الجمعة 17 آذار (مارس) 2017

المثقَّف الفدائي…وتقرير شابيرا!

الجمعة 17 آذار (مارس) 2017 par عبداللطيف مهنا

ما أرعبهم هو ما تصفه مصادرهم بـ”تحقيق مفهوم المقاومة”، ويعنون رسوخ ثقافتها لدى شعب عُرف بها، ولم يكتموا ذهولًا وانشداهًا إزاء عناد شعب جعلت منه التحديات الوجودية المحيقة صانعًا مبدعًا لأدواته ومفاجآته النضالية، المستندة إلى تراكم كفاحي عمَّده صمود أسطوري، يغترف من معين إيمان لا يحد بالتضحية كقيمة وطنية من أجل وطن لا بد وأن يحرر ويستعاد كاملًا والعودة لكامله…
استوقفني في الأسبوع المنصرم حدثان ربما بدا للكثيرين أنهما منفصلان، لكنني لم أجد ما يصرفني عن التفكُّر مليًّا فيما قد يربط بينهما. إنهما تقرير مراقب الدولة في الكيان الغاصب يوسيف شابيرا حول القصور الذي اعترى أداء جيشه إبان الحرب العدوانية الثالثة على غزة عام 2014، التي تؤشر هذه الأيام على أنها لن تكون الأخيرة، واستشهاد المناضل المطارد باسل الأعرج، وهو يواجه بفدائيةٍ عُرف بها قتلة “فرقة يمام” الاحتلالية الخاصة بتنفيذ الإعدامات الميدانية بحق المناضلين الفلسطينيين في مدينة البيرة، التي أصبحت الآن جزءًا من مدينة رام الله… من لا يرى رابطًا بين هذين الحدثين سوف يواجهني بمنطق فحواه:
بالنسبة لتقرير شابيرا، فالأمر لا يخرج عن تقليد عند هذا العدو ودرج عليه، وهو مسارعته لتشكيل لجنة تحقيق تعقب كل حالة إخفاق لجيشه في مطلق حرب عدوانية لا تأتيه بأكلها من تلك التي يشنها عادةً على العرب، والهدف الرئيس عنده من ذلك هو تلمُّس أسباب تعثُّر استهدافات ذاك العدوان، بغية استخلاص الدروس لتجنُّب تكرار مسببات الفشل في مرات لاحقة، ومن بعده تأتي مسألة محاسبة من يتحمَّل تعثُّرها. مثلًا، حدث مثل هذا عقب آخر الحروب مع الجيوش العربية عام 1973، وفشل حربه على المقاومة اللبنانية العام 2006… من منا لا يذكر لجنة “اجرانات” مثلًا. يضاف إليه، أن هكذا تقارير سرعان ما تدخل بازار المنافسات والمزايدات والمناكفات بين رموز وقوى المستوى السياسي والعسكري في هذا الكيان، وعليه، يطول أمد علك أصدائها فيه.
أما بالنسبة لاستشهاد فتى قرية “الولجة”، الشهيد البطل باسل الأعرج، وهو يواجه مطبقًا نظريته حول “القتال الفردي” ترسانة عدوه بما ملكت يمينه من سلاح فردي حتى ارتقائه سنام الخلود في “البيرة”، فهذه باتت من يوميات الفلسطيني، لا سيما في زمن “انتفاضة الفدائيين”. وأيضًا من يوميات السياسة الاحتلالية التي تطارد المقاومين وتصفّيهم عبر الإعدامات الميدانية إن تمكنت من ذلك. يشجِّعها على ذلك حالتان، فلسطينية وعربية، تسمحان به، وثالثة دولية تغطي عليه وتعصم القتلة حتى من مجرَّد اللوم، ولا نقول الإدانة… كله صحيح، لكنما طبيعة عدونا تجيز ربطًا بين الحدثين وفي مسألتين:
