الجمعة 27 كانون الثاني (يناير) 2017

ما بين «الإخصاء» السياسي و«الاستنقاع»

الجمعة 27 كانون الثاني (يناير) 2017 par راسم عبيدات

كلّ الدول العربية والسلطات الحاكمة بما فيها السلطة الفلسطينية قيد التشكّل مارست الإقصاء السياسي بحقّ خصومها السياسيين، أو حتى من تعتبرهم خطراً على وجودها ومصالحها وأمنها، بما في ذلك داخل إطار الحزب الحاكم. والحزب الواحد. و«الإخصاء» السياسي يكون من خلال شنّ حملات تحريض وتشويه على الخصوم السياسيين، من أجل التشكيك بمواقفهم ومعارضتهم وخلق صورة مشوّشة وسيّئة عنهم، أو من خلال تطويعهم ودفعهم لمغادرة العمل السياسي أو الجماهيري أو الحزبي، أو التوقّف عن نقد السلطة ومهاجمة مواقفها واتفاقيّاتها ورؤيتها السياسية، أو شنّ حملات فضح وتعرية لأجهزتها وطريقة قياداتها وأدائها إلخ… والطريقة الأخرى لممارسة هذا «الإخصاء»، هي لجوء السلطة الحاكمة إلى شراء الذمم للخصوم السياسيّين، أو من يُراد تطويعهم وإخراجهم من دائرة الكفاح والنضال والفعل الشعبي والجماهيري، عبر استيعابهم في أجهزة السلطة ومؤسّساتها، وإعطائهم المناصب والرُّتب والرواتب، وبالتالي يصبحون جزءاً من منظومة السلطة الحاكمة، وأوضاعهم وظروفهم الاقتصادية تتحسّن تبعاً للرواتب التي يتلقونها من السلطة، وبذلك قدرتهم على ممارسة النقد أو الاعتراض على سلوك ومواقف السلطة تصبح ضعيفة، أو حتى معدومة، فالراتب والوظيفة والموقع كلّها عوامل من شأنها شلّ القدرة على القيام بأيّ فعل أو نشاط معارض، أو حتى اتخاذ مواقف متناقضة مع مصالح السلطة القائمة أو حتى الحزب والتنظيم، وقد لاحظنا ذلك فلسطينيّاً في المؤتمر السابع لحركة فتح، فهناك الكثير من الكوادر التي لم تُدعَ للمشاركة في المؤتمر، حكم موقفها الراتب والوظيفة والتزمت الصمت، وهذا ينطبق على العاملين في مؤسسات السلطة المدنية والأمنيّة. ولذلك عندما يجري الحديث عن عدم تحوّل الهبّات الشعبية المتلاحقة في القدس والضفة الغربية إلى انتفاضة شعبية تخرج من دائرة الفعل الاشتباكي القاعدي والعفويّة إلى انتفاضة شعبية شاملة، مؤطّرة ومنظّمة ولها قيادة وهدف، تحمل مشروعاً وبرنامجاً سياسياً، نرى بأنّ ذلك يصطدم بسلطة لا تتبنّى هذا الخيار، بالإضافة إلى أنّها نجحت في خلق طبقة اجتماعية من داخل السلطة وخارجها 180 ألف موظف ربطت مصالحهم وأرزاقهم بمؤسّسات النهب الدولي من صندوق نقد وبنك دوليَّين، ولذلك هذه الطبقة تجد الأولويّة للحفاظ على مصالحها والدفاع عنها، وتصبح غير معنيّة بحدوث انتفاضة شعبية. أي هي تقايض الحقوق الوطنية بالمصلحة الاقتصاديّة، أو تختزل الموقف الوطني والحلّ السياسي، حتى لو هبط سقفه كثيراً في موقف ورؤية السلطة وبرنامجها. وهنا تتعرّض للإخصاء مرّتين مرّة بأنّها أصبحت رهينة لمؤسّسات النهب الدولية، ومرة أخرى بالتنازل عن مواقفها ومبادئها السياسية لصالح حماية مصالحها ووليّ نعمتها.

