الجمعة 20 كانون الثاني (يناير) 2017

مراكز الفكر.. بديلنا للتحليل الاستراتيجي

الجمعة 20 كانون الثاني (يناير) 2017 par محمد سليم قلالة

لا تكفي الهيئات الاستشارية الرسمية ولا الفرق المؤقتة التي تُنصب بين الحين والآخر للتفكير في مستقبل أي من قطاعاتنا الاستراتيجية أو مستقبلنا مهما كان، كما لا تكفي الجامعات ومخابر البحث التابعة لها للقيام بذلك حتى وإن اشتغلت بكفاءة عالية... نحن اليوم بحق في حاجة إلى مراكز تفكير مستقلة تُنير لنا سيناريوهات المستقبل وتُرشدنا إلى اتخاذ أفضل القرارات، خاصة وأن مشكلاتنا بدأت تتحول بالتدريج إلى مشكلات مركبة لا يَنفع معها التفكير البسيط فما بالك المسطح أو الهامشي في بعض الأحيان...

مساهمة مراكز الفكر في صناعة القرارات ورسم الاستراتيجيات في مختلف بلدان العالم لم تعد تخف على أحد، في ظل التقلبات السياسية الداخلية وعدم الاستقرار الخارجي لم تعد الهيئات التقليدية ـ الاستشارية التي تُنشئها الدول ـ قادرة على المساعدة على رسم سياساتها العامة حتى وإن اشتغلت بكفاءة، بالنظر إلى حجم التهديدات والمخاطر التي أصبحت تُحدِّق بالجميع والصعوبات البيروقراطية والتنظيمية التي عادة ما ترافق نشأة مثل هذه الهيئات والمنظمات الرسمية، لذا لاحظنا أن أكثر الدول قدرة على التحكم في سياساتها الخارجية والداخلية هي تلك التي تستند إلى هيئات شبه مستقلة وأحيانا مستقلة تماما لمساعدتها على مواجهة التحديات المتوقعة في المستقبل.

وبرغم وضوح هذا الاتجاه في أكثر دول العالم تقدما وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتكر أكثر من 70 بالمائة من هذه المراكز، مازلنا نحن لا نمتلك حتى الإطار القانوني الذي يُمكِّنها من أن تعمل، فباستثناء قانون الجمعيات أو المؤسسات الوطنية ليس لدينا ما يمكن أن يَحكم تأسيس مثل هذه المراكز خارج نطاق المؤسسات الحكومية التي بدأت في الآونة الأخيرة تفكر في مثل هذا الأسلوب من العمل.

ولعل هذا ما جعلنا في كثير من الأحيان لا نجد ذلك الرأي الثالث العلمي أو غير المرتبط لا بالمؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية الذي يساعدنا في الإجابة على كثير من الاسئلة، التي ترافق المشكلات التي نعرفها إن على الصعيد الاقتصادي أو السياسي والاجتماعي والثقافي، فباستثناء الآراء الحكومية، وباحتشام شديد أراء معارضة لها، لا يجد المواطنون وخاصة الباحثون منهم وأصحاب الكفاءات المختلفة فضاءات للتعبير عن مواقفهم أو تقديم ما يرونه من حلول، وقد لاحظنا كيف أن الصحافة الوطنية تحاول في بعض الأحيان حل هذا الإشكال من خلال فتح منابر للتفكير في بعض الإطارات المستقلة، إلا أن هذا يبقى مجالا محدودا وغير قادر على استيعاب الدور الذي ينبغي أن تقوم به مراكز الفكر أو ما يعرف في الأدبيات الأنجلوسكسونية بالـ (Think tank) والتي تعني بالترجمة الحرفية “دبابات الفكر”، وهو معنى قريب جدا من حقيقة ما تقوم به باعتبارها تقتحم الميادين الأكثر صعوبة وتُعبّد الطرق بها، لكي تبدو في أنقى صورها للسياسي أو رجل الأعمال أو المستثمر الاقتصادي أو غيرهم.

لماذا نفتقر نحن لذلك؟ وما الذي يَمنعنا من فتح هذا المجال لباحثينا الوطنيين وما أكثرهم، وما المانع من أن تُصبح مثل هذه المؤسسات ذات وزن في اتخاذ القرار الوطني؟

يبدو أنه بإمكاننا أن نستثمر في هذا الاتجاه، وبدل أن نبقى فقط أسرى بعض المجالس والهيئات الاستشارية كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي أو الأكاديميات المرتبطة بهذه الهيئة أو تلك في مجالات الاقتصاد أو السياسة أو الاستراتيجية أو الثقافة أو اللغة، علينا أن نُسارع في إيجاد الإطار القانوني لمثل هذه المراكز الخاصة، التي بدون شك سيكون لها إسهام معتبر في القرار الوطني.