أولاهما، أن التقرير، والذي لم يقدِّم في هذه المرة توصيات، وأثره حتى الآن القضاء على المستقبل السياسي لجنرالين هما وزير الحرب السابق موشيه يعلون، ورئيس الأركان إبان الحرب بني جاتس، وخروج نتنياهو وليبرمان منه بأقل الخسائر، ورابحه الوحيد نفتالي بينت، نرى أن أهم نتائجه كانت فيما خلقه من جدل بات الآن سيد لحظتهم، وأفضى بهم لاستخلاصات قضَّت مضاجعهم، جوهرها عجز منظومتهم العسكرية والأمنية الهائلة، والتي يعتدون بها، في مواجهة مقاومة محاصرة ومستفرد بها كما لم يسبق وأن أُستفرد بمقاومة عبر التاريخ، وتحيط بها ظروف موضوعية بلغت من السوء ما يجل عن الوصف، ناهيك عن عدم التكافؤ الصفري المعروف، الأمر الذي يعني للمستخلصين اتضاح هشاشة كيانهم المُفتعل مهما بلغ من القوة، باتضاح أن أول ما يطرحه انعدام التكافؤ مع القدرة الغازية على الشعوب المناضلة من تحديات مصيرية هو ذاته ما يدفعها لأن تنتج، وبالضرورة، المذهل من الابتكارات النضالية المبدعة والمفاجئة… كان سيد استخلاصاتهم التي حباهم به تقرير شابيرا، هو أن الأنفاق وحدها قد غيَّرت قواعد الاشتباك، وترقى إلى مستوى الخطر الاستراتيجي…
ما أرعبهم هو ما تصفه مصادرهم بـ”تحقيق مفهوم المقاومة”، ويعنون رسوخ ثقافتها لدى شعب عُرف بها، ولم يكتموا ذهولًا وانشداهًا إزاء عناد شعب جعلت منه التحديات الوجودية المحيقة صانعًا مبدعًا لأدواته ومفاجآته النضالية، المستندة إلى تراكم كفاحي عمَّده صمود أسطوري، يغترف من معين إيمان لا يحد بالتضحية كقيمة وطنية من أجل وطن لا بد وأن يحرر ويستعاد كاملًا والعودة لكامله…
يقولون مثلًا: لقد “توقَّف كل شيء في غزة، إلا حفر الأنفاق، الذي يستمر العمل فيه على مدار الساعة، وبدون توقُّف بالمرة”… وهنا نأتي إلى ثانيتهما، إلى الشهيد القائد، والمثقَّف العضوي والفدائي المشتبك مع عدوه الذي ما انفك يقاومه، رافضًا مهادنته ومن هادنوه… من عُرف بمنظِّر “القتال الفردي”، والمقاومة الفطرية”، والقائل: “كل ما تدفعه في المقاومة، إذا لم تحصده في حياتك ستحصل عليه لاحقًا. المقاومة جدوى مستمرة”… إلى الشهيد باسل الأعرج، الذي سبق وأن جرح بسلاح شرطة السلطة، ومن اعتقلته مع رفاقه وأفرجت عنهم بعد ستة أشهر لإضرابهم المعروف عن الطعام ليعتقلهم الاحتلال ما عداه، إذ اختلط بدمه الزكي الطهور في “البيره” خريطة العودة، وعدَّل بفدائيته البوصلة الهادية إلى ذات الدرب المفضية إليها، هذه التي عبَّدها من سبقه من أبرار لم تنقطع قوافلهم وامتدت لقرابة قرن مضى… وإذا كانت الفلسطنة ليست زمرة دم وإنما هوية نضالية، فإنه لا من مستحق لأن ينسب إليها إلا من سار على ذات الدرب النضالية ولم يلتفت…
…ترجَّل باسل “الولجة” تاركًا وصيَّته التي مارسها لمن يلتقطون الراية وهم سيل لا ينضب:
“لا تعتد رؤية الصهيوني، حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله أبناء غزة حينما يشاهدون صهيونيًّا، يركضون باحثين عن حجر لرجمه به”… لذا حرصوا على إعدامه ميدانيًّا وأردوه وهو يقاومهم، فجاز لنا أن نربط بين استشهاده واستخلاصات تقرير شابيرا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 45 / 2165371

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عبداللطيف مهنا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165371 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010