نعم، نحن عربياً وفلسطينياًً نعيش حالة واسعة وكبيرة من «الإخصاء» السياسي، في ظلّ وجود قوى وأنظمة تمارس الإقصاء والديكتاتوريّة وقمع الحريات ومصادرة الحقوق بحق شعوبها وخصومها السياسيين. وهذه الحالة من القمع والإقصاء تدفع بالخصوم والجماهير إمّا إلى التمرّد والثورة، وهذا بحاجة إلى حواضن وأحزاب ومؤسّسات، تؤطّرها وتقود نضالاتها. وهذه الأحزاب والقوى، هي الأخرى تعاني من أزمات عميقة غير قادرة على الفكاك منها، أو هي غير جاهزة أو قادرة على تحمّل أعباء النضال والتغيير. وفي ظلّ غياب القوى والأحزاب القادرة على القيادة وتحمّل كلفة أعباء النضال والتضحية، نجد بأنّ الغالبية الكبرى من الجماهير تجنح نحو الاستكانة والخضوع، أو تصبح جمهور صامت يمارس النقد والمعارضة والشتم في سرّه أو أمام شاشات الفضائيات، أو عبر الأدعية والدعاوي، أو أنّ قسماً من الجماهير يندفع نحو التطرّف الديني والمذهبي، ويرى بأنّ الحلّ فقط من السماء وليس الأرض.

السلطة تصبح قدرتها على ممارسة «الإخصاء» السياسي على نطاق أوسع وبأشكاله المختلفة، عندما تفقد المعارضة السياسية بألوانها المختلفة القدرة على طرح البديل، القادر على انتشال البلد من أزماتها السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية، نحو بديل يغيّر هذه الأوضاع للأفضل، وبما يصون الحقوق والكرامات.

عندما تصبح السلطة والمعارضة وجهان لعملة واحدة، ويصبح هناك تماهٍ كبير بين مواقف السلطة والمعارضة، باستثناء الخلاف في الإطار الشكلي والشعاري، فإنّ الجماهير تصاب بخيبة أمل وإحباط وتتعزّز حالة فقدان الثقة ما بين الجماهير وتلك الأحزاب، وتتّجه نحو اللامبالاة وربما الخنوع، مع ملاحظة بأنّ الطاقات الشبابيّة الكامنة المندفعة والحاملة لفكر وطني، والرافضة للذلّ والمهانة، والتنازلات عن الحقوق الوطنية، تنتظم في حراكات شبابية، وتقود هبّات شعبية تفشل في تحويلها إلى انتفاضة شعبية شاملة، في ظلّ غياب التأطير والتنظيم والقيادة والهدف الواضح والمحدّد، تعلو تلك الهبات حيناً وتهبط حيناً أخر، مع البقاء في الإطار المكاني المحلّي، ارتباطاً بشدّة حالة القمع والتنكيل التي يمارسها المحتلّ بحق شعبنا الفلسطيني.

وهنا تصبح حالة نسميها بـ«الاستنقاع»، الأزمة الشموليّة العامّة التي تُصيب السلطة والمعارضة معاً، وحتى الجماهير الشعبيّة، وهذه الأزمة جزء مرتبط منها بحالة «الإخصاء» السياسي الممارَس من قِبَل السلطة، والجزء الآخر مرتبط بقوى البديل والتغيير، والتي بسبب أزماتها العميقة، أصبحت غير قادرة على ممارسة دور البديل في الواقع العملي وعلى أرض الواقع، وبالتالي الجماهير عزفت وابتعدت عنها ولم تعد برامجها ومواقفها جاذبة لها، وهي تصبح أحزاباً طاردة بدلاً من أن تكون بؤر وأطر جذب للجماهير.

وهذا التوصيف ينطبق بشكل كبير على الحالة الفلسطينية الآن، حيث نجد أنّ الانقسام القائم منذ أكثر من عشر سنوات، يتشرعن ويتأبّد، وتفشل كلّ الجهود والمبادرات واللقاءات في إنهائه، وأزمة النظام السياسي الفلسطيني تتعمّق، وكذلك يزداد الصراع ما بين طرفي الانقسام فتح وحماس على سلطة منزوعة الدّسم، فيما الفصائل الأخرى تفشل في الدفع بِاتجاه إنهاء الانقسام وتتعمّق أزمتها هي الأخرى، ولتصبح الحالة الفلسطينية بنظامها السياسي الشمولي مأزومة، تفقد الشرعيّة وتتآكل هيبتها والثقة بها عند الجماهير، لكي يصبح المطلوب للخروج من حالة «الاستنقاع»، الأزمة الشمولية، ثورة شاملة تطال النظام السياسي الفلسطيني كاملاً، منظمة وسلطة وأحزاباً، لكي نكون أمام نظام سياسي متجدّد قادر على الدفاع عن حقوق شعبنا الفلسطيني وحمايتها كشعب وقضية وحقوق من خطر التشظّي والتفكّك والاندثار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2176715

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع راسم عبيدات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2176715 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40