الجمعة 10 آذار (مارس) 2017

“في البدء كانت الكلمة”.. الشهيد الأعرج أنموذجا

الجمعة 10 آذار (مارس) 2017 par د. فايز رشيد

حتى اللحظة, فإن تعريفا محددًا للمثقف لم تجرِ صياغته, انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر إليه من خلالها, انطلاقا من رؤية دوره, إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي أو في سياسة التغيير المجتمعي, فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف, ومن بينهم ابن خلدون, الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل (أصحاب القلم) و(الفقهاء) و(العلماء)..
عندما يتجسد القلم .. رصاصة, يعني أن تكتب كلمات وصيتك بالرصاص, الذي يتزنر بمداد ما كنت خططته قبلا من كلمات, وبخاصة عندما تطلقه مقاومًا لعدوك. إنها معادلة الرصاصة والكلمة… هذه التي تصحح مسار السلاح, ليكون رصاصات وخناجر وسكاكين يواجه بها شعبنا عدوه الصهيوني. زاوج شهيدنا البطل باسل بين مهمة المثقف الثوري, الذي عبّأ جيلا من الشباب, ليحدّدوا معالم اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو, ويمارسونها فعلًا, لا قولًا فقط.. والمقاومة بالرصاص. وهو مارسها بدمه, إنه المقاتل الثوري الذي يصنع التاريخ والأمل بانتصار شعبنا وأمتنا… بدءًا من الشهداء: عبدالرحيم محمود وغسان كنفاني, مرورًا بكمال ناصر ووائل زعيتر وناجي العلي, وصولا إلى باسل الأعرج.
إن بعض مدّعي معرفة النهج الماركسي في التحليل, يعتبرون تقديم “الكلمة”, تغليبا للمثالية على المادية الجدلية كرؤى تحليلية!! إن هذا فهم أجوف تقويلي ناتج عن ذهنية مضطربة, وتخيلي رؤيوي “للحقيقة”, متخيّلة في عقول أصحابها! إن نمّت عن شيء, فإنما عن ضحالة معتنقيها وسطحيتهم, تماما مثل الذين يأخذون عليك استشهادك بمقولة للخليفة الفاروق “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”. إنه اعتبار الشكل وتغليبه على الجوهر والمضمون. هذا في الوقت الذي أوصل فيه الفهم “الصوفي” للماركسية, أصحابه إلى الجحيم, وأودى بهؤلاء المتجمدين في برد وثلوج سيبيريا, ومقلديهم في بقاع كثيرة من العالم, إلى هاوية السقوط في بئر سحيقة العمق. وإلا ماذا تعني تعابير مثل: الفكر الثوري التحرري؟ الأدب المقاوم والفن المقاوم؟ ماذا يعني أدب مكسيم غوركي ولوركا وناظم حكمت وغسان كنفاني, ومحمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زياد ولويس أراجون وبابلو نيرودا وغيرهم وغيرهم؟
نعم, في البدء كانت الكلمة, وهي المرتبطة في كل حروفها بما يكتبه المثقف الثوري, وما يخطّه الآخرون من فكر تنويري تحرري مقاوِم, إنهما يشكلان معا حبل التواصل مع الحياة, هما جسر التفاهم مع الحضارة والتاريخ والمعرفة والعلم. هما قبل كل شيء .. حياة. أمتنا العربية ازدهرت حياتها الأدبية حتى في العصر الجاهلي, ولهذا اشتهرت أسواق الشعر: عكاظ, مجنة وسوق ذي المجاز. جاء الإسلام وكانت الآية الكريمة التي ابتدأت بكلمة: “اقرأ”. النبي الكريم عليه السلام حضّ على طلب العلم ولو في الصين. الحضّ على المعرفة دعت إليه كل الأديان, وكذلك الشرائع غير السماوية, من شريعة أورنامو مرور بشريعة آشنونا ووصولا إلى شريعة حمورابي, وكذلك البوذية.
حتى اللحظة, فإن تعريفا محددًا للمثقف لم تجرِ صياغته, انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر إليه من خلالها, انطلاقا من رؤية دوره, إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي أو في سياسة التغيير المجتمعي, فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف, ومن بينهم ابن خلدون, الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل (أصحاب القلم) و(الفقهاء) و(العلماء) والذي أفرد فصلا كاملا من مقدمته لهم, كما تطرق إلى مراحل نمو الدولة وعن سمات العقلية العربية.
ولعل من أقرب التعريفات إلى الواقع, ما ذكره “غرامشي” في تعريفه لمعنى المثقف, لذا يرى المثقف, من خلال وجوده الاجتماعي… وإذ ذاك فإن نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي والوطني التحرري، كما في الحالة الفلسطينية, هو الذي يعيد صياغة المثقف عند المفكر الإيطالي. غرامشي لا يرى المثقف إلا في وظيفته النضالية, التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير… وهكذا دواليك. ووفقا لجمال الدين الأفغاني، فإن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من أجل تفسير النبل الإنساني وإضاءة الطريق لأبناء أمته, على قاعدة التمتع بالروح النقدية الفلسفية, واستخدامها في مراجعة الماضي.
والمثقفون مرتبطون أيضا في نتاجاتهم بمدى معايشتهم للواقع من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه, على طريق تغييره. من أجمل من كتب في ثقافة المقاومة, كل الأسماء التي ذكرناها قبلا في سياق هذه المقالة. ظلّ كل هؤلاء خالدين, أكثر من أي سياسيين، سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم, وذهب الذين أعدموا البعض منهم واغتالوهم وأسيادهم, إلى مزابل التاريخ, ومن لم يذهب منهم بعد, سينصرف حتما كالعدو الصهيوني الذاهب حتما إلى مجارير العالم. لوركا كان يلقي شعره في لحظة إعدامه. بابلو نيرودا وعندما جاء قطعان بينوشيت (بعد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي) جاؤوا ليفتشوا بيته بحثا عن السلاح؟ طردهم وقال جملته الشهيرة: سلاحي هو شعري. كازانتزاكيس يقول عن المقاومة, وعلى لسان الراهب “ياناروس” في رائعته “الإخوة الأعداء” , ذلك بعد أن فشلت كل دعواته إلى: الإخاء والمحبة والسلام من إخراج المحتلين لأرضه ووطنه اليوناني, وصل إلى نتيجة مفادها: “أيتها الفضيلة تسلّحي.. أيها المسيح تسلّح.. إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان “إنجيلا مسلحا”.
يقول محمود درويش “هزمتك يا موتُ الأغاني… في بلاد الرافدين.. مسلّة المصريّ, مقبرة الفراعنة, النقوشُ على حجارةِ هيكلٍ.. وانتصرتْ.. وأفلتَ من كمائنك.. الخلودُ… فاصنع بنا… واصنع بنفسك ما تريدُ.. هكذا يكون الارتباط بين الفكر الثوري المقاوم والرصاص, وقد جسّد الشهيد بدمه هذه المعادلة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2165442

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع فايز رشيد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165442 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010