لقد هالني أن وجدت الجزائر في مؤخرة الترتيب في هذا المجال عالميا في جميع محاولاتي لترجمة وتلخيص التقارير التي يصدرهاJames G. McGann “جيمس ماكغين” خاصة عن مراكز الفكر في العالم Global Go To Think Tank Index Report ليستفيد منها طلبتنا، وذلك منذ سنة 2009 إلى آخر تقرير صدر في 2016 ، (متوفرة عبر الأنترنت لمن أراد الاطلاع عليها)، حيث إن الدول المتقدمة تحتل المرتبة الأولى تليها الدول الأقل تقدما وهكذا، وقد تأسفت أن أصبحت بعض الدول الافريقية تحتل مراكز متقدمة مقارنة بنا في هذا المجال، وأن ما تم أخذه بعين الاعتبار ضمن هكذا مراكز في بلادنا هو فقط حكومي ولا يمكن أن يؤدي الدور الذي تقوم به المؤسسات الخاصة في هذا المجال.

صحيح هناك بعض المخاطر الأمنية التي يُمكن أن تنشأ من انتشار مثل هذه المراكز في بعض البلدان، خاصة إذا ارتبطت بأخرى في الخارج، ولكن هذا التخوف لا يمنعنا من تأسيسها بخبراء وطنيين مستقلين وما أكثرهم وإدراجها (وفق أطر قانونية معينة) ضمن شبكة للتفكير هدفها دعم المؤسسات الحكومية بآراء مستقلة ومُستخلصة وفق التحليل الأكاديمي غير الرغبوي والذي لا يساير الاتجاه العام أو يحاول تبرير السياسات المُتَّبعة من قبل الجهاز التنفيذي أو الهيئات الاستشارية التابعة للحكومة.

وأعتقد أنه سيصبح بإمكاننا التعرف على تصورات أخرى لحلولنا المختلفة، لو كانت لدينا مثل هذه المراكز، وبدل أن نبقى ضمن ثنائية الحلول (حكومة ـ معارضة) أو أحادية الحلول (حكومةـ حكومة) ـ سنتحول إلى حالة من التعرف على بدائل مختلفة في سياساتنا الداخلية والخارجية، وأظن أننا سنتمكن بهذه الكيفية من التفكير بطريقة مختلفة ستكون أوسع وأكثر تنوعا في مجال التربية والثقافة والتوازن الإقليمي والسياسة الخارجية ومواجهة الأزمات المحيطة بنا أو استباقها.

ولعلنا بهذه الكيفية سنُساهم في التحول من حالة التفكير البسيط في المسائل المُركبة (Problèmes Complexes ) المختلفة إلى حالة التفكير المتعدد الأطراف والقائم على منهجيات مختلفة، ولا بأس حتى على منهجيات متضاربة ما دمنا نسعى للتعرف على أفضل البدائل.

لقد مكنت تقارير مراكز بحث في البلدان المتقدمة، ولا أريد أن أُحدِّد مركزا بذاته (خاصة تلك التي أصبحت تُشغِّل أكثر من 1000 باحث في الولايات المتحدة خاصة)، من توجيه السياسات الداخلية والخارجية لدول بأكملها، برغم ما تملك من برلمانات ومن مستشارين ومن هيئات رسمية بها كفاءات لا يُستهان بها، ذلك أن المسألة اليوم لم تعد تتعلق بالاستناد فقط إلى “الرسميين” لإعداد السياسات بل تعدت إلى اللجوء إلى الآخرين الأكثر تحررا والأقدر على مقاربة المشكلات من زاوية خالية من الضغط الرسمي.

وهو ما ينبغي علينا الاهتمام به إذا أردنا أن نَمنع على أنفسنا الوقوع في أي من أشكال الانسداد (في التحليل) التي عادة ما نقع فيها نتيجة أحادية التفكير أو حتى ثنائية التفكير، المرحلة اليوم هي للتفكير المُرَكَّب والمستقل الذي يعتمد العبر تخصصية (Transdisciplinarité) في التحليل باعتبارها الأداة المنهجية الوحيدة للاستشراف والتفكير في المستقبل.

لقد مكنت تقارير مراكز بحث في البلدان المتقدمة، ولا أريد أن أُحدِّد مركزا بذاته خاصة تلك التي أصبحت تُشغِّل أكثر من 1000 باحث في الولايات المتحدة خاصة، من توجيه السياسات الداخلية والخارجية لدول بأكملها، برغم ما تملك من برلمانات ومن مستشارين ومن هيئات رسمية بها كفاءات لا يُستهان بها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2165543

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165543 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010