح لغسان كنفاني، الروائي والقائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبحرف جيم وسهم صار شعار الجبهة.
تزوج كيوكو اليابانية، وذهب في العام 1970 لليابان فيما ظن أنّها مرحلة قصيرة، ولكنه أمضى عمره هناك.
عندما كنتُ أصطحب أستاذاً انجليزياً من جامعة إدنبره الاسكتلندية، في روابي رام الله، وكان يخبرني ضاحكاً عن أخطاء المغاربة في اللهجة عندما يقلدون المصريّة، توقف فجأة وقال لي إنّ تمازج أشعة الشمس لديكم مع الأرض والصخر ينتج لوناً جميلاً للغاية.
وعى فلاديمير الأمر لدرجة غيّرت حياته؛ فتحدث في مقال عن مزيج سطوع الشّمس مع الجو غير الملوث، في فلسطين، ما خلقَ وُضوحاً مريحاً للرؤية، ومجالاً للإنسان ليجلس بعد يوم عمل لشرب قهوته والنظر للمدى، مُلقياً خلف ظهره أمواج الغُزاة الذين مروا بهذا البلد. ومن هنا فإضافة لرسم الملصقات الفلسطينية، واللوحات المائية، فَكّر، كيف يمكن أن يرسم بما يعكس إحساسه بالمَشاهد، فاخترع آلة رسم للأبعاد الثلاثية (3D)، قبل البِدء باختراع تلسكوب للفضاء، وآلات لقياس ورسم الظلال تبعاً لتباينها أثناء النهار.
عندما جاء بتصريح زيارة مع زوجته وابنتيه منى ومريم العام 1976، اعتقل على الجسر. غمّوا عينيه وقيّدوه، ووقف جنديان، إلى يمينه ويساره، وبنادقهما مُشرَعَة، ولتهدّئ الأم اليابانية الطفلتين، غنت ترنيمة يابانية. وأطلق سراحه بعد ثلاثة أيام اعتقال ولم يسمح له بالبقاء في فلسطين.
جاءت مريم لرام الله بعد أن صارت مغنية أوبرا، تدربت في باريس. تتحدث عن زيارتها في فيلم قصير، بإنجليزية بمسحةٍ يابانية. تذهب لزيارة بيت أهلها في يافا، تجد رقمه 47. تُخاطب إسرائيلية أمام المنزل، وتُخبرها “أنا أصلاً من هنا”. وتسألها لماذا تستخدمون البيت؟ فترد، بارتباك، ويهود البيت المجاور ينظرون، “لعِلاج المُدمنين”.
وتذهب مريم، ربما لسدّ دين علبة الألوان المائية، لمخيم شعفاط، قرب القدس، تُدرب الفتيات على الموسيقى. وقبل العرض تركض فتاة صغيرة، تأتي بقلادة مكسورة من بيتها فيها علم فلسطين، وتهديها إياها، فتختزنها مريم كِنزاً. وقبل غنائها في رام الله، يصبح هاجسها اليومي “ماذا نفعل (للوضع في فلسطين)؟”. وفي يوم العرض تريد تقليص التوتر، فتأتي بقصفة ياسمين من شجرة زرعتها جدتها، لتشعر بروحها معها. وتغني الأوبرا، بثوب أحمر جميل، وتغني “يُما مويلي الهوى..”.
مات قبل أيام صاحب البيت رقم 47 في يافا بعد 47 عاما في اليابان، مُخلفاً إرثاً من الفن العربي والفلسطيني، والاختراعات والعشق الصوفي بألوانه وكلماته، لتكتشف وتُضاف لسفر العودة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 58 / 2165282

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165282 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010